• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أهميّة التخطيط وتدبّر العواقب

أهميّة التخطيط وتدبّر العواقب

◄حتى لا نقع في العواقب غير المحمودة يجب أن نركّز على أهميّة تدبّر الأُمور وتعقلها، فالمطلوب التأني في حركتنا ومواقفنا بعيداً عن الارتجالية كي نضمن سلامة ما نقوم به أو نفكّر فيه، فالمؤمن مَن يدرس الأُمور بعمق ويتدبّرها ولا يكون إنساناً عاطفياً تحرّكه الانفعالات والعناوين والشعارات من هنا أو هناك، بل ينطلق بذهنية التخطيط وينفتح على التجارب .

في حديث الإمام الصادق (ع) قال: «إنّ رجلاً أتى إلى النبيّ (ص) فقال: يا رسول الله اوصني، فقال له رسول الله (ص): فهل أنت مستوصٍ إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم يا رسول الله، فقال له رسول الله (ص): فإنّي أُوصيك، إذا أنت هممت بأمر فتدبّر عاقبته، فإن يكن رشداً فامضه، وإن يكن غياً فانته عنه».

لقد أراد رسول الله (ص) أن يجعل من هذه الوصية التي تنفتح على كلّ حركة الإنسان في أقواله وأعماله وعلاقاته وانتماءاته، على مستوى الدُّنيا والآخرة، برنامجاً عملياً للإنسان طيلة حياته، وهذا ما ينبغي لنا أن نتحرّك فيه. فالمسألة من خلال هذه الوصية، هي أنّ الأُمور، كلّ الأُمور، لا يمكن أن تحكم عليها ببداياتها، بل بنهاياتها، لأنّ الشيء ربّما يكون خيراً في أوّله، ولكنّه يكون شرّاً في آخره، وقد يكون العكس. ولذلك، لابدّ للإنسان من أن يتدبّر أمره في كلّ ما يريد القيام به قبل أن يبدأ بالعمل، ليعرف مداخل الأُمور ومخارجها، ومصادر الأُمور ومواردها، وليعرف النتائج السلبية أو الإيجابية الناجمة عن القيام بهذا العمل أو ذاك. ولا تنحصر هذه المسألة بحياة الإنسان الشخصية، بل تشمل أيضاً أوضاعه في القضايا العامّة، فالإنسان، مثلاً، إذا أراد أن يدخل في الحياة الزوجية، فعليه أن لا يدرس الأُمور بشكل سطحي، من خلال جمال مَن يريد أن يتزوج به، رجلاً أو امرأة، أو من خلال بعض القضايا الجاذبة التي لا تمثّل أي عمق في حركة الحياة.

على الإنسان أن يعي أنّ العلاقة الزوجية هي علاقة تستمر مع الإنسان طول عمره، بحيث يصبح فيه أحد الزوجين، جزءاً من شخصية الآخر وحياته، ولذلك فلابدّ له أن يدرس المسألة بعمق لا عمق مثله، وبشمولية لا شمولية مثلها، وقد أعطى الإسلام المواصفات العامّة في شخصية الزوج أو الزوجة في عملية الاختيار بالنسبة للرجل والمرأة، وهي مسألة الخلق والدِّين: «إذا جاءكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوّجوه إلّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير»، لأنّ الخلق هو الذي يمثّل الجسر الذي يربط بين شخص وآخر، حيث يشعر كلّ إنسان بمسؤوليته الأخلاقية عن الآخر، ولأنّ الدِّين يربّي في الإنسان إنسانيته، ويمنع كلّ واحد من الطرفين أن يسيء إلى الآخر بما لا يرضي الله سبحانه. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص)، جواباً على سؤال شخص: مَن أتزوج؟ قال (ص): «عليك بذات الدِّين».

وهكذا في القضايا الشخصية الأُخرى، كما في علاقات الصداقة، فعندما تريد أن تُصادق إنساناً، فإنّ عليك أن تعرف ما هي نتائج الصداقة على أخلاقك وأوضاعك وعلى المجتمع الصغير الذي تعيش فيه.

وكذلك الأمر عندما يريد الإنسان أن ينتمي إلى أيّة جهة، إلى حزب أو حركة أو منظمة أو جمعية.. عليك أن لا تتحرّك عاطفياً في هذا المجال، بأن يجذبك شعار هنا أو شخص هناك، بل عليك أن تدرس النتائج التي تترتب على انتمائك، على مستوى الدُّنيا والآخرة، في انسجامه مع دينك ومع مبادئك، وأن تدرس مداخل هذا الانتماء ومخارجه، وخلفياته السياسية أو الاجتماعية، أو غير ذلك، لأنّك قد تربط نفسك بوضع لربّما يكون فيه هلاك الدُّنيا والآخرة، لأنّ الإنسان إذا التزم بخطّ أو بدين، عليه أن يخضع كلّ نشاطه الاجتماعي والسياسي وعلى كلّ الأصعدة لما التزمه من هذا الدِّين.

وهذا ما جاء الحديث فيه، أنّه «من الناس الذين هم في ظل عرش الله يوم لا ظل إلّا ظله، من لم يقدّم رجلاً ولم يؤخر أُخرى حتى يعلم أنّ ذلك لله رضى»، بحيث نكون مستعدين لأن نجيب الله سبحانه لو أوقفنا بين يديه في أي لحظة ليسألنا عمّا فعلنا من أعمال، لأنّ المشكلة ليست في أن تجيبني أو أجيبك، أو أن تدافع عن نفسك أمامي أو أدافع عنك، بل القضية أن تجيب الله ـ سبحانه ـ في سؤاله، وهذه مسألة يحتاج الإنسان فيها إلى الدقّة، لأنّ المشكلة التي نعيشها، هي أنّنا نتحرّك عاطفياً ولا نتحرّك عقلانياً أو مبدئياً، فنحن، عندما نتحرّك في الأجواء الاجتماعية، نشعر بأنفُسنا نتحرّك بالعصبيات على المستوى العائلي، أو على المستوى الضيعوي، أو الوطني أو الإقليميي.. بحيث يتعصّب الإنسان لخصوصيته، بقطع النظر عمّا إذا كانت حقّاً أو باطلاً، الأمر الذي يدفع بالإنسان وإن كان صائماً أو حاجاً أو مصلياً، إلى التحرّك من خلال عصبيته بعيداً عن موازين الحقّ.

وهكذا الأمر في الخطوط السياسية، حيث يعتبر بعض الناس أنّ السياسة شيء والدِّين شيء آخر، ولذا لا مانع من أن يكذّب الإنسان في السياسة وأن يخون فيها.. ولكن القضية ليست كذلك، لأنّ الظلم حرام في كلّ مكان، وفي كلّ موقع، وما ينطبق على السياسة، ينطبق على الاجتماع والاقتصاد والأمن.

وهناك كلمة وردت عن أهل البيت (ع) أنّ «المرء مع مَن أحبّ»، يحشر الناس يوم القيامة مع مَن أحبّوه، ففكر في مَن تحبّ، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو على المستويات الأُخرى في هذا المجال.

ولعلّ مشكلتنا في أكثر مواقعنا السياسية والاجتماعية، وحتى الدينية، أنّنا ارتجاليون وحماسيون وانفعاليون، نرتبط بالشخص من خلال عاطفة، ونرتبط بالأشياء من خلال ما توحيه إلينا اللحظة، بينما نجد في هذا البرنامج النبويّ الشريف، أنّ علينا أن نخطّط وندرس الأُمور في جميع جوانبها وكافّة مراحلها، لنكون المجتمع الذي يخطّط، بحيث لا يدخل في مشروع إلّا بعد أن يعرف كلّ سلبياته وإيجابياته. وقد ورد عن الإمام عليّ (ع) في هذا المجال كلمته المشهورة: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه».

فالعاقل إذا أراد أن يقول الكلمة في أي مجال، في بيته أو في منطقته، أو أراد أن يوقّع، مثلاً، على قرار أو أي شيء آخر، فإنّه يتدبّر الأمر، أي أنّه يستشير عقله قبل أن يقول كلمته، ليدرس العقلُ الكلمة في كلّ نتائجها، وفي كلّ سلبياتها وإيجابياتها، فإذا قال له العقل قُلها قالها، وإذا قال له لا تقلها لم يقلها. ولذلك فاللسان جندي من جنود العقل، أمّا الأحمق فقلبه وراء لسانه، فإذا خطرت الكلمة في ذهنه قالها، ثمّ إذا بدت له النتائج السلبية من جرائها، طلب من العقل أن يدبّره وأن يرتب له الوسائل التي يستطيع من خلالها أن يتخلّص من تلك المشاكل.

ويقول الإمام عليّ (ع) في هذا المجال: «مَن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ»، أي أنّ على الإنسان، إذا ما أراد أن يتحرّك في أمر، أن يتعرّف على كلّ الاحتمالات، وأن لا يستغرق في ما يفكّر فيه، بل يحاول أن يعرف كلّ وجهات النظر وما فكّر فيه الآخرون، الاحتمالات التي يمكن أن تتحقّق من خلال هذا العمل أو ذاك، أو من خلال هذه الكلمة أو تلك، فالإنسان الذي يدرس القضية من جميع جوانبها ويدرس جميع احتمالاتها، يعرف مواقع الخطأ ليجتنبها، حتى إذا سار في أي مشروع، سار وهو يعرف طريق الصواب.

وفي ذلك يقول الإمام عليّ (ع): «مَن نظر في العواقب، أمن من النوائب»، فالإنسان الذي يفكّر في عواقب الأُمور، يستطيع أن يحمي نفسه من كلّ المشاكل ومن كلّ المصائب التي قد تحدث له، ويقول الإمام جعفر الصادق (ع): «ليس بحازم مَن لم ينظر في العواقب، والنظر في العواقب تلقيح القلوب»، أي أنّ النظر في عواقب الأُمور والتدبّر فيها يلقّح عقلك، ويجعله عقلاً منتجاً، وكذلك قلبك، ولذلك كانت وصية الإمام الصادق (ع) لابن جندب: «وقفْ عند كلّ أمر حتى تعرف مدخله من مخرجه، قبل أن تقع فيه فتندم». إنّه يقول له إنّك إذا أردت أن تتحرّك، فقف في بداية الطريق، وادرس مدخل هذا الأمر الذي تريد أن تدخل فيه، وادرس مخرجه، فإذا عرفت مدخله ورأيت فيه الصلاح، وعرفت مخرجه إذا أردت الخروج منه، عند ذلك تقدّم، وإلّا فإنّك إذا بادرت إلى أمر دون أن تعرف مدخله ومخرجه، فإنّك تندم لذلك كلّه.

وهكذا يقول الإمام الصادق (ع): «احذروا عواقب العثرات»، أي تفكّر في الطريق التي تسير فيها، وفكّر في ما يمكن أن تقع فيه من العثرات، لتعرف ما هي نتائجها على حاضرك ومستقبلك.

إنّنا عندما نقرأ هذه الكلمات، وعندما نستوحي القرآن الكريم، في كلّ ما جاء به الله تعالى، في الحديث عمّن سبقنا ممّن كفروا بالله، وممّن أشركوا به، وممّن انحرفوا عن خطّه المستقيم.. نرى أنّ الله يريدنا أن نتدبّر التاريخ لنعرف العواقب التي حلّت بالشعوب من خلال الارتجال وعدم التفكير بالنتائج، كما أنّه يريدنا أيضاً، عندما ننطلق في حياتنا البيتية والاجتماعية والاقتصادية، أن نتدبّر عواقب الآخرة. ومن هنا، على الإنسان أن لا يدرس فقط عاقبة عمله في نتائج الدُّنيا، بل أن يدرس عاقبة عمله في نتائج الآخرة أيضاً، لأنّ الآخرة هي دار الخلود في الجنّة إذا أحسنت، ودار الخلود في النار إذا أسأت، وهذا مضمون ما ورد في الدُّعاء المعروف: «اللّهُمّ اجعل مستقبل أمري خيراً من ماضيه، وخير أعمالي خواتيمها، وخير أيّامي يوم ألقاك فيه».

لتكن لنا ذهنية التخطيط للأشياء، في كلّ مواقع الدُّنيا والآخرة، لأنّ الإنسان الذي يخطّط ويدرس ويعرف النتائج قبل أن يبدأ، هو إنسان يقلّ خطأه، وربّما لا يقع في الخطأ أصلاً، وقانا الله وإيّاكم العواقب السيِّئة، ووفقنا لأن ننفتح على قضايا المصير، بالعقل والتدبير وتقوى الله في ذلك كلّه.►

ارسال التعليق

Top