عانى الاقتصاد العراقي من مشكلة ضخامة الدَّين العام منذ العام 2003 بسبب الديون التي خلفتها سياسات النظام السابق والحصار الاقتصادي والتراجع الذي شهدته أسعار النفط الخام آنذاك. إذ قُدر الدَّين العامّ (الخارجي فقط) قبل العام 2003 قرابة (130) مليار دولار، (42.5) مليار دولار للدول الأعضاء في نادي باريس، (67.4) مليار دولار للدول من غير الأعضاء في النادي، وقرابة (20) مليار دولار للدائنين التجاريين من القطاع الخاصّ، ونصف مليار دولار للمؤسّسات المالية الدولية والإقليمية.
وبعد اتفاقات وتسويات مضنية استطاع المفاوضين من البنك المركزي العراقي ووزارة المالية إقناع العديد من الدول والمؤسّسات على إعفاء العراق من جزء كبير من الديون (ولاعتبارات عديدة لا مجال لذكرها)، لدعم جهود العراق في البناء والإعمار والتحوّل صوب اقتصاد السوق. كما أسهمت الوفرة المالية المتحقّقة، جراء تحليق أسعار النفط الخام لقرابة 115 دولار للبرميل، في تمكين العراق من تسديد جزء كبير من أقساط الدَّين العامّ المتراكم فضلاً على تحقيق فائض مالي تجاوز حاجز (18) مليار دولار مطلع العام 2013.
إلّا أنّ انهيار أسعار النفط الخام منتصف العام 2014 وسيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة البلد واستيلائه على موارد مالية ونفطية وطنية وحاجة الجهد الحربي إلى تمويل مفتوح لإدامة زخم الحرب، أرغم العراق مجدداً إلى الانخراط في سلسلة من القروض الداخلية والخارجية لأجل مواجهة الأزمة المزدوجة التي واجهت البلد آنذاك.
في العراق، وبحكم التجربة الحديثة مع الدَّين الخارجي، خصوصاً بعد العامّ 2014، حين انهارت أسعار النفط وعجزت الإيرادات النفطية والموارد الأُخرى في تمويل الموازنة العامّة، نلاحظ تجلي العديد من سلبيات الاقتراض العامّ (والخارجي بشكل خاصّ)، منها:
1- إخفاق الحكومات السابقة (بسبب الفساد وضعف الكفاءة في إدارة الموارد) في استثمار القروض الخارجية لتحسين البنية التحتية والخدمات أو إقامة مشروعات استثمارية ناجحة. بدلاً من ذلك، تمّ هدر جزء كبير من تلك الأموال.
2- تشكّل أقساط وفوائد الدَّين العامّ (10%) من حجم النفقات الجارية لعام 2019، وبذلك فهي تزاحم أنشطة وتخصيصات غاية في الأهميّة.
3- يلاحظ تحقّق إدمان مفرط على القروض الخارجية وهي ظاهرة مقلقة تؤشر ضعف وإخفاق الحكومة في تعظيم الموارد المالية المحلية (غير النفطية) وتحقيق الضبط المالي والاستدامة المالية.
4- لم تنجز الحسابات الختامية سنوياً لتكون مؤشر على شفافية ونزاهة الإدارة المالية ومؤشر حول مدى استفادة البلد من القروض العامّة بمختلف أشكالها.
5- تحوّل العجز المخطّط إلى فائض فعلي في الكثير من الموازنات السابقة (كما هو الحال في موازنة العامّ 2018) ممّا يؤشر ضعف جدوى الاقتراض أحياناً، ويثير الريبة والاستغراب حول دفع فوائد على ديون غير ضرورية.
6- ضعف الحكومة في تنفيذ الإنفاق الاستثماري بالكامل يبيّن ضعف الجدوى المالية والاقتصادية من الاقتراض الخارجي، خاصّة وإنّ الفائض المتحقّق راجع من التخصيصات الاستثمارية لعدم الانتفاع والتنفيذ الكامل للنفقات الاستثمارية.
7- انحسار إيرادات النفط والتوقعات بتقلّبات مزمنة تشهدها الأسعار في الآمد القريب يُلزم الحكومة بعدم الاستمرار في الاقتراض الخارجي لضعف القدرة المستقبلية على السداد.
8- تبرز مؤشرات الاستدامة المالية الانحراف المستمر في تعايش النفقات مع الإيرادات المتحقّقة على حساب تراكم الدَّين العامّ (بشقيه الداخلي والخارجي)
9- يثير تراكم حجم المديونية في العراق القلق حول مستقبل الأجيال القادمة، خصوصاً مع استمرار الحكومة في تضخيم الدَّين العامّ وإخفاقها في إنشاء صندوق سيادي للديون وللاستقرار وأخر للأجيال.
خلاصة القول، إنّ سياسة الاقتراض العامّ يجب أن تكون خاضعة لشروط وضوابط، ويمكن الاستفادة منها أحياناً في تجسير فجوة الموارد المالية، وتمويل الاستثمارات الحقيقية، دون الاتكال على الاقتراض بشكل مفرط يوحي بالإدمان والاستدامة.
أيضاً لابدّ من الإشارة إلى أنّ إثارة المخاوف حول تمادي الحكومة العراقية في الاقتراض إيجابي في حدِّ ذاته ولا يثير فزع المواطن دون مبرر (كما يروج البعض)، نظراً لأنّ إطلاق العنان لحكومات الريع النفطي، يفصح وبالتجربة، عن تماديها في تضخيم الإنفاق العام خارج حدود وإمكانات البلد المالية، على أمل تسديد فاتورة الديون حين ترتفع أسعار النفط في المستقبل، وهو ما يدخل البلد في نفق المديونية وقضم السيادة الوطنية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق