• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة المطلقة لله.. طريق الكمال الإنساني

العبادة المطلقة لله.. طريق الكمال الإنساني
 يتلخّص الهدف الرباني من بعثة الأنبياء عليهم السلام بهداية الإنسان إلى طريق كماله الوجودي ونمائه الاجتماعي. فكل مفردة من مفردات هذا الكون إنما تسير إلى ذروة كمالها ونموّها بما أودع الله فيها من مقوّمات الكمال ومستلزماته، ومن هذه المستلزمات هداية الأنبياء له. (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 1-3). (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2). فالآية الثانية واضحة الإشارة إلى أنّ مهمّة النبي الرسول (ص) هي تلاوة آيات الله على الناس، وتعليمهم الكتاب والحكمة، وتطهير الناس وتنميتهم. وقد أودع الله في الإنسان – كما في غيره من المخلوقات – المقوّمات الأوليّة لنموّه، بحيث لو أنّه تعهّد هذه المقوّمات بالعناية والرعاية لتحقّق التكامل والنمو الإنسانيين، أما لو أهمل الإنسان هذه المقوّمات، وسلك في حياته سلوكاً مناقِضاً لها، لما تحقّق له النمو، بل الانحدار. قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10). (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (التين/ 4-6).  

 - معيار التكامل:

وقد وضع الإسلام معياراً دقيقاً للتكامل الإنساني، يتمّ من خلاله التحقق من وجوده، وقياس درجته وكمّيته، وذلك المعيار هو "الاقتراب من الله بهدف الوصول إليه ولقائه". فكلّما يقترب الإنسان من الله، يحقق درجة من الكمال. وكلما ازداد الاقتراب، ازداد الكمال، حتى يتحقق اللقاء بالله، سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6). ويُسمّي الحديث الشريف هذا المعيار بالتشبّه بأخلاق الله، حينما يقول: "تشبهوا بأخلاق الله"، فتصبح أخلاق الله وصفاته من العدل والعلم والرحمة والقدرة والقوة هي معالم لهذا الكمال الإنساني، ومعايير لقياس درجته. غير أنّه تجدر الملاحظة أنّ هذه المعايير الربانية لقياس الكمال الإنساني معايير مطلقة، في حين أنّ الإنسان كائنٌ نسبي. إذن، ماذا ينتج عن قياس حركة النسبي بالمطلق؟. والجواب: إنّ حركة الكائن النسبي سوف لن تستطيع "الوصول" إلى المعيار المطلق بدرجة "نهائية"، لأنّ النسبي لا يصل إلى المطلق، ولا يُحيط به، ولا يتجاوزه، إنما ما تستطيع هذه الحركة تحقيقه هو الاقتراب النسبي من المطلق. وينتج من هذا، أيضاً، بقاء آفاق الكمال والنماء والتقدّم مفتوحة، دائماً، أمام الإنسان، حيث لا نهايات لها، فنهايتها الحقيقية هي صفات الله، وهذه مطلقة، لا تحدّها نهاية. وإذن، فإنّ الكمال الإنساني مشروعٌ مفتوح، وعملٌ مستمر. (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف/ 76).   - حقيقة الكمال الإنساني: صفات الله، إذن، التطابق هي معيار الكمال الإنساني. ولكن ما هي حقيقته؟ والجواب: إنها التطابق بين واقع الإنسان وأفعاله من جهة، وإرادة الله من جهة أخرى، نهياً، أو أمراً. إنّ الله وضع صيغة معيّنة لحياة، الفردية والاجتماعية، ويريد منه أن يعيش حياته وفقاً لهذه الصيغة الربانية، التي تضمن للإنسان كماله وسعادته في الدنيا والآخرة. وتكامل حياة الإنسان هو بناؤها على أساس الصيغة الربانية، بنحو تتطابق فيه حياة الإنسان مع هذه الصيغة، وتكون تجسيداً بشرياً واجتماعياً لها. والتطابق بين حياة الإنسان وإرادة الله يكون تارةً يترك ما نهى الله عنه، وهذه هي المحرّمات والمكروهات. ويكون تارة أخرى بالقيام بما أمر الله به، وهذه هي الواجبات والمستحبّات. وبالجمع بين هذين المحورَين تتكامل أبعاد حياة الإنسان. فليس فيها ما يغضب الله، من الناحية السلبية، ومن الناحية الإيجابية: نجد فيها ما أراده الله. وإعمار الكون والمجتمع مشروط، في واقع الأمر، بهذا التطابق بين الفعل الإنساني والإرادة الربانية. لا إعمار بدون هذا التطابق. بل العكس، إنّ عدم التطابق يؤدِّي إلى خراب الحياة الإنسانية والكونية، في الدنيا والآخرة. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (إبراهيم/ 28). وإعمار الأرض والمجتمع هو التعبير الآخر عن الاستخلاف الرباني. فالخلافة، وهي المنصب الرباني للإنسان في الأرض، تعني إعمار الكون والمجتمع وفقاً للصيغة الربانية للحياة. وهذه الصيغة هي وحدها القادرة على تحقيق هذا الإعمار. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا...) (البقرة/ 30-31). فالمتبادَر إلى أذهان الملائكة أنّ الإنسان قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولكنّهم لم يكونوا يعلمون أنّ الله زوّد الإنسان بما يستطيع به إعمار الأرض والحياة، وهو العلم الربّاني، بشرط أن يتحرّك الإنسان ويبني حياته على أساس هذا العلم.   - العبادة لله: هدف وطريق: والتطابق بين أفعال الإنسان وإرادة الله المبيّنة بالعلم الرباني الملقى على الإنسان، هو التعريف الأدقّ لكلمة العبادة، وهو المصطلح الأكثر شيوعاً في القرآن الكريم. فالعبادة، في حقيقتها وجوهرها، تعني طاعة الله، والانقياد لأوامره، إمّا حُبّاً به، وهذه عبادة الأحرار، أو طمعاً في جنته، وهذه عبادة التجّار، أو خوفاً من ناره، وهذه عبادة العبيد. ولما قلنا – قبل قليل – إنّ التطابق هو حقيقة الكمال، ونقول الآن إنّ العبادة هي التطابق، فإننا نستطيع أن نصل إلى الاستنتاج النهائي الذي يقول: إنّ العبادة هي الكمال. وهذا عين الصواب. فلا معنى للكمال الإنساني، ولا حقيقة له، ولا وجود، بدون العبادة لله سبحانه. فالكمال الإنساني هو عبادة الله. وعبادة الله هي الكمال الإنساني. ونضيف الآن فنقول: إنّ درجة الكمال الإنساني إنما تُقاس بدرجة العبادة التي حقّقها الإنسان. ومن هنا، نفهم مغزى القول بأنّ للإسلام والإيمان مراتب ودرجاتٍ. وهذه المراتب هي عينها مراتب الكمال الإنساني. فبمقدار ما يُحقّق الإنسان من عبودية لله في حياته، يكون كماله الوجودي والحياتي. وإذا كان الكمال الإنساني هو غاية وجود الإنسان، فإنّ العبادة لله هي الغاية من خلقه، وذلك هو قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات/ 56). وإذن، يصحّ أن نقول الآن: إنّ العبادة لله، التي هي تعبير عن الكمال الإنساني بدرجات، هي الغاية. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21). وللكمال الإنساني بالمفهوم القرآن طريق. والطريق واحد، وهو أن يسلك الإنسان طريق المطيعين لله، العابدين له. فبطاعة الله، أي بعبادته – بالطريقة التي حدّدها عزّ وجلّ، يتحقق الكمال الإنساني. ولا يستطيع الإنسان أن يحقق كماله بغير هذا الطريق. وما الطرق الأخرى، غير طريق الله، سوى سُبل الشيطان، الذي لا يهدي إلى الحق والكمال. فعبادة الله هي الطريق إليه، وهي الطريق إلى الكمال. وهنا نصل إلى الاستنتاج الدقيق والبالغ الأهمية، وهو: أنّ العبادة المطلقة لله هي الهدف، وهي الطريق إلى هذا الهدف، في نفس الوقت. وهذا قمة. التطابق بين الهدف والطريق، حيث يكون الطريق هو الهدف، والهدف هي الطريق. ولا حاجة لنا بعد إلى الجدال والمناقشة حول ضرورة التجانس بين الغايات والأساليب، إذا عرفنا هذه الحقيقة. وبإعادة التأمّل بالآية السابقة نستوعب هذه الحقيقة أكثر فأكثر: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فكأنّ الآية تقول اعبدوا الله حتى تصلوا إلى درجة التقوى. ولكن أليست التقوى هي الدرجة العالية للعبادة؟ فبالعبادة نصل إلى العبادة. وهذا هو معنى قولنا: العبادة هدف وطريق إليه.   - النيّة، المعرفة، العمل: وحتى تتحرك مسيرة الكمال الإنساني نحو الله سبحانه وتعالى يجب على الإنسان أن يوفّر ثلاثة أمور: -                الأمر الأوّل: إرادة التحرك والسير نحو الكمال. وهذه هي النيّة. فلابدّ من إرادة صادقة وعزيمة قويّة للسير بنيّة القُربة إلى الله تعالى. وهذا شرط مهم. حيث لا عمل بلا إرادة. ولا قيمة للعمل بلا نية. والفقه الإسلامي، كما هو معروف، يشترط النية لصحة العبادات. وهذه مسألة بالغة الأهمية، لأنّ الأعمال التي ظاهرها "عبادة" لا تنفع في تحقيق الكمال الإنساني إذا لم تكن منبثقة من نية العمل لله. -                الأمر الثاني: المعرفة، فالسير المؤدِّي إلى الكمال لابدّ أن يكون مستنداً إلى معرفة صحيحة. وأساساً، لا يوجد عمل بلا معرفةٍ ما. والمعرفة الصحيحة تُنتج عملاً صحيحاً، والعكس يصحّ، وهذا من أوّليات الفكر الإسلامي، التي نجدها في العديد من النصوص، أمثال: "العامل على غير بصيرة، كالسائر على غير الطريق، لا تزيده سرعة السير إلّا بُعداً". "ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة". "لا يُقبل عملٌ إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، ومن عرف دلّتْهُ معرفته على العمل، ومَن لم يعرف فلا عمل له". -                الأمر الثالث: العمل. وهو قرين الإيمان والمعرفة، ومصداق النية. بل هو المظهر الملموس للسير نحو الكمال. والكمال الإنساني لا يتحقّق إلا بعمل جامع لشروط الصحة: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...) (العصر/ 1-3)، وحقيقة العمل، بلحاظ مسيرة التكامل الإنساني، تكمن في وجهين؛ الأوّل منهما مقاومة القوى والعوامل المعيقة للتكامل والنمو الإنساني، والوجه الثاني، بناء مظاهر الكمال ومفرداته. وهو عين مجاهدة النفس الموصلة إلى الغاية، كما في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) (العنكبوت/ 69).   المصدر: مجلة نور الإسلام

ارسال التعليق

Top