• ٢٥ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٣ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

قواعدُ لحفظ المجتمع

قواعدُ لحفظ المجتمع

◄أراد القرآن الكريم أن يبيِّن من خلال آياته عدّة قواعد لابدّ من أن تحكم المجتمع المؤمن وتشكّل أساساً وقاعدةً له، منها:

حفظ كرامة الإنسان

القاعدة الأولى: حفظ كرامة الإنسان في هذا المجتمع، فهو لم يجز المسّ بها أو النيل منها أو إهدارها تحت أيّ اعتبار. ومن أبرز الموارد التي تحفظ كرامة الإنسان، عدم الافتراء عليه لتشويه صورته وإسقاط موقعه في نفوس الناس.

ومع الأسف، بتنا نجد مثل هذا السلوك في واقعنا، من الذين يعمدون إلى تشويه صورة من يخالفونهم في الدِّين أو المذهب أو السياسة، أو مَن يرونهم مزاحمين لهم أو منافسين، بأن ينسبوا إليهم أفعالاً لم يفعلوها، أو أقوالاً لم يقولوها، أو يخرجوا كلامهم عن سياقه، أو بتقطيع كلامهم، أو بإظهارهم بمظهر غير لائق، أو بطمس صفات أو أدوار إيجابيّة قاموا بها...

وقد جاء التحذير في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة من انتهاج هذا الأسلوب، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً) (الأحزاب/ 58).

وفي الحديث: «إذا اتّهم المؤمن أخاه، إنماث الإيمان من قلبه كما ينماث الملح في الماء».

وقد ورد في الحديث: «خمسٌ لا كفَّارةَ لهم: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرَّم بغير الحقّ، والفرار من الزّحف، والبهتان»، والبهتان هو الافتراء.

وفي الحديث عن رسول الله (ص): «ألا أنبئكم بشراركم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «المشّاؤون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبّة، الباغون للبراء المعايب».

وفي الحديث: «مَن بهت مؤمناً أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس فيه، أقامه الله تعالى يوم القيامة على تلٍّ من نار، حتى يخرج ممّا قاله فيه».

العدالة للجميع

أمّا القاعدة الثانية، فهي أنّ العدالة في هذا المجتمع للجميع، وهي ليست للبعض دون البعض الآخر، فالعدالة في نظر الإسلام لا تتأثّر بعاطفة حبّ أو بُغض أو هوى لاختلاف في الدِّين أو المذهب أو الموقف السياسي، ولا تخضع لموازين القوى أو موازين المال أو السلطة، فالعدالة هي فوق كلّ اعتبار. هذا ما دعا الله إليه عندما قال:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) (النِّساء/ 135)، ثمّ يقول: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النِّساء/ 135). وعندما قال عزّوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/ 8).

وقد كانت وصيّة الإمام عليّ (ع) لولديه الحسن والحسن (ع): «أوصيكما بتقوى الله في الغنى والفقر، وكلمة الحقّ في الرِّضى والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وبالعدل على الصديق والعدوّ».

وقد رأينا كيف أنّ القرآن الكريم يتحيّز لليهودي المظلوم على حساب المسلم الظالم، في الوقت الذي كان هناك أكثر من سبب يدعو ليكون الحُكم لحساب المسلم:

السبب الأوّل، هو أنّ اليهودي الذي دافع القرآن الكريم عنه، هو من يهود المدينة المعروفين بعدائهم لرسول الله (ص) وللمسلمين، والذين لم يدَعوا فرصةً للتآمر عليهم إلّا وقاموا بها، حتى نزلت فيهم الآية: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) (المائدة/ 82).

وسبب آخر، هو أنّ مَن نزلت الآية لتدينه هو من الأنصار الذين أووا رسول الله (ص) ونصروه، وقدَّموا التضحيات من أموالهم وأنفُسهم لحماية الإسلام، وهذا الاتّهام قد يؤدِّي إلى ردّ فعل سلبيّ من قبلهم تجاه رسول الله (ص)، في ظلّ العصبيّات العشائريّة والقبليّة التي كانت لاتزال فاعلة في الواقع الإسلامي المستجدّ، وقد يؤدِّي إلى إعادة التوتر بين الأوس والخزرج الذين كان بينهما عداء مُستحكم قبل الإسلام، لكون السارق من الأوس، وصاحب الدرع من الخزرج.

وبالتالي، وفق المعيار السياسي، لم يكن ثمة مصلحة لكي تنزل الآيات الكريمات لتبيِّن براءة اليهودي وافتراء المسلم، ولكنّ مقياس الإسلام ومعياره، ورسالة رسول الله (ص)، إنّما يقوم على أساس الحقّ والعدل.

عدم الدفاع عن الفاسدين

أمّا القاعدة الثالثة، فتتّصل بتوجيه المجتمع المسلم إلى عدم الدفاع عن أيّ شخص يخون أمانته، فيسرق أو يتّهم بغير حقّ، حتى لو كان من أقرب الناس إليه.

ولتبيان أهميّته، كان الخطاب لرسول الله (ص): (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً) (النِّساء/ 107). وإلى الذين دفعتهم عاطفتهم للدفاع: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) (النِّساء/ 109).

إنّ الالتزام بمثل هذا السلوك، هو الذي يردع السارقين والفاسدين عن سلوكهم، فهم يرتدعون عندما يقاطعهم المجتمع، ولا يرون أحداً بجانبهم يبرّر لهم أعمالهم وسلوكهم، كما يحصل في واقعنا، عندما نبرّر للزعماء والشخصيّات التي تسرق وتفسد وتُسيء إلى مصالح الناس. وقد حمّلنا الله سبحانه وتعالى كمجتمع هذه المسؤولية، عندما قال: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (هود/ 113).

وعن رسول الله (ص): «إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: أين الظَّلَمة وأعوانهم، ومَن لاق لهم دواة، أو ربط لهم كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم». كما قال الإمام عليّ (ع) لولديه الحسن والحسين (ع): «كونا للمظلوم عوناً وللظالم خصماً».►

ارسال التعليق

Top