• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الدُّعاء.. عبادة خالصة وحاجة فطرية

الدُّعاء.. عبادة خالصة وحاجة فطرية

◄الدُّعاء حاجة فطرية عند الإنسان، فرداً وجماعة، هو جزءٌ من الحياة، ومن دورتها، فنحن ندعو الله عزّوجلّ في الليل أو النهار، وفي أيِّ ساعةٍ نريد، ولا نحتاج إلى مقدِّماتٍ أو تمهيدٍ. يكفي أن ترفع يديك وتنصب وجهك ثمّ تفتح الخطّ مع المولى تعالى، هو هذا الحبل الممدود بين الله وعباده، والذي لا ينقطع أبداً. والدُّعاء دائماً له هدف وغاية، ولا فرق بين حاجةٍ صغيرةٍ تطلبها، وترجو أن يحقِّقها الله لك، أو حاجة كبيرة. عندما ترفع يديك وتدعو أو تتضرّع، أو تبتهل وتتوسّل، جهراً أو سرّاً، ففي كلّ الحالات، أنت تدقّ باب الله، تفتح معه خطّاً، تفتح معه حديثاً، وتخاطبه، بصرف النظر عمّا جئت تطلب.

إنّ الله لم يضع شروطاً مسبقةً ومواصفات محدّدة، أو دفتر شروط للدُّعاء، فالباب مفتوح ومتاح للجميع، فالمنافق بإمكانه أن يدعو كما يفعل المؤمن، والحريص أو البخيل يسأل الله كما يسأله الفقير والمسكين، وقد يطمع مَن هو على باطلٍ في زيادة منافعه، فيُدلي بدلوه في مواسم الدُّعاء.

وحتى على صعيد اللغة والموقف، لا ضرورة لأن يكون الدُّعاء بالفصحى أو فيه بلاغة وسجع أو شعر. لقد فتح الله باب الدُّعاء لنا من دون أيِّ تكلفةٍ قد نحسبها عندما نخاطب بعضنا بعضاً، أو عندما نطلب حاجةً من أحدهم.. يمكنك أن تدعو سرّاً أو جهراً، في الصلاة أو في السيّارة، وبكلّ ما يخطر في بالك.

في شهر رمضان، يطيب الدُّعاء ويكثر، فقد ورد في تراثنا أدعية نهارية وأُخرى لليل، كدعاء الافتتاح ودعاء السَّحر، وأدعية ليلة القدر وإلى ما هنالك. وهذا كلّه ممّا نسأل الله أن يتقبّله من المؤمنين والمؤمنات. ولكن، ما نريد أن نلفت إليه، أنّ دائرة الدُّعاء ومخاطبة الباري أوسع ممّا ورد من الأدعية في مفاتيح الجنان أو الصحيفة السجادية، مع اعتزازنا بما ورد فيها من أدعيةٍ تشكّل زاداً معرفياً راقياً، إضافةً إلى الزاد الروحي المنقول عن رسول الله (ص) والأئمّة (ع)، لأنّ العلاقة والتخاطب والمناجاة بين المخلوق وخالقه لا تُحَدّ بحدود، هي بعدد أنفاس الخلائق. ونحن في هذا الإطار، عندما نقرأ هذه الأدعية، علينا أن لا نحوِّلها إلى مجرَّد قراءةٍ ميكانيكية، بل يجب أن نعيشها، أن نطعّمها بما نريد أن نضعه بين يدي الله.

وفي موضوع استجابة الدُّعاء، نرى أنّ بعض الناس يتعقدون، نظراً إلى أنّهم يدعون ويدعون، ولكن لا يجدون سؤلهم، وهذه نقطة جديرة بالطرح. فصحيح أنّه لا آلية محدَّدة في مخاطبة الله، ولا دفتر شروط لشكل الدُّعاء ولغته وتوقيته ومناسبته، ولكنّ الشرط الوحيد هو في النية والقصد، فتأشيرة دخول أيّ دعاءٍ ملكوت الله هي النية.

 

أُمور تساهم في تحقيق الدُّعاء

وعلى مَن يريد أن يُستجاب دعاؤه، أن يعي عدّة أُمورٍ تساهم في تحقيق هدف الدُّعاء ـ وهذا ليس وصفةً جاهزةً، لكنّها محاولة للوصول إلى جوهر الدُّعاء ـ.

من هذه الأُمور التي يجب أن تدخل في قصد الإنسان:

* أن يدعو الإنسان ربّه وهو موقنٌ بالإجابة، فلا يسأل الله أن يُيسِّر له فرصة عمل، وفي الوقت نفسه، يرى أنّ هذه الفرصة مربوطة بقرارٍ من فلانٍ من الناس، متناسياً أنّ الله فوق ذلك كلّه، وأنّه هو من يهيِّئ الأسباب التي نعلمها والتي لا نعلمها ولا نحتسبها. من هنا، على المرء أن يصفّي نيته وسريرته بينه وبين نفسه، وليس بالضرورة أن يذكر هذا في ما يتلفَّظ به، بل عليه أن يوقن أنّ الله هو المنتهى، وهو القادر على كلِّ شيء. وورد في الحديث: «إذا دعوت فاقبل وظنّ أنّ حاجتك بالباب».

* أن يدرك الداعي ويقتنع بأنّ الله، كما أنّه لا يعاجل الناس بالعقوبة لحكمةٍ منه، فهو قد لا يعاجلهم بالعطاء والنِّعمة لحكمةٍ أيضاً، وهذا التأخير قد يكون امتحاناً: «ولعلّ الذي أبطأَ عنِّي هو خيرٌ لي لعِلمِكَ بعاقبةِ الأُمور...».

* أن لا يكون ممّن يشكِّلون مشكلةً لغيرهم أو مجتمعهم، ثمّ يأتي ليدعو ويسأل الرزق من ربّه، بل على الإنسان أن يصلح ما بينه وبين الناس أوّلاً، ليصلح الله بينه وبينه، ويفتح له الطريق الموصل الى رحمته واستجابته، لهذا كان في الدُّعاء أيضاً: «اللّهُمّ اغفرْ لي الذنوبَ التي تَحبِسُ الدُّعاءَ»، فالحلّ بيدك، حتى لا تصبح أعمالك سدّاً بينك وبين الله.

* أن يعرف الداعي الله حقَّ معرفته، أن يعرفه معرفةً عميقةً وليس معرفةً سطحيةً أو شكلية، لا يمكن أن تكون عابداً لله إلّا إذا كنت تعرفه، ولا عبادة من دون معرفة، والدُّعاء بابٌ من أبواب معرفة الله، والتخلّق بأخلاقه. وقد ورد في حديثٍ عن الإمام الصادق (ع)، وقد سأله قوم: ندعو فلا يُستجاب لنا، فقال: «لأنّكم تدعون مَن لا تعرفون».

 

جوهر الدُّعاء

وهنا نخلص لنقول إنّ الدُّعاء عبادة خالصة، ولو لم يكن فيها مصلحة للإنسان، لما فتح الله له هذا الباب من أبواب رحمته، لذلك دعانا إلى أن نسأله ونلجأ إليه سبحانه في الشدّة والرخاء، في الخوف والأمن، وفي العُسر واليُسر، ففي حديث قدسيّ، يقول رسول الله (ص): «عبدي تعرّف إليَّ في الرخاء أعرفك في الشدّة». ولا ينبغي لأحدٍ أن يتوهَّم أنّ الدُّعاء معناه أن تطلب من الله سبحانه حاجةً دنيويّة يتعسِّر الحصول عليها، أو أن تطلب من الله أن يساعدك في الخروج من ضيق، أو عسرة أنت فيها... هذا تصوّرٌ يمسخ مفهوم الدُّعاء، يحجِّمه. الدُّعاء عبادة، علاقة، مناجاة، والعبد لا يتوجَّه إلى الله بوصفه سبحانه مكتب خدمات. جوهر الدُّعاء أنّه عبادة كباقي العبادات، بل هو مخّ العبادة، كما ورد في الحديث، لكن من دون طقوسٍ ولا مواقيت. ►

ارسال التعليق

Top