◄إنّ درسنا للعقل الباطن في أنفسنا وفي غيرنا يوقفنا على كُنْهِ النفس البشرية ماضيها وحاضرها ويجعلنا نفهم أنفسنا ونعرف مكنوناتها؛ فبالأحلام نعرف الهموم السخيفة والجدية التي نهتم بها ولا ندري أحياناً أننا نهتم بها؛ وبالخواطر الطارئة علينا في يقظتنا نعرف آمالنا وما تتشوق إليه نفوسنا.
وفي الأحلام والخواطر نرى قوة اللبيدو أي: (الطاقة الشهوية) وتساميه محاولته أن يرقى فندرك من ذلك أنّ الرقي حاجة من حاجات النفس البشرية، وأننا لن نكون سعداء حتى ندأب في ترقية أنفسنا؛ فما دمنا كلّ يوم نتدرج نحو الرقي فنحن نشعر بهناءة العيش؛ فإذا ما ركدنا بدأت نفوسنا تمرض حتى لقد تحب الموت عندئذ وتفكر في الانتحار.
والرُقِيُ: هو الطبيعة الغالبة للنفس البشرية كما أنّ الطبيعة الغالبة لتطور الأحياء.
فإنّ التطور هو الارتقاء. ولكن كما يحدث في التطور أنّ الحيوان ينحط وينقرض كذلك يحدث للنفس البشرية أن تمرض وتموت؛ وذلك لأنّها تأبى أن تتطور.
فالطبيعة الغالبة لنفوسنا التي يثبتها التطور كما يثبتها العقل الباطن في أحلامه وخواطره هي الرقي.
فنحن أبدا نتسامى نحو الجمال والعلم والأدب والثروة والقوة والشرف؛ فما دمنا في هذا التسامي فنحن سعداء لأننا نجري على مقتضى طبيعتنا التي إذا خالفناها، وركدنا بدأنا نحس بالشقاء.
فالركود علة الشقاء؛ وقد يأتي عَفْوياً كما يأتي التسامي عَفْوياً؛ فذلك الطبيب الذي كان يحلم بأنّه يهم بأن يقتل نفسه كان يشعر بشقائه لأنّه لم يستطع أن ينزع عن نفسه ذكرى الدماء والجروح والآلام في الحرب؛ ولكن بذرة التسامي ظهرت له في آخر الحلم حين خرج له ابنه وذكّره بالواجب الأبوي فكفّ عن الانتحار؛ فالطفل رمز للمستقبل الذي يجب أن نعيش كلنا له وننسى الماضي من أجله.
وكما نعرف كُنْهَ أنفسنا وكُنْهَ مطامعنا وآمالنا كذلك نعرف نيات الآخرين نحونا، والعلل التي يرجع إليها مسلكهم؛ فإنّه ما من كلمة أو حركة نفعلها على غير وعي منا إلّا ولها سبب في العقل الباطن، وما من زلة يزل فيها القلم أو القدم أو اللسان إلّا ولها علة ترجع إلى عاطفة ما في العقل الباطن.
وبهذه المناسبة نروي قصة لفرويد عمدة هذا العلم. قال ما خلاصته:
لغرفة العيادة عندي بابان بينهما فراغ؛ وذلك لكي يحجز الصوت بين مَن في العيادة ومَن في خارجها؛ فإذا جاءتني سيدة تسمع عن اسمي وعن هذا العلم الذي اشتهرت به فإنّ الاحترام لي يملأ صدرها فهي تفتح الباب الأوّل بعناية وتقفله بهدوء، ثمّ تفتح الباب الثاني الذي يفضي إلى الغرفة فلا تجد من الأثاث ما يحقق ظنها في الفخامة والضخامة فتترك الباب الثاني دون أن تقفله حتى أحتاج إلى تنبيهها إلى إقفاله؛ وإنما أهملت إقفال هذا الباب لما سبق إلى عقلها الباطن من احترام الناس باحترام الوسط المحيط بهم.
وهذا هو ما يجده كلّ منا في معاملات الناس ففي حركاتهم نتوسم الاحترام لنا أو الاحتقار إذا كنا نجيد ملاحظة ملامحهم التي هي عنوان العقل الباطن وما يضمره لنا؛ فهذا يسمع عن نكبة وقعت بنا فيضحك وآخر يسمع القصة نفسها فيتأسف؛ وكلّ منهما يعبر عن نيته نحونا؛ وقد لا يتضح الضحك أو الأسف بعلامات ظاهرة؛ ولكنه يُسْتشفُ في الملامح.
وكثيراً ما نُحِسُّ بقلوبنا أنّ فلاناً هذا يحبنا، أو يكرهنا الأوّل رؤيته وإنما يأتي هذا الإحساس من إشارات وحركات في تقاسيم الوجه تدلنا دلالة خفية على ما يكنه في عقله الباطن من الحب أو الكره لنا؛ وهي دلالة لا يستطيع إخفاءها إلّا بالتفاف كبير؛ وعندئذ تبدو زلات وهفوات تدل على أنّه يتكلف.
ونحن نعرف أيضاً أنّ العقل الباطن إذا لم يكن على وفاق في أغراضه مع العقل الواعي حدثت لنا العصبية وكثرت الزلات والفلتات؛ وبتحليل خواطرنا وأحلامنا نقف على أصل الخلاف؛ ولكننا بالتسامي نستطيع أن نرفع أغراض العقل الباطن إلى ما يوافق عقلنا الواعي، ونزيل بذلك هذا الخلاف. وبالتلقين نجعل العقل الباطن في خدمتنا ونجنده حتى يسعى لتحقيق أغراضنا.
وإنّ العقل الباطن يُعبر عن المعاني المجردة بخيالات محسوسة؛ ففي الحلم يكون الرجل العظيم ضخماً والرجل الحقير صغير الجسم؛ فإذا قلنا للماشي على الحبل أنّه سيسقط تخيل العقل الباطن هيئة السقوط فيما يحدث للساقين من الزلل والتخبط؛ ولما كان من طبيعة الإنسان أن يحاكي الصورة التي يراها وهو لا يدري فإننا نحاكي صورة السقوط في حركتنا ونسقط بالفعل.
وهذه المحاكاة كثيرة.. كلنا يفاجئ نفسه وهو يحاكي غيره على غير وعي منه؛ مثال ذلك أننا نرى رجلاً يسير على حبل أو سور دقيق فنفاجئ أنفسنا ونحن نتحرك حركاته كأننا نحن القائمون دونه بالسير على الحبل أو السور؛ ونحن لا نحاكيه على وعي ودراية؛ بل على غير وعي؛ أي أنّ العقل الباطن هو الذي يقوم بهذه المحاكاة.
وقد سبق أن فهمنا أنّ العقل الباطن يصور لنا المعاني والأفكار المجردة في خيال محسوس؛ فالسقوط في نظره ليس مصدراً معنوياً، بل هو رجل يسقط؛ فإذا تخيلنا هذا الرجل يسقط حاكيناه في السقوط على غير وعي فنسقط بالفعل.
ومن هنا نعرف أنّ الرجل الذي يتخيل النجاح ينجح والرجل الذي يتخيل الفشل يفشل؛ لأنّ كلاً منهما يرسم صورة في عقله الباطن يبقى طوال حياته يحاكيها وهو لا يدري. فالرجل الناجح يرسم في عقله الباطن صور النجاح من استقامة في المعاملة، واعتدال في المطعم والمشرب، واقتصاد في النفقات، ومجاملة مع الأصدقاء؛ وهو لرغبته في النجاح يستهوي نفسه على غير وعي منه حتى يحب هذه الصفات نفسها فيمارسها بلا أدنى تكلف أو مشقة.
أما الرجل الذي يتخيل الفشل فإنّه يرسم في عقله الباطن صوراً للخوف والاستهتار والإهمال فيستهوي نفسه على غير وعي منه حتى يحب هذه الصفات ويمارسها.
ولكن قد يسأل القارئ هنا: كيف نحب صفات مكروهة وكيف يشتغل العقل بها مع أنّها مكروهة؟
وهنا نحتاج إلى أن نعود إلى أطوار التفكير؛ فهي كما سبق أن قلنا: معرفة، ثمّ عاطفة، ثم نزوع أي رغبة.
وهذه المعرفة قد تأتي عن طريق الحواس أو عن طريق الخواطر؛ فأنا أشعر بالخوف إذا رأت عيناي رجلاً مقتولاً أو إذا خطر هذا الخاطر في بالي (عقلي الباطن) فأنا أكره الخوف ولكني لا اتمالك من أن تخطر ببالي الخواطر عن الحادثة التي رأيتها فتحدث في عاطفة الخوف، وتبقى الخواطر تجري برأسي على غير رغبتي.
وعلى هذا النسق يحدث الفشل؛ فإنّه غَرْسٌ قد نبت في العقل الباطن، وأخذ بنمو، ويزكو خواطر عفوية تهيئ صاحبها للفشل؛ فكما كان فرح أنطون يخشى الزلل أمام إحدى العربات ثمّ زلت قدمه بالعقل الباطن.. وكما أنّ البهلوان يقع إذا أوهمته أنّه سيقع كذلك من توهم الفشل فقد دخل في أوّل درجات الفشل؛ فالبهلوان يقع لأنّه قد أُوحِيَ إليه الوقوع.
ونحن نفشل أو ننجح قد أوحينا إلى أنفسنا الفشل أو النجاح.
وهذا هو معنى الإيمان وقوته؛ ولأنّ الإيمان يوحي إلى النفس الثقة والنجاح؛ فهي تسير على هذه الهداية إلى الغاية؛ وليس الإيمان سوى العقيدة التي تندس إلى العقل الباطن.
وعلى ذلك يجب علينا إذا أردنا أن ننجح أن نوحي إلى أنفسنا هذه العقيدة.
ونحن نعرف أننا نحدث في الناس عقائد مختلفة بما نقوله لهم؛ فلماذا لا نحدث هذه العقائد لأنفسنا بما نقوله ونكرره لأنفسنا؟
إنّ كلّ كلمة ننطق بها لن تذهب هَباءً لأنّها قوة من قوى هذا الكون؛ فهي تُحدِث معرفة، ثم عاطفة، ثمّ رغبة؛ فإذا كررنا على أنفسنا عبارة كويه: أنا في تحسن مستمر كلّ يوم من كلّ ناحية.
وخاصة في أوقات الغفوة الأولى التي قبل النوم، أو الغفوة الأخيرة بعد النوم، أو عندما نسترخي أي حين يكون العقل الباطن متنبهاً حتى تنطبع عليه هذه الخواطر؛ عند ذلك تحدث في نفوسنا الرغبة في التحسن والارتقاء، وتُطبع أذواقنا بهذه الرغبة؛ فلا نمارس من الأعمال إلّا ما وافق نجاحنا.
ومعنى ذلك أننا نستهوي أنفسنا إلى النجاح بالإيحاء والتلقين؛ لأنّه ما دام الاستهواء حقيقة نراها في غيرنا؛ كذلك هو حقيقة نراها في أنفسنا؛ فبالاستهواء الذاتي يمكننا أن نوجه جهودنا إلى الغاية التي نرجو تحقيقها.
وقد يكون هذا الاستهواء إيحاء بالتلقين، أو إيحاء بالخيال حين نترك الخواطر تنساب فنتخيل أنفسنا في مراكز سامية من حيث المال والوجاهة ونحو ذلك.
وهذا الاستهواء يأتي عَفْوياً عند العظماء؛ فنابليون لم يكن يفكر قط في الهزيمة وهو لو فعل؛ لحدث له ما يحدث للماشي على الحبل إذا خطر بباله السقوط؛ وقد دبَّ في قلبه الشك مرة واحدة وكان ذلك في معركة واترلو التي انهزم فيها.
ونجاح الأنبياء يُعزى إلى قوة عقيدتهم التي لا يعتريها الشك أصلاً؛ فجميع خواطرهم لذلك عن النجاح؛ ولذلك فهم أعرف الناس بقوة العقيدة.
وقد قيل إنّ أماني الصبا هي حقائق الرجولة؛ وهذه الأماني هي بالطبع الخواطر الطارئة مدة الصبا تستحيل إلى خيالات في العقل الباطن تحدث رغبات تؤدى بأدنى مجهود.
ولسنا نعني أنّ الاستهواء هو كلّ ما تحتاج إليه للنبوغ والعبقرية؛ فإنّ لذلك شروطاً أخرى ولكننا نعني أنّ الاستهواء من أهم هذه الشروط.
ومجرد الرغبة الواعية في النجاح لا تؤدي إلى النجاح وإنما العبرة بأن تندس هذه الرغبة إلى العقل الباطن حتى يكون عملها عَفْوياً لا تكلف فيه.
ولا بأس من أن نبتدئ بوعي ودراية ولكن يجب أن تحدث للعقل الباطن خيالات وخواطر وتلقينات حتى تتجه قواه نحو تحقيق النجاح؛ لأنّه عندئذ لا يكلفنا أدنى مجهود محسوس كالرجل الذي يعزف على أوتار الكمنجة يبتدئ واعياً يدري ما يعمل؛ ويتعثر ويراجع نفسه حتى إذا أتقن العزف صار عزفه عَفْوياً لا يتكلف فهو يكلمك وهو يعزف؛ كذلك يحتاج الناجح إلى أن تتجه قواه إلى النجاح؛ وهو لا يدري بهذا الاتجاه لأنّ عقله الباطن يقوم به حتى يتوفر على عمله اليومي بعقله الواعي.►
المصدر: كتاب تمتع بالحياة/ ستون طريقة لجعل حياتك أفضل
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق