• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبد بين الذنب والمغفرة

العبد بين الذنب والمغفرة
◄هل فكرت مرّة: ما هو أكبر ذنب يمكن أن يرتكبه العبد تجاه ربّه؟ إن العبد، يبحث غالباً في الذنوب، ليعرف أي ذنب هو الذي لا يغفر، وأي ذنب يمكن أن يغفر، ليس من أجل تجنب الذنوب، وإنما من أجل أن لا يهاب من "الذنب الصغير". وفي هذا نوع من التجرؤ على الله. فالذنب لا يقاس بذاته، وإنما بالنسبة إلى من يرتكب الذنب تجاهه. فالقضية لا تدور مدار حجم المعصية أو الجريمة، بمقدار ما تدور مدار من اعتبرها جريمة ونهانا عن اقترافها.. وعليه، فإنّ كل الذنوب، تعتبر كبيرة، لأنّها تحدياً لله.. ولكن بعض الذنوب وعد الله عليها العقاب، وعدم الغفران، مثل انكار الله، والشرك به.. "إنّ الله لا يغفر أن يُشرك به، ويغفر ما دون ذلك..". كما يقول القرآن الكريم. فالذي لا يعود من إلحاده، وشركه، قد لا يجد فرصة للحصول على عطفه ورحمته، لأنّه تحدى بذلك ربه، في أبشع أنواع التحدّي. وبعض الذنوب، وعد الله عليها الغفران والعفو – إذا تاب منها العبد طبعاً –. وإذا راجعنا الله تعالى، نجد انّه يجب أن يعرفه العبيد كأرحم الراحمين. وأن يعتبروا رحمته أوسع من ذنوبهم فلا يصابوا باليأس.. ولذلك فإنّه يعتبر من أكبر الذنوب: اليأس من رحمته. ويقول الله في ذلك: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ) (الحجر/ 56). والسؤال هو: لماذا؟ قد يكون السبب انّ القنوط من رحمة الله يدفع الإنسان إلى ارتكاب كافة المعاصي. فأي ذنب مهما كان كبيراً، لا يمنع الإنسان من محاولة العودة عنه؛ لأنّ مرتكبه لا يشعر بانسداد الأبواب في وجهه. بينما نجد "اليأس من رحمة الله" كسد لكل أبواب المحاولة، والوقوع في جريمة إرتكاب المعاصي. فالذي يستسلم للقنوط يقول لنفسه: -        ما دمت قد سقطت في النيران، فلا فرق ان كانت النار فوق رأسي شبراً أم متراً.. انّ الذي يسقط في اليأس، يشبه إلى حد بعيد من يسقط في الماء: لا فرق عنده ان كانت المياه على رأسه متراً أم ألف متر. والمشكلة أنّ الذي يسقط في جحيم اليأس من رحمة الله، قد يجد من يشجعه في ذلك، ويزيده من يأسه وقنوطه، قائلاً له: تارك الصلاة.. لا توبة له. تارك الحج.. لا توبة له. تارك الصوم.. لا توبة له. تارك الخمر.. لا توبة له. وقد يسمع أحاديث تقول: ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه. فيقول مع نفسه: إذا كانت لا توبة لي، فما الداعي للعودة إلى الصلاة؟ وإذا كان القرآن يلعنني فما الداعي لتلاوته؟ فيتوغل في الجريمة، حتى يستنفد كل طاقاته في امتصاص متع الدنيا، مادام يعرف نفسه محروماً من متع الآخرة. وهذا الطراز من الناس – ما أكثره في طبقة الشباب – ينسى حقيقة هامة جدّاً، وهي: ان رحمة الله أوسع من كل شيء.. فالله أرحم الراحمين.. انّ كل الأحاديث تؤكد على انّ الله أرحم بعباده – حتى العصاة منهم – من الأُم بولدها. وإذا ارتكب الطفل خطأ واحداً، أو خطأين، فهل تطرده الأُم إلى الأبد، وتحرمه من العطف والتودد؟ حاشا لله.. حاشاه، وهو أرحم الراحمين. إنّ رحمة الأُم لولدها، إنما هي نتيجة حملها له في فترة الحمل، بينما رحمة الله بعباده هي نتيجة خلقه لهم. ولابدّ ان تكون رحمة الله أقوى وأوسع. لقد ارتكب فرعون أكبر ذنب، حين نصب نفسه إلهاً من دون الله، ومع ذلك فإنّه عندما واجه ملك الموت في أعماق النيل، استغاث بموسى غير ان موسى رفض ان يساعده. وهكذا مات غرقاً. فأوحى الله تعالى إلى موسى: -        يا موسى انك ما اغثت فرعون، لأنك لم تخلقه، ولو استغاث لي لاغثته. يقول الرسول الأعظم (ص): -        إنّ رجلاً قال: والله انّ الله لا يغفر لفلان. فقال الله: من ذا الذي تئلا – حتم – عليّ ان لا أغفر لفلان؟ وأضاف تعالى: -        إني قد غفرت لفلان واحبطت عمل الثاني بقوله: لا يغفر الله لفلان. وتبلغ رحمة الله من السعة انّه تعالى يكشف عنها لأكبر المذنبين. فيقول لموسى، عندما يرسله إلى فرعون: -        توعده، وأخبره إني إلى العفو والمغفرة، أسرع مني إلى الغضب والعقوبة. انّ الله الذي يوحي إلى نبيه عيسى بن مريم بقوله: -        كن للناس في الحلم كالأرض تحتم. وفي السخاء كالماء الجاري. وفي الرحمة كالشمس والقمر، فإنّهما يطلعا على البر والفاجر.. وعندما رفع الله إبراهيم إلى الملكوت، ليكشف له عن الجلال والعظمة، اتاح له الفرصة للإطلاع على الأرض.. نظر إبراهيم إلى داخل مدينة، وفي غرفة نائية، رأى امرأة تتعامل مع رجل غريب، على الحرام. وتمّ الاتفاق. وتم اللقاء. فامتلكت إبراهيم الغيرة فدعا عليهما فهلكا. وسرح إبراهيم بنظره في مكان آخر فرأى امرأة تتعامل مع رجل غريب على الحرام. وتمّ الاتفاق. وتمّ اللقاء. فامتلكت إبراهيم أيضاً الغيرة الصادقة.. فدعا عليهما فهلكا! وتكررت العملية، فدعا عليهما: وهنا. قال له الله: -        يا إبراهيم.. اكفف دعوتك عن عبيدي وامائي. فإنّي انا الله الغفور الرحيم، لا تضرني ذنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم، ولست اسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبيدي وامائي، فإنما أنت نذير، لا شريك في المملكة، ولا مهيمن علي ولا على عبادي! يا إبراهيم: خلّ بيني وبين عبادي، فإني أرحم بهم منك! خلّ بيني وبين عبادي، فإني انا الله الجبار الحليم، العلام والحكيم، ادبرهم بعلمي، وانفذ فيه قضائي وقدري. لم يكن إبراهيم حاقداً على "الزناة" الذي دعا عليهم. إنما كانت غيرته الدينية هي التي تحمله على الدعاء عليهم، ولكنه كان يظن انّ الله يحب هلاك عاصيه، بينما كانت رحمة الله فوق ذلك كله لأنّها لا تنطلق من مقاييس بشرية لكي تحدد بحدود الطاعة ولا تشل العصاة.. ولهذا جاءه النداء العنيف: -        إنما أنت نذير. لست شريكاً في المملكة. ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي. -        لا تضرني ذنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم. ولست اسوسهم بشفاء الغيظ.. يا إبراهيم.. خل بيني وبين عبادي فاني أرحم بهم منك..   إذن لماذا يغضب الله بعض الأحيان؟ قبل كل شيء لابدّ ان نعرف انّ الغضب قد يكون "رحمة" فالذي يظلمك، يستحق الغضب. وهذا الغضب الذي يترجم – ربما – إلى عقاب إلهي للظالم هو رحمة لك.. لأنّه يعني الانتقام من أجلك. فالغضب الإلهي لابدّ أن يكون بسبب من الأسباب. وهذا يعني ان رفع ذلك السبب يكون سبباً طبيعياً. لجلب رحمة الله. فالله (لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/ 11)، فلا يغير موقفه العطوف من أحد إلّا إذا غير هو موقفه من إرادة الله. والعكس بالعكس. يقول الله لأحد أنبيائه: "إنّ ليس من أهل قرية، ولا ناس كانوا على طاعتي، فاصابهم فيها سراء، فتحولوا عما أحب إلى ما أكره، الّا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون". "وليس من أهل قرية، ولا أهل بيت كانوا على معصيتي فاصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب، الا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون". "وقل لهم: انّ رحمتي سبقت غضبي، فلا يقنطوا من رحمتي فإنّه لا يتعاظم عندي ذنب ان اغفره". إذن فإذا رأيت ان أوضاعك بدأت تتدهور من جيد إلى سيء. ومن سيء إلى أسوأ. ومن أسوأ إلى مؤسف، فلا تلعن الدهر والظروف بل فتش عن أخطائك، في ذاتك ومواقفك، وغير علاقتك مع الله فسرعان ما ستجد ان أوضاعك بدأت تتغير باتجاه التحسين. ذلك وعد من الله. ولن يخلف الله وعده.   موجبات المغفرة: الوقوف بين يدي الله.. الخضوع الصادق له.. التوجه القلبي المخلص إلى رحمته.. التواضع الحقيقي أمام عظمته.. أمور كفيلة بكنس الذنوب العظام، واستدرار رحمة الله العظيمة. وقد جاء في الحديث: إنّ لله ملكاً ينادي في أوقات الصلاة: "يا بني آدم..". قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم اطفؤها بالصلاة". إنّ الصلاة تؤكد في الإنسان معاني العبودية وتدفع به إلى الامتناع عن المعاصي بمرور الأيام.. انّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.. جرّب ذلك، توضأ باخلاص. قف أمام الله – باتجاه القبلة – تذكر انك تواجه ربك. فستنج بعد مرور مدة على صلواتك انك بدأت تقترب إلى ربك. يقول الله تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون/ 9-11). ومن موجبات المغفرة أيضاً إدخال السرور على أخيك المؤمن.. هذا ما يقوله الرسول الأعظم (ص). فإذا كانت عندك ذنوب تريد غسلها، ففتش عن مؤمن، واسأله فيما إذا كان طالب حاجة، اقضها له، فسرعان ما تحس ببرد العفو الإلهي يمس شغاف قلبك. أتريد دليلاً على ذلك؟ مرة كان موسى بن عمران، يذهب إلى طور سيناء، فمرّ على كوخ متواضع جدّاً، كان يسكن فيه أحد الزهاد، فاستهواه ان يدخل فيه، ويسأل عن حال الزاهد. وهكذا دخل.. فوجد الرجل يأكل الطعام، وكان موسى – في تلك اللحظة – يعاني من الجوع والتعب والارهاق. لكنه لم يجد أي دعوة من الزاهد للاشتراك معه في الطعام. ولما همّ موسى بالرحيل، طلب الزاهد من موسى أن يسأل الله – فيما يسأل – عن مكانته في الجنة. ووعده موسى خيراً.. وارتحل عنه.. وفي ذات الطريق مرّ موسى على كوخ آخر لزاهد ثان، ولكنه لم يكن متواضعاً كالكوخ الأوّل فاستهواه – كذلك – أن يدخل فيه. وصدفة وجد الرجل يهم بأكل طعامه وكانت عبارة عن رمانة واحدة، وما إن دخل موسى حتى قام له الزاهد، وأجلسه على سفرته، وقدم له نصف رمانته باصرار. ولمّا همّ موسى بالرحيل سأله الزاهد، أن يسأل الله – فيما يسأل عن مكانته في الجنّة.. ووعده موسى خيراً.. وارتحل عنه. على طور سيناء تذكر موسى مقالة الرجلين فسأل الله عن الأوّل، فجاءه الجواب: -        بشّره ان مكانه النار! وسأل عن الثاني، فجاءه الجواب: مكانه الجنّة! ولما سأل موسى: ولم يا ربّ؟ قال الله: "يا موسى.. إنّ الأول بخيل. أكل طعامه بحضورك، ولم يقدم لك شيئاً. والثاني كريم لم يملك سوى رمانته التي قدم لك نصفها. فالثاني يدخل الجنة لعطفه والأول يدخل النار لبخله". وحينما دخل موسى على الزاهد الأوّل، واخبره بمقالة الله. قال لموسى: يا موسى.. إذا كان لابدّ ان احترق بالنار فأسأل ربك ان يجعل النار ضيقة حتى لا يدخلها غيري، أو يجعلني واسعاً حتى املأ النار.. قال له موسى: ولم؟ فأجاب: لا أريد أن يتعذب غيري معي. وجاء موسى – بعد ذلك – إلى الطور فسأل الله تعالى قائلاً: يا موسى: أخبر صاحبك اني قد اوجبت له الجنة لأنّه أراد الخير لغيره". فإذا كان مجرد طلب العطف على الآخرين يمحو إسم الإنسان من "قائمة أهل النار" ويكتبه في "قامة أهل الجنة" فكيف يكون العطف ذاته؟ يقول الرسول الأعظم (ص): انّ البر يهدي إلى الجنة. (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف/ 56). كما إنّ محبة الناس. واستعمال الطيب معهم طريق آخر من طرق غفران الذنوب.. فالله يريد للإنسان أن يعيش مع أخيه الإنسان في حب صادق، وتودد مخلص. لذلك فقد أكّد الله على "حسن الخلق" كأفضل ما يوضع في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة. وجعل غفران الذنوب في بعض الأحيان معلقاً على حسن الخلق. يقول الله تعالى: "احسن خلقك مع الناس حتى أحبك وحببتك في قلوب الصالحين وغفرت ذنوبك". يابن آدم.. ضع يدك على رأسك، فما تحب لنفسك، فاحبب للمسلمين.. يابن آدم.. لا تحزن على ما فاتك من الدنيا، ولا تفرح بما أوتيت منها، ولا تفرح بما أوتيت، فإنّ الدنيا اليوم لك وغداً لغيرك. يقول الرسول الأعظم (ص): "انّ حسن الخلق يذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد". ويقول (ص): "أكثر ما يلج به أمتي الجنة، تقوى الله وحسن الخلق". ولكي نوجه أنفسنا إلى الطريق القويم، لابدّ ان نمارس الدعاء. فالدعاء إيمان ذاتي إلى التوبة.. فما أجمل أن يقف الإنسان أمام ربه ليقول له: ".. يا من إذا سأله عبده أعطاه.. وإذا امّل ما عنده بلغه مناه.. وإذا أقبل عليه قرّبه وادناه..".►

ارسال التعليق

Top