- سلطة الأهل على الأولاد، كيف نمارسها؟
لا تتنافى السلطة مع المحبة والاحترام، غير أنها تخيف اليوم بعض الأهل لأنّهم يخشون أن تكون، كما في السابق، أداة لإخضاع الطفل وتشويه شخصيته والحد من طاقاته. بيد أن ثمة سلطة أخرى موجودة، لا تدمر الأطفال بل تشكل بالنسبة إليهم نقطة ارتكاز أساسية في مسيرة نموهم، وهكذا فإنّ السلطة ضرورية ولكن يجب أن نعرف كيف نمارسها.
حتى نفهم لماذا لا يكون الطفل مطيعاً بشكل طبيعي ولماذا لا يكفي أن نشرح له الأمور حتى يطيعنا، يجب أن نتذكر أنّ الطفل كائن في طور البناء وأن علينا أن نفهم ماهية هذا البناء ونحيط بتعقيداته، وهي تعقيدات تجعله مختلفاً تماماً عن بناء الحيوان. فنمو هذا الأخير يختزل في جزئه الأكبر، بالنمو البدني، بما أنّ الحيوان لا يملك الكلام ولا الفكر ولا يملك بالتالي إمكانية اتخاذ القرار في ما سيكون من سلوكياته، كتلك التي تحكم مثلاً لقاءه بأمثاله. فهو لا يختار سلوكه لأنّه محكوم بغريزته التي "تبرمجه" للتصرف في وضع معين، فيأتي سلوكه مشابهاً لكل بني جنسه في الوضعية ذاتها، يستطيع الإنسان بالطبع أن يؤثر على هذه البرمجة إذا كان ينوي ترويض الحيوان، بيد أن هامش تحركه محصور، فالذئب يظل ذئباً ولكن يكون باستطاعة أي مروض، مهما كانت كفاءته عالية، أن يجعل منه خروفاً.
أما حالة الطفل فهي مختلفة تماماً لأنّ البشر لا تقودهم الغريزة ويمكنهم أمام أي وضع كان أن يتبعوا واحداً من مواقف متعددة. وهم "يختارون" هذا الموقف بحسب نقاط الارتكاز الواعية أو غير الواعية التي يملكونها والتي تعتمد حصراً على التربية التي تلقوها أو تلك التي لم يتلقوها. وهكذا، فإن بناء الطفل يفترض بالتالي، إلى جانب بنائه الجسدي، بناء نفسياً، أي بالطبع اكتساب الفكر والكلام ولكن أيضاً القدرة على التصرف بشكل إنساني مع الناس الآخرين. وهي قدرة ليست معطاة منذ البداية لكنها أساسية لأن طفل الإنسان ليس مخلوقاً "مبرمجاً" ليعيش وحده على جزيرة منعزلة، فقدره أن يعيش مع بشر آخرين مثله. وحسن التعاطي مع الآخرين هو الحضارة في حد ذاتها.
ومن المهم أن نذكر بأنّ الطفل لا يملك أي نزعة طبيعية أو استعداداً طبيعياً ليكون حضارياً، هذا لأنّ الكثير من الأهل يظنون أو يتصرفون كما لو أنهم يعتقدون أنّ "الأمور ستترتب من تلقاء ذاتها" وأنّ "الحضارة" ستنمو لدى الطفل كما ينمو الشعر على الرأس. وبعض الأهل لا يدركون أنّ الطفل لا يمكنه، متى كبر، أن يحترم قواعد الحياة الاجتماعية ما لم يتعلم منذ نعومة أظفاره أن يحترمها. والمسألة كلها هنا تتعلق بالتفاصيل اليومية الصغيرة، والأشياء التي تبدو تافهة. فثمة أهل يروون، على سبيل المثال، كيف يتعين عليهم، في كل يوم، أن يخوضوا معركة مع ولدهم حتى يقبل بأن يحترم مواعيد الذهاب إلى المدرسة، وهو وضع يدوم منذ زمن وهم لا يجدون أنّه وضع طبيعي، بل تراهم تعبين وحانقين. ومع هذا فهم يخضعون لهذا الوضع ولا يفكرون في حلول وإجراءات يمكن أن تضع حداً له. وحين أقول لهؤلاء الأهل: "هل تعلمون أنّه في ما لو قبلتم بأن يصل طفلكم متأخراً في كل يوم إلى المدرسة، لن يتمكن أبداً في ما بعد أن يفهم أن عليه أن يصل إلى عمله بحسب الدوام المطلوب وسيكون هذا الأمر بالنسبة إليه مصدر متاعب لا تنتهي؟" أرى علامات الدهشة على وجه الأهل. فهم لم يربطوا يوماً بين الوضعين ولكن متى عرفوا أهمية تطبيق هذه القاعدة تراهم يحسنون وضع حدود لطفلهم.
حين نقول إنّ الطفل يجب أن يصبح متحضراً فنحن لا نقصد أنّه يجب أن يكون متأقلماً وحسب مع الحياة الاجتماعية. فهذه العبارة توحي بأنّ الطفل يكبر وينمو بدنياً وذهنياً ونفسياً، وأنّ التربية تضفي طبقة ما عليه فتبرمجه حتى يدخل في القالب الاجتماعي، كما الشجيرة التي تنمو وتبلغ قامتها النهائية فتشذب لتعطى الشكل المناسب للاستعمال الذي نريده. وهذا في الحقيقة مفهوم منتشر عن التربية ولكنه مفهوم خاطئ. إنّ التحول إلى إنسان حضاري لا يفترض مجرد عملية سطحية فحسب، أي اكتساب الطفل نوعاً من "طلاء اجتماعي" وعدداً من المبادئ التي تؤهله لأن يصبح صالحاً للعشرة بالنسبة للآخرين. فالتحول الحضاري تحول في العمق وهو جذري إلى درجة أنّه يمكننا أن نشبهه بتغير في الطبيعة. والتربية هي ما يسمح للطفل بأن يصبح "إنساناً" بحق، التربية هي عملية أنسنة. يجيء الطفل إلى هذا العالم حاملاً قدرات إنسانية كامنة. بيد أنّ هذه القدرات الكامنة لا يمكن أن تنمو إلا إذا تسنى للطفل أن يستفيد من "تربية وأنسنة" يمارسها عليه الكبار.
الطفل، منذ ولادته، كائن مفطور على الكلام، أي إنّه حساس للكلام منذ الثانية الأولى في حياته، حتى لو أنّه لا يستطيع أن يتكلم. وهذا فرق أساسي مع الحيوان، يمكنك أن تحدث صغير الهر أو الكلب إن كنت تحب ذلك، إلا أن كلامك معه لن يحركه في شيء ولا يغير شيئاً في حياته. أما إذا قمت بالتحدث مع رضيع فإنّه سيفهم، ولا نعرف كيف يفهم، إلا أنّها حقيقة ثابتة. فإذا ما شرحنا للطفل الرضيع أسباب قلقه التي نكون قد اكتشفناها خلال العمل مع أهله، يزول القلق لديه، ما يثبت أنّه يفهم ما نقوله له، حتى لو كنا لا ندري كيف يفهم.
لكن، على الرغم من أنّ الطفل مفطور على الكلام، فإنّ طريقة تصرفه في بداية حياته لا تختلف كثيراً عن طريقة تصرف الحيوان الصغير، هذا لأنّه تحت سيطرة ما نسميه "النزعات"، فحين يريد شيئاً ما يأخذه، وحين يرغب في ضرب شخص ما يضربه. هو مسكون برغبات نابعة عن نزعات توجه سلوكه، ويقوم بأعمال لا يدفعها العقل فتكون بالتالي غير اجتماعية وعنيفة. كما أن رغباته هذه لا تقاوم وعليه أن يشبعها بأي ثمن، فهي كما يقال "أقوى منه"، ولا سيما أنّه تحت سيطرة ما يسمى بـ"مبدأ المتعة" أي إنّ هدفه الحصول بأسرع ما يمكن وبأي وسيلة على أكبر قدر ممكن من المتعة.
أمام نهم المتعة هذا، ما من واقع يحسب له حساب، ومهما كان هذا الواقع يجب أن يخضع لرغبة الطفل، هذا ما يفسر سلوكياته وهو صغير. فإذا ما رأى طفلاً آخر في طريقه، هجم عليه وأوضعه أرضاً وإذا ما اعتبر أن لعبة رفيقه أجمل من لعبته انتزعها من بين يديه. إن كل الأهل وكل من يهتم بالأطفال يعرف تماماً هذه الوحشية وهي وحشية عادية بالكامل طالما أنّ الطفل لم يحظ بالتربية بعد، وطالما هو أيضاً يحمل احساساً حاداً بسطوته الكاملة. فهو يعتبر نفسه ملكاً على العالم ولا يخيل له ولا للحظة واحدة أن أحداً يمكن أن يعترض مشيئته. وإذا ما فعلنا فهو يزعق ويولول لأنّه يعتبر ذلك انتقاصاً من سطوته فيجن جنونه، وما لم نشرح له الأمر ستكون المسألة غير مفهومة بالكامل بالنسبة إليه وظالمة تماماً.
وهكذا فإنّ الطفل الصغير أبعد ما يكون عن الحياة الحضارية، بما أن عالمه لا يمكن أن يحتوي على عنصرين أساسيين في أي مجتمع حضاري وهما: احترام وجود الآخر وقواعد الحياة المشتركة. يجب أن نفهم هذه المسألة حتى ندرك حجم العمل الهائل الذي ينبغي القيام به حتى نتمكن من تغيير طريقة عمل الطفل الأساسية. وهذا العمل هو التربية التي لا تعني الأهل وحدهم بل الأهل والطفل وتستلزم من الطرفين جهوداً كبيرة. هذا لأنّ الطفل يشارك مشاركة كاملة في عملية التربية وهي في الحقيقة عمل ضخم يقوم به بنفسه. كيف؟
الطفل طرف في عملية تربيته لأنّ الأهل لا يملكون القدرة على تحويله، كما يملكون القدرة مثلاً على تنظيف يديه وغسلها، والسبب هو ألا أحد يملك القدرة على تغيير إنسان آخر من الخراج. يمكننا أن نجبر بالقوة رجلاً أو امرأة أو طفلاً على تعديل سلوكه ولكن لا يمكن أن تجبره لى أن يريد هذا التغيير من داخله. ومهمة الأهل تكمن إذاً في مواجهة النزعات الأساسية لدى الطفل بواسطة المحظورات التي يسنها أي مجتمع متحضر (عدم الاعتداء، عدم القتل، عدم السرقة)، ويجب أن تكون هذه المواجهة صارمة حتى يشعر الطفل بأنّ هذه الحدود المرسومة لا يمكن تخطيها وما من أحد سوف يسمح له بتخطيها. وهكذا، فإن عمل الأهل هو مواجهة الطفل بضرورة التغيير، أي إجباره على الاعتراف بأنّ الطريقة التي كان يعيشها في بداية حياته لم تعد ممكنة لأنها تتضارب مع الحياة الاجتماعية. وهنا لا يمكن القيام بهذه المهمة من دون ممارسة سلطة لأنّ الطفل لا يكون مستعداً للتخلي بطيبة خاطر عن سلوك يرضيه. ولكن متى اضطر إلى الاعتراف باستحالة استمرار السلوك الأول، يتعين عليه وحده أن "يغير قناعاته". يستطيع أهله أن يرافقوه وأن يدعموه وهذا واجبهم في الحقيقة، في خلال المسافة التي ينبغي عليه أن يجتازها حتى يتغير ولكن لا يمكنهم أن يجتازوا المسافة عنه.
ونعني "تغيير القناعة" بالنسبة إلى الطفل تحولاً تدريجياً وضخماً يتخلى فيه عن وهم القوة الجامحة ومبدأ المتعة ليخضع إلى القانون المشترك أي ليقبل بقواعد الحياة التي يعلمونه إياها. وهو إذاً عمل فهم وتخلي عن أمور عزيزة عليه وإرادة السيطرة التدريجية على نفسه، وهو طريق يستلزم من الطفل الذي يسير فيه بذل جهود جبارة تبدو إلى جانبها جهود الاقلاع عن التدخين بالنسبة إلى المدمن مزاحاً خفيفاً!
ارسال التعليق