• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

عَرَفات بين (التعارُف) و(العِرفان)

أسرة البلاغ

عَرَفات بين (التعارُف) و(العِرفان)

عَرَفات

بين (التعارُف) و(العِرفان)

 

 

 

لجنة التأليف - مؤسسة البلاغ


 

قال تعالى:

﴿فَإِذا أَفَضْتُمْ[1] مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ﴾ (البقرة/ 198).


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

على رُبى عَرَفات:

- التعريف بعَرَفة

- التعارف في عَرَفة

- لماذا الحجُّ عَرَفة؟

- الوقوف في عَرَفة

- دلالة المكان

- مقارَنة بين الموقفين: (عرفات والمحشر)

- لحظة الاغتنام

- حُسنُ الظنِّ بالله

- الإفاضة من عرفات


 

التعريف بعَرَفة:

أوّلاً: عَرَفة لُغةً[2]:

عَرَف الشيء لم يُنكرهُ. وعرّف الضالّة (الناقة المفقودة) نشدها، واعترف بالشيء أقرّ به. يقال: اعترف بذنبه: أقرّ به ولم ينكره. وتعارفوا: عرف بعضهم بعضاً. وتعرّفت إلى فلان: جعلتهُ يعرفني. و(الأعراف): الحاجز بين الجنّة والنار. وعُرف الجبل: أعلاه، ويطلق على السور أيضاً. والعَرَفة: الحدُّ بين الشيئين. والمعَرَفة: الوجه والملامح، وهي إدراك الشيء على ما هو عليه. ويعرفه حقّ المعَرَفة: يعرفه جيداً، والمعَرَفة: حصيلة التعلُّم عبر العصور. ومعَرَفة الذات: تفهُّم الشخص لطبيعته أو قدراته أو حدوده، أو: وعيه بالمميزات والخصائص المكوّنة لذاته. وعرّف الحجّاج: وقفوا بعرفات. والعرفان: الاعتراف والتقدير.

بهذا التعريف، ماذا تعني عَرَفة؟

هي المعلوم الذي لا يُجهَل، وهي المفقودُ الذي يُطلَب، وهي ساحة الاعتراف والإقرار بالذنوب، مثلما هي ساحة للتعارف بين الناس من مختلف الأجناس. وهي الحاجزُ بين (أمسي) الغارق بالمعاصي والملوّث بالسيّئات، و(يومي) الساعي للاغتسال والتطهُّر من ذلك كلّه. وهي مرآتي التي أعرفُ فيها (نفسي) لأعرف فيها (ربّي)!! لأنّ (العرفان) يتآتى من (المعَرَفة)، والمعَرَفة حصيلة تراكمية لما تعلّمه الإنسان عبر العصور. هنا في (عَرَفة) محطّة استثنائية لمعَرَفة ذاتي في (حدودها) و(قدراتها) ووعيها بـ(خصائصها) و(مميزاتها)، كما هي (وقفة) متأنية ومستغرقة بين يديّ الله جل جلاله!!

ثانياً: عَرَفة مكاناً: جبل قريب من مكّة، يقع غربها على بُعد (10 كم).

ثالثاً: عَرَفة زماناً: يوم عرفات هو اليوم التاسع من ذي الحجة، فما هي إلّا أن نستلق جدار الليلة الثامنة من ذي الحجة حتى نُطلُّ على وجهٍ نريد أن (نعرفَه) و(يعرفنا) اسمه (عَرَفة)، لأنّ بَعدَه نكون غيرنا قَبلَه. إنّه المكان والزمان.. (الانعطافة) التأريخية في حياتنا.

لماذا سُمّيت عرفات بهذا الاسم؟

في الجواب أقوال[3]:

1- إنّه مكان مُعظَّم، معروف، مشهور، فكأنّه لشهرته عُرِّف فَعُرف.

2- أنّ آدم حين هبط من الجنّة عرف حواء وعرفته في هذا الجبل.

3- أنّ الناس يتعارفون فيها في الحج.

ونناقش أسباب التسمية:

1- إنّ الأمكنة المعظَّمة، المعروفة، المشهورة كثيرة جدّاً، فهل كلّ شيء عُرّف فعُرف يُقال له: عَرَفة؟ ربما. لكنه لا يؤشر لنا بسبابته إلى حيث نريد. فالوجه غير قريب للنفس وإن كانت المعروفية في (عَرَفة) تُستلّ من (معَرَفة النفس) و(عرفان الله) و(التعارف مع الناس) إخوتنا من أبينا آدم 7.

2- حين هبط آدم 7 من الجنّة هبوطاً معنوياً لا مكانياً -لأننا نرجّح أنها جنّة أرضية- لم يهبط هبوطاً فردياً، وإنما كان الهبوط بصريح القرآن جماعياً: ﴿قُلْنا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا﴾ (البقرة/ 38). فكيف يعرف حواء وتعرفه في (عَرَفة)؟! هل كانا يجهلان بعضهما قبل ذلك؟ أم افترقا بعد الخروج من الجنّة وراح آدم يبحث عن حوّاه وحواء تبحث عن آدمها؟ هذا وجهٌ للتعريف أو التسمية لا نستقربه.

3- الناس يتعارفون فيها. وجهٌ مقبول نسبيّاً. لأنّه لم يسبق للحجّاج أن اجتمعوا في مكانٍ واحد منذ أن توافدوا من مختلف أقطار الأرض إلى الديار المقدّسة، على الرغم من توجّههم إلى البيت الحرام جميعاً. لا اجتماع كليّاً للحجيج سوى في عَرَفة، ولعلّ هذا هو سبب من أسباب القول "الحج عَرَفة" أي لشهود الجميع الموقف (الواحِد) (الموحِّد).

وبمعنى آخر، فإنّ روافد الحج تلتقي وتصبّ في بحر عَرَفة في اليوم التاسع من ذي الحجة. قبلها الحجّاج متفرقون، وبعدها الحجّاج متفرقون. (فحتى مزدلفة يتفرّق فيها الحجّاج بين مَنْ يشهدها في الليل وبين مَنْ يشهدها قبيل الفجر)، (بل حتى عند انقضاء الموسم، فإنّ البعض قد يتعجّل العودة في يومين من أيام التشريق، والبعض يتأخّر).. فلا فرصة أوسع من فرصة التعارف في (عرفات).. وهو مغنم اجتماعي جسيم لا ينبغي التفريط به.

لكننا ميّالون إلى اعتبار عَرَفة هي كلّ هذا (الجمع): (المعَرَفة) (العرفان) (التعارف). عرفات تعرِّفني نفسي، وتعرِّفني ربِّي، وتعرِّفني أخي الإنسان.

 

التعارف في عَرَفة:

منذ أن أمر الوحي بالتعارف في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ﴾ (الحجرات/ 13). والدعوة إلى التعارف بين بني الإنسان لا تتجه نحو (الاستحباب) في التعارف الشكليّ، وإنما إلى (الوجوب) في الحاجة الأساسية للتكامل من خلال الآخر. فالمرءُ قليلٌ بنفسه كثيرٌ بأخيه، وما عند (زيد) قد لا يوجد عند (عمرو)، وما عند (عمرو) قد لا يكون عند (زيد)، ومن هنا كانت رحلة البحث عن الآخر: الزوج عن الزوجة، والصديق عن صديقه، والرفيق عن رفيقه، والقريب عن البعيد، والقبيلة عن القبيلة، والشعب عن الشعب.

تعارف من أجل ماذا؟

- تعارف من أجل استكمال الإنسانية بالآخر سواءٌ أكان الآخر "أخاً في الدين" أو "نظيراً في الخَلق".

- تعارف من أجل الاستزادة من العلوم والمعارف.. فمائدتُنا المعرفية -مهما تنوّعت- لا تشمل كلّ الأطباق، ولذلك كانت الدعوة إلى "طلب العلم ولو في الصين". والصين مثالٌ وليس حصراً.

- تعارف من أجل المداولة في المشاكل والعقبات والحلول والمقاربات.

- تعارف من أجل التواصي (بالحقّ) و(بالصبر) و(بالمرحمة) في زمن تتقطّع فيه الأواصر وينحصر التواصل في العوالم الافتراضية.

- تعارف من أجل الاغتناء بالخبرات والثقافات والتجارب والبرامج والمشاريع.

- تعارف ليس لإلغاء (التعدُّدية) أو الانصهار في البوتقة الواحدة، بل هو تعارف لتعزيز معنى (التعدُّدية) بما هي إثراء وتلوُّن وتنوُّع ومشارب وأذواق.. إنّه تعارف يحرص على (التعدُّد) بما هو اتساع وارتفاع لا (التوحُّد) بما هو انحصار وانحسار!! للتكامل مع الآخر لا الانصهار فيه أو استنساخه.

في كتابه (الإسلاميون على أعتاب القرن الحادي والعشرين) يقول د. إحسان الأمين: لقد كان التصوّر القديم يقوم على أساس أنّ الوحدة هي حركة الجميع نحو رأس الزاوية، هكذا:

←›

وبالتالي، فكلما تقدّمت الخُطى، اقتربت الأفكار واجتمعت الاتجاهات وتلاقت المسارات نحو نقطة واحدة هي رأس الزاوية، وبهذا فإنّ معنى أن نتحد، أن نتوحّد، أن نتطابق، أن نلتقي في المسير ونسير معاً نحو نقطة واحدة. والوحدة بهذا التصوُّر تعني إلغاء الآخرين، وإبطال الاتجاهات، واجتماع الجميع على منهج واحد[4]، وكان من متطلبات هذا (التصوّر) أن تتحد مناهج الفكر، وخطط السير، وأساليب العمل، لتثبيت عقيدة واحدة وإلغاء الأفكار الأخرى، وإرساء أيديولوجية حاكمة على كلّ شيء تفصِّل القضايا والأشياء على أساس مقاساتها الثابتة التي لا تقبل التجديد والتغيير.

يقول (الأمين) مستطرداً: إنّ التطابق الوحدويّ المزعوم لا يمكن أن نجده في الأسرة الواحدة، بل بين شقيقين توأمين، ولدا من أب واحد وأُمّ واحدة، ونشآ في بيت واحد، فلا يمكن أن تكون ميولهما واتجاهاتهما، ورغباتهما، ونوازعهما، وطاقاتهما، وإمكاناتهما متطابقة.

إنّ التصور الحديث للوحدة الذي خلصت إليه تجارب الإنسانية، وانتهت إليه أفكار البشرية، هو عكس النظرة السابقة، إذ أنه يقوم على أساس السير من رأس الزاوية باتجاه ذراعيها المفتوحين:

→›

أي كلّما تقدمت الإنسانية في مسيرتها، توزّعت في الأفهام أو تنوّعت في الاتجاهات، وتعدّدت في الرؤى، والوحدة الصحيحة، والمجتمع القوي، والدولة المنيعة، التي كلما تقدمت كانت أكثر استيعاباً للرؤى المختلفة، وأكثر انفتاحاً على الاجتهادات والأفكار المستجدة، وكان مجال التعايش والتآلف و(التعارف) أوسع[5].

التعارف في عَرَفة أو (عرفات) هو من هذا المنطلق، ذلك أنّ الاجتماع الكبير على رُبى أو صعيد عرفات لا يلبث أن ينفضّ بـ(الإفاضة) من عرفات، وتتوزّع الروافد من جديد، أي أنّهم بحسب النظرية الحديثة يتجهون من رأس الزاوية باتجاه ذراعيها المفتوحين. وبكلمة، فإنّ اللقاء والتعارف يحقق أو يوجد القواسم المشتركة، والأهداف الموحّدة، والقضايا المصيرية، والتوافق على المواقف الأساسية، ويمكن استعارة تشبيه د. الأمين للأنهار المتدفقة التي تحمل معها الحياة إلى الأصقاع المختلفة لحركة أمواجها المختلفة في سيرها نحو هدف واحد، وبهذا تمتاز الأنهار والبحار المتموّجة على البحيرات المغلقة الراكدة.

وهذا هو نفسه ما أراده النبيّ 6 في خطبة الوداع من حجّة الوداع حينما اختار (عرفات) ليلقي فيها خطبته التي تجمعُ على (الهدف) لكنها لا تحصر (الأساليب)، ذلك أنّ الأهداف (الإسلامية) ثابتة، ولكن الأساليب (توصّلية) متغيرة. و(عرفات) جامعة على الهدف لكنها لا تلغي ثقافات الشعوب وما في أيدي الناس من تراث وثقافات وأعراف وتقاليد وفنون وآداب. (عرفات) مع التعددية، لكنها ضدّ الاحتراب والتناحر والتناقض والتضارب والنزاعات الفئوية المسببة للفشل وإذهاب الريح سُدى!

 

لماذا الحجّ عَرَفة؟

نعتقد أنّ بعض الجواب على هذا السؤال أضحى واضحاً الآن، وهو أنّ كلمة ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ (الحج/ 28)، تترجم ترجمة عملية على رُبى عرفات أكثر من أي موضع آخر من مواضع الحج، وإن كنّا لا نميل إلى التجزئة والتجزيء، ذلك أنّ الحج منظومة فكرية وعملية واحدة، يعمل (الطواف) حول البيت، و(السعي) بين الصفا والمروة. و(الوقوف في عرفات) و(رمي الجمرات) على حياكة نسيج واحد هو: كيف يمكن لهذا التعدُّد أن يلتفّ حول محور كبرويّ يوحِّد نغمات السمفونية لكنه لا يسقط دور كلّ عازفٍ فيها.

لماذا الحج عَرَفة؟

أوّلاً: لأنّه يحقِّق الغاية من التعارف، وقد أشرنا إلى ذلك.

ثانياً: لأنّه يؤكِّد معنى (معَرَفة النفس).

عندما أوصى الإمام محمد الباقر 7 أحد أصحابه واسمه (جابر الجعفي) قائلاً: «لا معَرَفة كمعرفتك بنفسك»[6]، فإنّه كان يشير إلى أفضل المعَرَفة، لأنّ مَنْ عرف نفسه -كما يقول الإمام عليّ 7- عَقَلَ، ومَنْ ازداد عقلاً لا يهمل نفسه ولا يهينها بالتوافه والمحرَّمات والمخزيات، بل ينتهي بها إلى ما يزينها من علوم ومعارف وآداب، وبما يجعلها مطيعة مخلصة لله تعالى من خلال زيادة معرفتها به. ولذلك كان الإمام عليّ 7 يعجب لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه.

إنّ معَرَفة النفس تقود إلى تنزيهها عن الخطايا والدنايا والرزايا، وتبعدها عن الزلل والخلل والخبل. في (عرفات) التي تمثل وقفة دُعائية، يتضرّع فيها الواقف إلى الله تعالى مُفصحاً عن جميع ذنوبه وخطاياه، ومعترفاً لله تعالى بكلّ سوءاته، وتقصيراته في جنبه، وشاكراً له نعمه وأفضاله ومننه وألطافه.. في هذا الحمّام الروحي الذي نغتسلُ فيه من أدران العمر وأوساخه وسائر الملوّثات التي رانت وتراكمت علينا خلاله، ماذا يمكن أن نكسب؟

- نزيل العوالق والأثقال والترهلات والرواسب والشوائب التي تراكمت في فترة الابتعاد عن الله تعالى.

- نتخفف من أعباء الماضي في الإساءة إلى أنفسنا وإلى القريبين منّا.

- نتعهّد إلى الله -طالبين عونه وتوفيقه وهدايته- أن نكون عباداً صالحين حتى لا نخسر ما ربحناه في (الموقف) من غفران كلّي للذنوب ومحو تام للخطايا.

من هذه المعَرَفة بالنفس ندخل إلى (العرفان) أي معَرَفة الله تعالى التي تحصل عن طريقين: (الرجاء) بكلّ ما نرجوه من خير للدنيا والآخرة، و(الخوف) من كلّ ما نخافه من بلاء الدنيا وعقوبات الآخرة. ورد عن الإمام عليّ 7: «أكثر الناس معَرَفة لنفسه أخوفهم لربّه»[7]. وعنه 7: «أعلم الناس بالله أكثرهم له مسألة»[8] أي يرجوهُ ويطلب منه ما يريد.

وعرفان الله تعالى يلخِّصه الإمام جعفر الصادق 7 بقوله: «ثق بالله تكن عارفاً»[9]. فإذا عرفت أنّه لا مهيمن في الوجود سواه، وأنّ بيده كلّ شيء، وأنّه قادر على كلّ شيء، وأنّه الأوسع رحمة، وأحسنت به الظنّ بناء على ذلك، فقد عرفته.

"هذا الكلام النظري سنجد تطبيقاته في الفصل الثاني من الكتاب من خلال اطلاعنا على دعائي الإمام الحسين 7 ودعاء الإمام زين العابدين 7 في يوم عَرَفة، كيف وظّفا (معَرَفة النفس) في (معَرَفة الله) و(عرفانه)".

 

الوقوف في عَرَفة:

الوقوف في عرفات -من وجهة النظر الفقهية- يعني الحضور في تلك البقعة المشرَّفة بنيّة الحج بقصد القربة والإخلاص لله تعالى، وليس المقصود من الوقوف ما يقابل الجلوس، بل إنّ الوقوف مأخوذ من (التوقف) أو (الوقفة) على اعتبار أنّ الحج يشبه بأفعاله مسيرة دائرية يبدأها الحاج من (مكة) وينتهي إليها، فيكون أوّل موقف له هو عرفات. ويجب الوقوف في عَرَفة من زوال الشمس (ظهراً) إلى غروبها. ويوم عَرَفة (زماناً) وساحة عرفات (مكاناً) من أهم الأزمنة والأمكنة التي يتعرّض فيها الحاج لرحمة الله تعالى وعطاياه وجوائزه ومغفرته ورضوانه. ومن آداب الوقوف (مكملات شروطه) هناك:

1- الطهارة: (حال الوقوف، أي عند الدخول إلى عرفات) أي لا يكون الواقف نجساً بأي نوع من النجاسات.

2- الغُسل: (عند الزوال) أي من حين الشروع بالوقوف. والمراد الاغتسال بنيّة القيام بأعمال الوقوف.

3- التفرُّغ للدعاء: (عدم الانشغال بما سواه) والتوجه إلى الله.

4- الوقوف على سفح (جبل الرحمة) من ميسرته.

5- الدعاء بالمأثور (خصوصاً الدعائين المذكورين في الفصل الثاني من هذا الكتاب لقيمتهما المعرفية والعرفانية العالية).

وإذا كانت (الطهارة) و(الغُسل) إزالة النجاسة والوساخة من الجسم هي تنقية ظاهرية لما يعلق به، فإنّ (تفريغ النفس للدعاء) يمثل تنقية داخلية من الشواغل والصوارف التي تحول دون انبثاق الدعاء كنبع من بين صخور القلب، وتخليه -بحسب الإمكان- من كلّ ما سبق يوم عَرَفة من زمان سيِّئ عشناه وما سبق أرض عَرَفة من أمكنة مريبة تواجدنا فيها.

والملاحظ أنّ لا عمل محدداً في (عَرَفة) التي هي ركن الحج وعماده وبها يكتسب الحج اسمه وصفته، فحتى الدعاء ليس واجباً هناك، إذ يكفي مجرد تحقق الوقوف (التواجد في المكان) سواءٌ أكان الواقف (نائماً) أو (مستيقظاً)، (قاعداً) أم (قائماً)، (راكباً) أم (ماشياً). لكن سيرة النبيّ 6 وأهل بيته الأئمة الأطهار: تفيد أنّ (عَرَفة) (محراب دعاء) و(يومُ دعاء ومسألة) و(ضراعة وابتهال) و(اندغام روحي ومناجاة) لما انتهى إلينا من أدعيتهم المأثورة التي عبّروا فيها عن مكنونات ضمائرهم، وحبّهم العميق لله تعالى.

ويرى العلامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله ; في (آفاق الروح -في أدعية الصحيفة السجادية- ج2، ص474) أنّ الوقوف في عَرَفة هو وقوف محاسبة ودراسة للذات، فيقول: «ولعلّ في تشريع الوقوف في عَرَفة في الحج من دون أن يكلِّفه بأيّ عمل من الأعمال بالمعنى الماديّ الإلزامي، نوعاً من الإيحاء، بأنّ الله يريد للإنسان في حركته في الزمن أن يقف وقفة متأمِّلة في حساباته في عمره المتحرِّك في خطّ المسؤولية، لينظر دائماً وليسأل نفسه -في معنى التقوى- ما قدّمتُ لغد، على هدى قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ﴾ (الحشر/ 18)، لأنّ ذلك هو الذي يجعله واعياً لنفسه، ذاكراً لربّه ولموقعه من ربّه، لأنّه إذا ابتعد عن الحسابات الذاتية وعن ذكر الله فإنّه يبتعد عن وعي ذاته».

وليس ثمة دعاء مخصوص يُلزم الواقف به، بل له ما يشاء من الدعاء، حتى إنّ الإمام الصادق 7 رأى أحد أصحابه في عرفات يدعو لإخوانه ويبكي، فهنّأه على الموقف النبيل في ذلك الموقف الجليل، وبارك له دموعه التي تسيل، وبشَّره أنّ له مثل ما يدعو لإخوانه وله أجرُ ما يدعو لهم. (الدعاء) في عَرَفة يعني حرِّية الانفتاح والتعبير والانكشاف بين يدي الله. والدعاء بثلاثية أبعاده: (الشكر) على النعم، (طلب العفو والمغفرة والتوبة)، (سؤال الحاجات) هو الذي يملأ الأرجاء العرفاتية، فكأنّ تلك البقعة القفراء تعمرُ بأزاهير النور والدعاء في ربيع الموسم الربّاني المعطاء. والفقير هناك مَنْ يكتفي بالوقوف المجرد وتصفُّح الوجوه والنظر في ساعة المعصم ليرى متى يحين موعد الإفاضة!

 

دلالة المكان:

معالمُ عرفات هي:

1- جبل عَرَفة:

وهو الجبل الذي يقف الحجيج على سفحه يوم التاسع من ذي الحجة اتباعاً لسنّة النبيّ 6، حيث ورد أنّ الملائكة تزدحم عليه حتى إذا حان وقت الغروب وانقضاء الوقفة العرفاتية جاءهم نداء السماء أن ارفعوا لي حاجات ضيوفي الواقفين في عرفات واشهدوا إنِّي قضيتها جميعاً.

2- منبر عَرَفة:

روى (عمر بن دينار) أنّه رأى منبر النبيّ 6 في زمان ابن الزبير ببطن عُرنة، مبنياً بحجارة ضفيرة[10]، قد ذهب به السيل. وروى (يزيد بن شيبان): كنّا في موقف لنا بعَرَفة فأتانا ابن مربع الأنصاري، فقال: إنِّي رسول رسول الله 6 إليكم يأمركم أن تقفوا على مشاعركم هذه، فإنّكم على إرث من إرث إبراهيم 7.

3- مسجد نمرة:

ويُسمّى مسجد إبراهيم، يقال إنّ إبراهيم الخليل 7 بناه وهو على يمين السالك من مكّة إلى عرفات.

4- جبل الرحمة:

قال (الغير ذري): هو جبل صغير يتكوّن من حجارة صلدة كبيرة يقع في شرق عرفات، وبأسفل هذا الجبل (مسجد الصخرات).

5- مسجد الصخرات:

يقع أسفل جبل الرحمة وفيه صخرات كبار وقف عندها رسول الله 6 عشية عَرَفة وهو على ناقته القصواء.

(جبلان) و(مسجدان) و(منبر)، هذه هي عرفات! فإذا كان الجبلانُ بناءَ الطبيعة وهما من المعالم التي لا تُبتدع أو تُخترع، فإنّ المسجدين، وهما عمارة الإنسان وبناؤه، يعدّان من الشواخص الإسلامية المقترنة مع كلّ معلم تأريخي من معالم مكة والمدينة. فما من معلم أثري إلّا وإلى جانبه (مسجد) أو عدة مساجد، ففي منى (مسجد الخيف)، وفي عَرَفة (مسجد نمرة) و(الصخرات)، وبالقرب من أُحد مسجد، وبالقرب من الخندق المساجد السبعة، وهكذا.

ولهذا دلالته الطبيعية والروحانية، فمنذ أن احتضن (جبل النور) دعوات وصلوات وتأملات النبيّ 6 وهو يتحنّث في (غار حراء) مُستقبِلاً القبلة (الكعبة) التي لم تكن يومذاك قد أُقرّت سماوياً لتكون قبلة المسلمين، والجبلُ (معبدٌ) و(مسجدٌ) و(محرابٌ) و(معتَكفُ)، ومنذ أن بُني على قبور الفتية أصحاب الكهف مسجدٌ في الكهف الذي أووا إليه. والمسجدُ قَرينُ الحادثة التأريخية، ولو لم يكن إبراهيم الخليل 7 قد وقف في عَرَفة لكانت عَرَفة صحراء شأنها أيّ صحراء أخرى: ذات الرمال ونفس الصخور، ولما كان لجبلها هذا الصيت الحسن لولا مباركة الأقدام الإبراهيمية لها، ولو لم يجدِّد النبيّ 6 تلك الوقفة في رُبى عرفات لتتشرف البقعة الطاهرة بالنبيّ الطاهر فتزداد شرفاً وطهارة، لبقيت عرفات قصة من التأريخ البعيد تُرددُ على مسامع الزمن حكاية وقوف إبراهيم 7 فيها ولانتهى مجرى نهرها عند هذا الحدّ، أمّا أن يتحوّل المكانُ الصامتُ ظاهرياً إلى مكان أو (مسجد كبير) يضمّ جموع الحجيج كلَّ عام، فإنّ ألسنةً كثيرةً وبليغةً تتدفق لتحكي الحكاية الأولى التي لا تبلى، والتي لم تعد حكايةً رواها التأريخ، وإنما استحالت مع تجدُّد الوقوف كلّ عام إلى (كائنٍ حيٍّ) ينبضُ بقصص القوافل التي مرّت من هنا، والتي لا تزال تمرّ، والتي تبقى تمرّ حتى تتوقف الأرضُ عن الدوران!

على قمة ذلك الجبل الأشمّ، تتربّع الملائكة كلّ عام في انتظار الإعلان عن بشرى نزول الرحمة على الواقفين بعرفات، وعن غفرانٍ جمعيٍّ أو كليٍّ للذنوب، فلو أنّ الساعة قامت في تلك الساعة لانتقل الواقفون على صعيد عرفات إلى (ساحة المحشر) مغفوراً لهم ذنوبهم أي أنّهم مُؤَهّلون بتمام الأهليّة لسُكنى الجنّة من غير مقدّمات أخرى.

وعلاقة الملائكة بالإنسان ليست مجرد علاقة بين جنسين مُختلفين، وإنما هي علاقة مخلوقين لله تعالى يتواصلان: هكذا في (ليلة القدر) (زماناً)، وهكذا في (عَرَفة) (مكاناً)، وهكذا في كلّ موسم زماناً ومكاناً، وهكذا في كلّ صلاة يصلِّيها ربّ العزّة على عباده الصالحين: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾ (الأحزاب/ 43)، وهكذا في كلّ موقف يثبّتون فيه المؤمنين.

فنحن في (عرفات) المكان كما نحن في (ليلة القدر) الزمان، لقاءٌ التحاميٌّ بين السماء والأرض.. السماء تنزل إلى الأرض لتبارك لأهلها الواقفين في عَرَفة هنيئاً وطوبى لكم! أصبحتم الآن من سُكّان السماء! إنّ عرفات يوم التاسع من ذي الحجة (تتأنسَنْ) و(تتملّك) وتغدو سماوية مباركة، كما هي أرضية مباركة.

 

مقارنة بين الموقفين (عرفات) و(المحشر):

هي (مقابلة) أكثر منها (مقارنة).. وهي (مقاربة) أكثر منها تصويراً أدبياً، فـ(الموقف) هنا في عرفات، و(الموقف) هناك في المحشر في النهاية ربّاني، أي الذي دعا إلى الوقوف في عرفات فاستجاب له الناس من كلّ فجّ عميق، هو الذي يدعو في آخر سطور كتاب الأرض إلى دعوة أوسع وأشمل ليأتي الناس من كلّ بطون الأرض وأصقاعها وأقطارها، فبماذا يمكن أن نخلص من هذه المقابلة الحيّة بين مشهدين (دنيويّ) سنويّ يتكرّر، و(أخروي) فريد عقيم لا يتكرّر؟!

1- في (عرفات) (نداء) و(استجابة)، و(أمرٌ) و(امتثال)، وفي (المحشر) نداءٌ واستجابة وأمرٌ وامتثال، لكن في عرفات الاستجابة طوعية.. هناك مَنْ استجاب وهناك مَنْ لم يستجب، أما في المحشر، فالاستجابة عنوةٌ وقسرية لا تخلّف فيها لأحد.

2- على صعيد (عرفات) يجتمع الناس من كلّ مكان في الأرض ليلتحموا بالزمان والمكان، أما على صعيد (المحشر) فيُجمع الأوّلون والآخرون من لدن (آدم) حتى آخر (آدميّ).. عرفات بهذا المنظور صورةٌ مصغّرةٌ للمحشر.

3- في (عرفات) الكلّ في زيٍّ موحّدٍ يجمع بين (القِماط) وبين (الكَفن).. في (المحشر) عراة حفاة، في عريٍ فاضحٍ كمولودٍ قبل أن يُلفّ بقِماطه، وكميّت قبل أن يُلفّ بأكفانه.

4- في (عرفات) كلّ العيون شاخصة لنزول الرحمة والمغفرة يحدوها الأمل والرجاء والثقة وحُسن الظنّ بالله، وفي (المحشر) كلّ العيون شاخصة والأعناق مشرأبّة والقلوب واجفة راجفة في انتظار إعلان النتائج، والرجاء في (عرفات) في رحمة الله مضاعف لكنه يتضاعف درجاتٍ عُليا وكبرى في ساحة المحشر. ولأنّ عرفات محفلٌ دعائيٌ تضجُّ فيه الأصوات بالضراعة والابتهال والتوسل إلى الله، فإننا بصفتنا ضيوفاً للرحمان نهتبلها فرصةً أثمن من ثمينة لندعوه بنّيات صادقة؛ يا ربّ العالمين وأرحم الراحمين..

 في ساحةٍ صغيرةٍ كساحةِ عرفات أعلمتنا عن طريق نبيّك الصادق الأمين أنّ مَنْ وقفَ في عرفات وظنّ أنْ لن يُغفَر، له فقد أساء الظنّ بك!! هذا والمجالُ مفتوح بعد تلك الوقفة، ليتجدد في ساحة الحياة العطاء والرجاء والعمل، فكيف بنا إذا كانت الوقفة نهائية لا مجال فيها لعودةٍ عن ذنب وتوبةٍ من معصية، إنّ ثقتنا بك لكبيرة، وحُسنُ ظننا بك لوطيد أن تشملنا برحمتك في (الموقف) الأصعب والأعصب، حيث لا فرصة لحجّةٍ أخرى نستدرك بها بعض تقصيراتنا ونستكمل بها بعض نواقصنا.. إنّنا ندعوك بلسانٍ لم نعصكَ به.. لسان وليّك الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين 7، ونقول في (الموقف) الصغير بعرفات عن (الموقف) الكبير في (المحشر):

«يا ربّ هذا مقامُ مَنْ لاذَ بك واستجار بكرمك، وألف إحسانك ونِعَمك، وأنت الجواد الذي لا يضيق عفوك ولا ينقصُ فضلُك ولا تقلُّ رحمتك، وقد توثّقنا منك بالصفح القديم والفضل العظيم والرحمة الواسعة، أفتراك يا ربّ تُخلفُ ظنوننا أو تخيِّب آمالنا، كلّا يا كريم، فليس هذا ظنّنا بك، ولا هذا فيك طمعنا. يا ربّ!! إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً، عصيناك ونحن نرجو أن تستر علينا، ودعوناك ونحن نرجو أن تستجيب لنا، فحقِّق رجاءنا مولانا، فقد علمنا ما نستوجبُ بأعمالنا، ولكن علمُك فينا وعلمنا بأنّك لا تصرفنا عنك حثّنا على الرغبة إليك وإن كنّا غير مستوجبين لرحمتك، فأنت أهل أن تجود علينا وعلى المذنبين بفضل سعتك، فامنن علينا بما أنت أهله وجدْ علينا فإنّا محتاجون لنيلك»[11]!!

5- بعد (عرفات) نعود إلى ديارنا.. وبعد (المحشر) إمّا جنةٌ (دار السلام والقرار) وإمّا (نار) ساءت مستقراً ومقاماً. في الدنيا وبعد الوقفة العرفاتية نعودُ جميعاً فرحين إنّك غفرت لنا ما تقدَّم من ذنوبنا (ولم تجوِّز لأحدٍ منّا أن يُسيء الظنّ بأنّك لم تغفر له في الموقف العرفاتي) فكيف بنا بعد الوقفة المحشرية التي لا تملُك فيها ظُنونُنا إلّا أن تكون حسنةً في رحمتك التي ادخرت منها ليوم الفاقة (99%) من رحمتك الكلِّية، فإذا كنت برحمة الواحد بالمئة غفرت لنا ذنوبنا بموقفنا في عرفات، فإنّ ظننا وطمعنا بمغفرتك في اليوم العصيب والموقف الرهيب، لأعظم.

هذا استذكارٌ نضعه نصب أعيننا ونحن في (الموقف) في عرفات، تماماً كما ورد في خطبة النبيّ 6 التي استقبل فيها شهر رمضان: «واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع وعطش يوم القيامة»[12]، نتذكّر فيه ذلّ موقفنا بين يدي الله تعالى في المحشر، ونرجوه بقلوبٍ طاهرةٍ أن يجعل موقفنا في المحشر محفوفاً بالرحمة مثل موقفنا في عرفات وأكثر.

 

لحظة الاغتنام:

حينما تهمُّ الشمس المُطلّةُ على رُبى عرفات أن تغيب، فدونكم، دونكم.. إنّها لحظات الاستجابة، ولحظات (الإفاضة) للرحمة الإلهية قبل (الإفاضة) من الموقف العرفاتي، إنّها وقت توزيع الهدايا الجوائز والمنح والعطايا بالجملة.. يقول (عبد الله بن ميمون) سمعتُ الإمام الصادق 7 يقول: إنّ رسول الله 6 وقف لعرفات، فلمّا همّت الشمس أن تغيب قبل أن يندفع (يفيض منصرفاً إلى مزدلفة) قال:

«اللّهمّ إنِّي أعوذُ بك من (الفقر)، ومن (تشتت الأمر)، ومن شرِّ ما يُحدثُ بالليل والنهار، أمسى (ظلمي) مستجيراً بـ(عفوك)، وأمسى (خوفي) مستجيراً بـ(أمانك)، وأمسى (ذُلّي) مستجيراً بـ(عزَّك)، وأمسى (وجهي الفاني) مستجيراً (بوجهك الباقي)، يا خير من سُئل، ويا أجود مَنْ أعطى، جلِّلني برحمتك، وألبسني عافيتك، واصرف عنِّي شرَّ جميع خلقك»[13]!

وروى أبو بصير عنه 7 قال: إذا غربت الشمس يوم عَرَفة، فقل:

«اللّهمّ لا تجعله آخرَ العهدِ من هذا الموقف، وارزقنيه من قابل أبداً ما أبقيتني، واقلبني اليوم مُفلحاً مُنجحاً مُستجاباً لي، مرحوماً مغفوراً لي، بأفضل ما ينقلب به اليوم أحدٌ من وفدك وحجّاج بيتك الحرام، واجعلني اليوم من أكرمِ وفدِك عليك، وأعطني أفضل ما أعطيت أحداً منهم من الخير والبركة والرحمة والرضوان والمغفرة، وبارك لي في ما أرجع إليه من أهل ومال أو قليل أو كثير، وبارك اللّهمّ فيّ» (راجع النص الثاني في الفصل الثاني من الكتاب وانظر كيف اغتنم الإمام الحسين 7 آخر اللحظات في عرفات وفعل مثله ولده السجاد 7).

لا تستعجل (الإفاضة) المكانية حتى تحظى بالقبول في (الإفاضة) الربّانية!!

 

حُسنُ الظنِّ بالله:

مرّ بنا الحديث في أنّ مَنْ وقف في عرفات وظَنّ أنّ الله لم يغفر له فقد أساء الظنّ بالله تعالى، وفي ذلك لفتةٌ رحمانية ورحيمية واسعة لا تقدر كلماتنا العاجزة عن تبيانها. ولا نعتقد أنّ هديةً ينالها الحاج في موسمه أعظم وأكبر من هذه، إنّها هدية الهدايا وذروة المُنى. وعودة إلى عرفان الإنسان بالله تعالى، فإنّ حُسن الظنّ به عزّ وجلّ يعني توقع الخير منه دائماً وأبداً، وأن تتجه أبصارنا الآثمة وقلوبنا الملوّثة شطر رجاءه بلا انقطاع، وإلى الأمل بلطفه ورحمته ومغفرته وتوفيقه بلا أدنى شك، لأننا إذا عرفنا ربّنا أيقنا أنّه إذا وعد وفى وإذا منع فلخيرنا وصلاحنا.

ورد عن الإمام الصادق 7: «حُسن الظن بالله أن لا ترجو إلّا الله ولا تخاف إلّا ذنبك»[14]. وفي الرواية عن النبيّ 6: «ليس من عبدٍ (إنسان) يظنّ بالله خيراً إلّا كان عند ظنّه به، وذلك قوله عزّ وجلّ: ﴿ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ﴾ (فصّلت/ 23)»[15].

ويُبيِّن 6 سبب حُسن الظنّ بالله، فيقول: «لأنّ الله كريم بيده الخيرات، يستحي أن يكون عبده المؤمن قد أحسن به الظنّ ثمّ يُخلف ظنّه ورجاءه، فاحسنوا بالله الظنّ وارغبوا إليه»[16] وعلى ذلك فحُسنُ الظنّ بالله ينفع في كلّ المواقف وليس في الموقف في عرفات فحسب، ومن هنا عدّه 6 (عبادة)، بل من أحسنها، فعنه 6: «حُسنُ الظنّ من حُسن العبادة»[17].

وحُسن الظنّ به جلّ جلاله يجب أن يتنامى في وجداننا من خلال وعي حضوره واحترامه وشكره، حتى نأتي الموقف في المحشر ونحن على يقين أنّ الله لن يُخلف لنا ظنوننا. رُوِي عن الإمام عليّ 7: «مَنْ حسن ظنّه بالله فاز بالجنّة»[18].

وفي (مستدرك الوسائل) عن الإمام أمير المؤمنين عليّ 7 أنّ رسول الله 6 لمّا حجّ حجّة الوداع وقف بعَرَفة فأقبل على الناس بوجهه، فقال: «مرحباً بوفد الله (قالها ثلاث مرّات) الذين إن سألوا أُعطوا، وتُخلَفُ (تُعوَّض) نفقاتهم، ويُجعل لهم في الآخرة بكلّ درهم ألفٌ من الحسنات، ثمّ قال: أيّها الناس ألا أُبشِّركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال 6: إنّه إذا كانت هذه العشية (وقت الإفاضة) باهى الله بأهل هذا الموقف الملائكة، فيقول: يا ملائكتي أنظروا إلى عبيدي وإمائي أتوني من أطراف الأرض شُعثاً غُبراً، هل تعلمون ما يسألون؟ فيقولون يسألونك المغفرة. فيقول: أشهدكم أنِّي قد غفرتُ لهم، فانصرفوا من موقفكم مغفوراً لكم ما سلف»! إننا (يا ربّ) سوف نأتيك من بطون أطراف الأرض شُعثاً غُبراً خارجين من قبورنا، نسألك المغفرة، وكما أنت في السماء إله وفي الأرض إله، فأنت الغفورُ في (عرفات) نفسك الرحمان الرحيم الغفورُ في (المحشر)!!

 

الإفاضة من عرفات:

الآن وقد حمل كلّ حاجٍ هديته الكبرى وجائزته العظمى معه: نقاءً وصفاءً كيوم ولدته أُمّه عارياً من جميع ذنوبه، كيف يستقبل الآتي من أيامه؟ إنّه سؤال برسم كلّ حاج يفيض من عرفات؟

ومن أجل أن نكون موضوعيين، فإنّ الثوب الأبيض المُتسخ إذا غُسل عاد إلى بياضه نقياً من الأوساخ، لكنه ما أن يتعرّض إلى الملوّثات من جديد حتى يحتاج إلى الغسل من جديد، وهذا هو حال قلوبنا ودواخلنا وضمائرنا وأرواحنا بعد أن نفيض من عرفات، فقد يتلوّث البعض منّا وهو في الطريق إلى المشعر في مزدلفة، ولكنّ الله تعالى مَيّزَ بين اثنين يتعرّضان إلى وساوس الشيطان: أحدهما يمضي معها حتى النهاية، والآخر يتذكّر أنّ الله يراقبه فيرجع وقد انزاحت الغشاوة الشيطانية عن عينيه، يقول سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف/ 201).


 

نُصوص عَرَفاتية

 

- خطبة النبيّ 6 في حجّة الوداع بعَرَفة

- دعاء الإمام الحسين 7 في يوم عَرَفة

- دعاء الإمام زين العابدين 7 في عَرَفة


 

أوّلاً: خطبة النبيّ 6 في حجة الوداع بعَرَفة:

السبب في اختيارها:

كما يتبيّن من نصّها، فإنّ الخطبة المفصلية تتضمّن المبادئ الأساسية للدين الإسلامي في بُعده الاجتماعي، وقد اعتبرها بعضُ مَنْ حقَّق فيها بأنّها جاءت على صيغة مقررات واجبة الالتزام والعمل بها، لا من قِبَل مَنْ حضر معه الحج في السنة العاشرة للهجرة، وإنما لكلّ المسلمين على مَرّ الأجيال، بل ولكلّ البشرية في مختلف أصقاع الأرض، نظراً لورود التعميم في خطابه 6 بقوله "أيّها الناس" وتكرار ذلك في أكثر من فقرة، فلم يخصصه بجنس أو زمان أو مكان، الأمر الذي يجعل من معطيات النصّ زاداً ثقافياً ومعرفياً مواكباً للزمن كلّه، ويضعنا أمام المسؤولية كما وضع الذين حجّوا مع النبيّ 6 في ذلك العام أمامها.

وعلى أيّة حال، سنحاول بعد الاطلاع على النصّ والتأمُّل في أبعاده ومعانيه أن نستجلي مضامينه الأساسية، لكي يشعر الحاج اليوم وهو يتلو الخطبة واحداً من شعورين متكاملين: إنّه يقف في عرفات مع جموع الحجيج التي احتشدت لتستمع إلى خطبة النبيّ 6 في عَرَفة وإنّ الكلمات تأتيه طازجة حيّة من فم النبيّ 6، أو أنّه في مستوى أرقى حيث يرى أنّه 6 يقف اللحظة بين شاهدي الموسم ليجدِّد خطابه فيهم.

لنمعُن ونُنعم النظر في النصّ أوّلاً:

«الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا مَنْ يهده الله فلا مضل له ومَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أنّ لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحثّكم على طاعته واستفتح بالذي هو خير. أمّا بعد أيّها الناس اسمعوا منِّي أبيِّن لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيّها الناس! إنّ دماءكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى مَنْ ائتمنه عليها.

وإنّ ربا الجاهلية موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وقضى الله أنّه لا ربا، وإن أوّل ربا أبدأ به عمي العباس بن عبدالمطلب.

وإنّ دماء الجاهلية موضوعة، وإنّ أوّل دم نبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب. وإنّ مآثر الجاهلية موضوعة غير السدانة والسقاية والعمد قود وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر وفيه مائة بعير، فمن زاد فهو من أهل الجاهلية، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

1- التحذير من ألاعيب الشيطان: أما بعد أيّها الناس إنّ الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه، ولكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم، أيها الناس إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً ليوطئوا عدّة ما حرَّم الله فيحلوا ما حرَّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله. وإنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإنّ عدّة الشهور عند الله إثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذوالقعدة وذوالحجة والمحرم ورجب[19] مضر الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

2- التوصية بالنساء: أما بعد أيها الناس إنّ لنسائكم عليكم حقاً ولكم عليهنّ حقّ. لكم أن لا يوطئن فرشهم غيركم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم إلّا بإذنكم ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنّ وتهجروهنّ في المضاجع وتضربوهنّ ضرباً غير مبرح، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنّهنّ عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئاً، وإنّكم إنما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنّ خيراً، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

3- الوصية بالإخوة الإيمانية: أيها الناس إنما المؤمنون إخوة ولا يحل لامرئ مال لأخيه إلّا عن طيب نفس منه، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

فلا ترجعن بعدي كافراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإنِّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله وسنّة نبيّه، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

4- الوحدة الإنسانية: أيها الناس إنّ ربكم واحد وإنّ أباكم واحد كلّكم لآدم وآدم من تراب أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلّا بالتقوى، ألا هل بلغت اللّهمّ فاشهد.

 قالوا نعم. قال: فليبلغ الشاهد الغائب.

5- وصاياه في الإرث والتبني: أيها الناس إنّ الله قد قَسَّم لكلّ وارث نصيبه من الميراث ولا يجوز لوارث وصية، ولا يجوز وصية في أكثر من ثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر. مَنْ ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل. والسلام عليكم».

وردت نصوص عديدة للخطبة لكننا اعتمدنا المشار إليه لانسجامه مع مبادئ الإسلام التي بَشّرَ بها النبيّ 6 قبل وداعه، ولمناسبة النصّ سياق الموقف. ومن المناسب الإشارة إلى الأجواء التي رافقت إلقاء الخطاب لنقل صورة حيّة يحاول الحاج أن يعيشها أو يتعايش معها أو يستحضرها بقدر تفاعله الوجداني معها.

روى (الواقدي): «أنّ رسول الله 6 لم يركب من منى حتى رأى الشمس قد طلعت، ثمّ ركب فانتهى إلى عَرَفة فنزل بنمرة، وقد ضُرب له بها قبةٌ من شعر، فلما كان حين زاغت الشمس (غربت) أمر رسول الله 6 براحلته القصواء إلى بطن الوادي (بطن عَرَفة)، وخطب هناك، فلمّا كان آخر الخطبة أذّن (بلال) وسكت رسول الله 6 من كلامه، فلمّا فرغ بلال من أذانه، تكلّم رسول الله 6 بكلمات وأناخ راحلته، وأقام بلال، فصلّى رسول الله 6 الظهر».

 والملاحظ هنا أنّ منبر رسول الله 6 كان ظهر ناقته، وأنّ وقت خطبته كان قبيل صلاة الظهر مما يدعو إلى استذكار واستحضار هذه الصورة وتلك الخطبة في نفس الموعد كلّ عام.

هذا وقد استلّ صاحب كتاب (دروس في السيرة النبويّة) أهمّ معطيات الخطبة التي يمكن إيجازها بالآتي:

1- تربية الأُمّة على قيم ومفاهيم الإسلام، حيث لا يمثل الحج مجرد طقوس عبادية وإنما يتعدّاها إلى ملامسة قضايا المسلمين وأوضاعهم الاجتماعية والسياسية والتربوية، أي إنّه 6 أدخلهم في دورة روحية -تربوية- اجتماعية تلقوا خلالها الدروس والمواعظ والإرشادات، وعادوا إلى قبائلهم وبلدانهم وهم مفعمون بهذه الروح، يحملون بشائر الخير إلى أهليهم ليكونوا بدورهم المعلِّمين والمبلِّغين والمربِّين والداعين إلى الله ليستمر العطاء دواليك من جيل إلى جيل.

2- تربية الأُمّة على التوحيد الخالص لله، حيث كانوا يلبّون تلبية واحدة ويهتفون بهتاف واحد ويؤدُّون مناسكهم موحِّدين الله ذاتاً وصفاتاً وعبودية وعبادة، مخلصين له الدين، وخير مظاهر هذا التوحيد هو إلتفافهم حول رسول الله 6 الذي خطب فيهم معلماً ومرشداً وهم يعلمون إنّه لا ينطق عن الهوى إنّ هو إلّا وحيٌ يوحى.

3- تربية الأُمّة على مبادئ الإسلام الأساسية، ومن أهم تلك المبادئ التي أعلنها رسول الله 6على رؤوس الأشهاد في عَرَفة، هي:

أ) حرمة الأموال والدماء والأعراض:

وهي الحجر الأساس في كلّ التشريعات السماويّة، فلابدّ من صيانتها من أي انتهاكٍ، أو تعدٍّ، وحلال محمّد 6 -كما هو معلوم- حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. فلم يكن إعلانه مجرد توصيات عابرة، وإنما كان إقراراً لمبادئ مجتمعية تصلح لكلّ زمان ولابدّ من الأخذ والالتزام بها من أجل صلاح الأُمّة وسعادتها.

ب) حرمة الرِّبا:

وانّه من أبرز مظاهر الظلم الذي يسحق الفقراء في الأرض، فجاء قراره النبويّ مستنبطاً ومستوحى من الموقف الرافض للرِّبا في القرآن ليرفع عن كاهل الأُمّة وسيلة من وسائل الاستعباد التي يستغل بها الأغنياء الفقراء، فقال في لهجة شديدة: «إنّ كلّ ربا موضوع.. قضى الله أن لا ربا».

ت) إرساء مبدأ الأخوّة الإسلامية:

فبعد أن حرص 6 على تطبيقه عملياً من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في بداية هجرته إلى المدينة، هاهو يقف على صعيد عَرَفة ليعلن هذا المبدأ على الملأ لئلاّ تطمس جهوده التي قطف المسلمون ثمارها الطيِّبة الخيِّرة ولمسوا نتائجها العملية لمس اليد وهو بين ظهرانيهم لم يستثنِ نفسه من مؤاخاتها مع الإمام عليّ 7.

إنّه نداء ما أحوج المسلمين اليوم إعادة الاعتبار إليه وإحيائه من جديد: «اسمعوا قولي واعقلوه: تعلمنّ أنّ كلّ مسلم أخٌ للمسلم، وأنّ المسلمين أخوة، فلا يحلّ لامرئٍ من أخيه إلّا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمنّ أنفسكم»، فالمسلم هو أخ المسلم ونفسه أيضاً.

ث) التقوى أساس التفاضل:

جاء في بعض المصادر أنّه 6 قال في خطبته: «لا فضل لعربيّ على أعجميّ، ولا أعجميّ على عربيّ، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلّا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب»[20].

أي أنّ أساس ومعيار التفاضل والأرجحية في الإسلام لا يُبتنى على اللونية والعرقية والعشائرية والقومية والحزبية والفئوية والطائفية، وإنما هو السير في خط الإيمان والاستقامة، وأكرم الناس أتقاهم، وخير الناس مَنْ نفع الناس.

جـ) مبدأ الحقوق والواجبات في التعامل مع النِّساء:

حيث خصّص 6 فقرة كاملة من خطبته للحديث عن النساء موصياً بهنّ خيراً، ليزيل آخر رواسب الجاهلية ويمحو ما تبقى من آثارها الوخيمة، ويلغي نهائياً النظرة المتدنية ويثبت معيار التقوى والعمل الصالح في التفاضل، ومراعاة حقوق المرأة، وفوق كلّ هذا والأهم منه التمسك بمصدري التشريع كضمانة من عدم التيه والانحراف والاستغراق في المصالح الذاتية الضيقة دون المصلحة الإسلامية العليا.


 

دُعاء الإمام الحسين 7 في يوم عَرَفة

 

رُوِي أنّ بشراً وبشيراً ولدا غالب الأسدي قالا: لّما كان عصر عَرَفة في عرفات، وكنّا عند أبي عبدالله الحسين 7، خرج 7 من خيمته مع جماعة من أهل بيته وأولاده وشيعته بحال التذلل والخشوع والاستكانة، فوقف في الجانب الأيسر من الجبل، وتوجّه إلى الكعبة، ورفع يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب طعاماً، وقرأ هذا الدعاء:

«الْحَمْدُ للهِ الَّذي لَيْسَ لِقَضآئِهِ دافِعٌ، وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ، وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِع، وَهُوَ الْجَوادُ الْواسِعُ، فَطَرَ أجْناسَ الْبَدائِعِ (أصناف المخلوقات)، وأتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعَ، لا تَخْفى عَلَيْهِ الطَّلائِعُ (الذين يبعثون للاطلاع على العدو)، وَلا تَضيعُ عِنْدَهُ الْوَدائِعُ (المحفوظات)، جازي كُلِّ صانِع (مكافيء كلّ عامل)، وَرائِشُ كُلِّ قانع (الجواد بالمال والمنصب على كلّ قانع برزقه)، وَراحِمُ كُلِّ ضارِع (مبتهل)، وَمُنْزِلُ الْمَنافِعِ وَالْكِتابِ الْجامِعِ، بِالنُّورِ السّاطِعِ، وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ، وَلِلْكُرُباتِ (المصائب) دافِعٌ، وَلِلدَّرَجاتِ رافِعٌ، وَلِلْجَبابِرَةِ قامِعٌ، فَلا إلهَ غَيْرُهُ، وَلا شَيءَ يَعْدِلُهُ، وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ، وَهُوَ السَّميعُ الْبَصيرُ، اللَّطيفُ الْخَبيرُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ، اللّهُمَّ اِنّي اَرْغَبُ إِلَيْكَ، وَاَشْهَدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ لَكَ، مُقِرّاً بِأنَّكَ رَبّي، إلَيْكَ مَرَدّي، اِبْتَدَأتَني بِنِعْمَتِكَ قَبْلَ اَنْ أكُونَ شَيْئاً مَذكوراً، وَخَلَقْتَني مِنَ التُّرابِ، ثُمَّ اَسْكَنْتَنِي الأصْلابَ (فقرات الظهر)، آمِناً لِرَيْبِ الْمَنُونِ (حوادث الدهر)، وَاخْتِلافِ الدُّهُورِ والسِّنينَ، فَلَمْ أزَلْ ظاعِناً مِنْ صُلْب إلى رَحِم، في تَقادُم مِنَ الأيّامِ الْماضِيَةِ، وَالْقُرُونِ الْخالِيَةِ (الماضية)، لَمْ تُخْرِجْني لِرَأفَتِكَ بي، وَلُطْفِكَ لي، وَإحْسانِكَ إلَيَّ، في دَوْلَةِ أئِمَّةِ الْكُفْرِ الَّذينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ، وَكَذَّبُوا رُسُلَكَ، لكِنَّكَ أخْرَجْتَني للَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى، الَّذي لَهُ يَسَّرْتَني، وَفيهِ أنْشَأْتَني، وَمِنْ قَبْلِ رَؤُفْتَ بي بِجَميلِ صُنْعِكَ، وَسَوابِغِ نِعَمِكَ، فابْتَدَعْتَ (من غير مثال سابق) خَلْقي مِنْ مَنِىّ يُمْنى، وَأسْكَنْتَني في ظُلُمات ثَلاث (ظلمة البطن والرحم والمشيمة)، بَيْنَ لَحْم وَدَم وَجِلْد، لَمْ تُشْهِدْني (تطلعني أو تريني بعيني) خَلْقي، وَلَمْ تَجْعَلْ إلَيَّ شَيْئاً مِنْ أمْري، ثُمَّ أخْرَجْتَني لِلَّذي سَبَقَ لي مِنَ الْهُدى إلَى الدُّنْيا تآمّاً سَوِيّاً (كامل الخلقة)، وَحَفِظْتَني فِى الْمَهْدِ (مرقد الطفل) طِفْلاً صَبِيّاً، وَرَزَقْتَني مِنَ الْغِذآءِ لَبَناً مَرِيّاً (سائغاً لذيذاً)، وَعَطَفْتَ عَلَىَّ قُلُوبَ الْحَواضِنِ (المربيات)، وَكَفَّلْتَنِي الأمَّهاتِ الرَّواحِمَ، وَكَلأتَني (حرستني) مِنْ طَوارِقِ (شرور) الْجآنِّ، وَسَلَّمْتَني مِنَ الزِّيادَةِ وَالنُّقْصانِ، فَتَعالَيْتَ يا رَحيمُ يا رَحْمنُ، حتّى إذَا اسْتَهْلَلْتُ (إبتدأت) ناطِقاً بِالْكَلامِ، أتْمَمْتَ عَلَىَّ سَوابِغَ (جزيل) الأنعامِ، وَرَبَّيْتَني آيِداً (مؤيداً بفضلك) في كُلِّ عام، حَتّى إذَا اكْتَمَلَتْ فِطْرَتي، وَاعْتَدَلَتْ مِرَّتي (اشتد عقلي واعتدل مزاجي)، أوْجَبْتَ عَلَيَّ حُجَتَّكَ، بِأنْ ألْهَمْتَني مَعْرِفَتَكَ، وَرَوَّعْتَني بِعَجايِبِ حِكْمَتِكَ، وَأيْقَظْتَني لِما ذَرَأتَ (خلقت) في سَمآئِكَ وَأرْضِكَ مِنْ بَدائِعِ خَلْقِكَ، وَنَبَّهْتَني لِشُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَأوجَبْتَ عَلَيَّ طاعَتَكَ وَعِبادَتَكَ، وَفَهَّمْتَني ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُكَ، وَيَسَّرْتَ لي تَقَبُّلَ مَرْضاتِكَ، وَمَنَنْتَ (تفضلت) عَلَيَّ في جَميعِ ذلِكَ بِعَونِكَ وَلُطْفِكَ، ثُمَّ إذْ خَلَقْتَني مِنْ خَيْرِ الثَّرى (مكوّنات الأرض)، لَمْ تَرْضَ لي يا إلهي نِعْمَةً دُونَ أُخرى، وَرَزَقْتَني مِنْ أنواعِ الْمَعاشِ، وَصُنُوفِ الرِّياشِ (الأثاث) بِمَنِّكَ الْعَظيمِ الأعْظَمِ عَلَيَّ، وَإحْسانِكَ الْقَديمِ إلَيَّ، حَتّى إذا أتْمَمْتَ عَلَيَّ جَميعَ النِّعَمِ، وَصَرَفْتَ عَنّي كُلَّ النِّقَمِ، لَمْ يَمْنَعْكَ جَهْلي وَجُرْأَتي عَلَيْكَ أنْ دَلَلْتَني إلى ما يُقَرِّبُني إلَيْكَ، وَوفَّقْتَني لِما يُزْلِفُني (يقرّبني) لَدَيْكَ، فَاِنْ دَعْوَتُكَ أجَبْتَني، وَإنْ سَأَلْتُكَ أعْطَيْتَني، وَإنْ أطَعْتُكَ شَكَرْتَني، وَإنْ شَكَرْتُكَ زِدْتَني، كُلُّ ذلِكَ إكْمالٌ لأنْعُمِكَ عَلَيَّ، وَإحْسانِكَ إلَيَّ، فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ، مِنْ مُبْدِيء مُعيد، حَميد مجيد، تَقَدَّسَتْ أسْمآؤُكَ، وَعَظُمَتْ آلاؤُكَ (نِعمك)، فَأَيُّ نِعَمِكَ يا إلهي أُحْصى عَدَداً وَذِكْراً، أمْ أيُّ عَطاياكَ أَقُومُ بِها شُكْراً، وَهِيَ يا رَبِّ اَكْثرُ مِنْ اَنْ يُحْصِيَهَا الْعآدّوُنَ، أَوْ يَبْلُغَ عِلْماً بِهَا الْحافِظُونَ، ثُمَّ ما صَرَفْتَ وَدَرَأتَ (دفعت) عَنّي اللّهُمَّ مِنَ الضُرِّ وَالضَّرّآءِ، أكْثَرَ مِمّا ظَهَرَ لي مِنَ الْعافِيَةِ وَالسَّرّآءِ، وَأنَا أشْهَدُ يا إلهي بِحَقيقَةِ إيماني، وَعَقْدِ عَزَماتِ (جمع عزم هو الصبر والجدّ) يَقيني، وَخالِصِ صَريحِ (أصيل غير هجين، وواضح شديد الوضوح) تَوْحيدي، وَباطِنِ مَكْنُونِ ضَميري (المختفي والمستور في ستري)، وَعَلائِقِ مَجاري نُورِ بَصَري (كلّ ما له علاقة بمجرى النور في العين)، وَأساريرِ صَفْحَةِ جَبيني (قسمات وملامح جبهتي)، وَخُرْقِ مَسارِبِ نَفْسي (ما يخترق مجاري نفسي)، وَخَذاريفِ مارِنِ عِرْنَيني (ما لانَ من عظام أنفي)، وَمَسارِبِ سِماخِ سَمْعي (مجاري قناة أذني التي اسمح بها)، وَما ضُمَّتْ وَأطبَقَتْ عَلَيْهِ شَفَتايَ، وَحرِكاتِ لَفظِ لِساني، وَمَغْرَزِ (موضع الغرز، حين ينبت) حَنَكِ فَمي وَفَكّي، وَمَنابِتِ أضْراسي، وَمَساغِ مَطْعَمي وَمَشْرَبي، وَحِمالَةِ أُمِّ رَأْسي (ما يحمل دماغي)، وَبُلُوغِ فارِغِ حبائِلِ عُنُقي (الحبال التي ترفع عنقي)، وَمَا اشْتَمَلَ عَليْهِ تامُورُ صَدري (وعاء صدري)، وَحمائِلِ حَبْلِ وَتيني (ما يحمل الشريان الرئيسي الذي يغذّي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب)، وَنِياطِ حِجابِ قَلْبي (العروق الغليظة المتعلقة بالقلب)، وَأَفْلاذِ حَواشي كَبِدي (قطع الكبد الصغيرة)، وَما حَوَتْهُ شَراسيفُ أضْلاعي (جمع شرسوف وهو الطرف الليّن من الضلع)، وَحِقاقُ مَفاصِلي (الأوعية التي فيها المفاصل)، وَقَبضُ عَوامِلي (ما يُمسك أرجلي)، وَأطرافُ أنامِلي وَلَحْمي وَدَمي، وَشَعْري وَبَشَري، وَعَصَبي وَقَصَبي، وَعِظامي وَمُخّي وَعُرُوقي، وَجَميعُ جَوارِحي (أعضائي)، وَمَا انْتَسَجَ (ما ابتُني من النسيج وهو نشوء الشيء تدريجياً) عَلى ذلِكَ أيّامَ رَضاعي، وَما أقلَّتِ الأرْضُ (حملت) مِنّي، وَنَوْمي وَيقَظَتي وَسُكُوني وَحرَكاتِ رُكُوعي وَسُجُودي، أنْ لَوْ حاوَلْتُ وَاجْتَهَدْتُ مَدَى الأعصارِ وَالأحْقابِ (عبر الأزمنة) لَوْ عُمِّرْتُها (عشتها) أنْ أُؤَدِّي شُكْرَ واحِدَة مِنْ أَنْعُمِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ذلِكَ إلاّ بِمَنِّكَ (بفضلك) الْمُوجَبِ عَلَيَّ بِهِ شُكْرَكَ أبَداً جَديداً، وَثَنآءً طارِفاً عَتيداً (جديداً حاضراً)، أجَلْ وَلوْ حَرَصْتُ أنَا وَالْعآدُّونَ مِنْ أنامِكَ (خلقك)، أَنْ نُحْصِيَ مَدى إنْعامِكَ، سالِفِهِ وَآنِفِهِ (قديمة وسابقة) ما حَصَرْناهُ عَدَداً، وَلا اَحْصَيناهُ أمَداً، هَيْهاتَ أنّى (كيف) ذلِكَ وَأنْتَ الْمُخْبِرُ في كِتابِكَ النّاطِقِ، وَالنَّبَأِ الصّادِقِ، وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها، صَدَقَ كِتابُكَ اللّهُمَّ وَإنْبآؤُكَ، وَبَلَّغَتْ أنْبِيآؤُكَ وَرُسُلُكَ، ما أنْزَلْتَ عَلَيْهِمْ مِنْ وَحْيِكَ، وَشَرَعْتَ لَهُمْ وَبِهِمْ مِنْ دينِكَ، غَيْرَ أَنّي يا إلهي أشْهَدُ بِجُهْدي وَجِدّي، وَمَبْلَغِ طاعَتي (غاية قدرتي) وَوُسْعي، وَأَقُولُ مُؤْمِناً مُوقِناً، اَلْحَمْدُ للهِ الَّذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فَيَكُون مَوْرُوثاً، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَريكٌ في مُلْكِهِ فَيُضآدُّهُ فيَما ابْتَدَعَ، وَلا وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ فَيُرْفِدَهُ (يمدّه بالمساعدة) فيما صَنَعَ، فَسُبْحانَهُ سُبْحانَهُ، لَوْ كانَ فيهِما آلِهَةٌ إلّا الله لَفَسَدَتا وَتَفَطَّرَتا، سُبْحانَ اللهِ الْواحِدِ الأحَدِ الصَّمَدِ الَّذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ، اَلْحَمْدُ للهِ حَمْداً يُعادِلُ حَمْدَ مَلائِكَتِهِ الْمُقَرَّبينَ، وَأنْبِيائِهِ الْمُرْسَلينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلى خِيَرَتِهِ مُحَمَّد خاتَمِ النَّبِيّينَ، وَآلِهِ الطَّيِبينَ الطّاهِرينَ المُخلَصينَ وَسَلَّمَ.

ثمّ اندفع في المسألة واجتهد في الدُّعاء، وقال وعيناه سالتا (تسيلان) دموعاً:

اللّهُمَّ اجْعَلْني أخْشاكَ كَاُنّي أراكَ، وَأسْعِدْني بِتَقوايكَ، وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيَتِكَ، وَخِرْ لي في قَضآئِكَ (اختر لي ما هو صالحٌ لي)، وَبارِكْ لي في قَدَرِكَ، حَتّى لا أُحِبَّ تَعْجيلَ ما أخَّرْتَ وَلا تَأخيرَ ما عَجَّلْتَ، اللّهُمَّ اجْعَلْ غِنايَ في نَفْسي، وَالْيَقينَ في قَلْبي، وَالإخْلاصَ في عَمَلي، وَالنُّورَ في بَصَري، وَالْبَصيرَةَ في ديني، وَمَتِّعْني بِجَوارِحي، وَاجْعَلْ سَمْعي وَبَصَريَ الْوارِثَيْنِ مِنّي، وَانْصُرْني عَلى مَنْ ظَلَمَني، وَأرِني فيهِ ثَاْري وَمَآرِبي، وَأقِرَّ بِذلِكَ عَيْني، اللَّهُمَّ اكْشِفْ كُرْبَتي (ارفع همّي وغمّي)، وَاسْتُرْ عَوْرَتي (اخفِ خطاياي ولا تفضحني بها)، وَاغْفِرْ لي خَطيئَتي، وَاخْسَأ شَيْطاني (أبعده عن إغرائي بإذلاله وإهانته)، وَفُكَّ رِهاني (خلصني من حبسي)، وَاْجَعْلْ لي يا إلهي الدَّرَجَةَ الْعُلْيا فِي الآخِرَةِ وَالأوْلى، اللّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كَما خَلَقْتَني فَجَعَلْتَني سَميعاً بَصيراً، وَلَكَ الْحَمْدُ كَما خَلَقْتَني فَجَعَلْتَني خَلْقاً سَوِيّاً رَحْمَةً بي، وَقَدْ كُنْتَ عَنْ خَلْقي غَنِيّاً، رَبِّ بِما بَرَأْتَنْي (أنشأتني) فَعَدَّلْتَ فِطْرَتي، رَبِّ بِما أنَشَأْتَني فَأحْسَنْتَ صُورَتي، رَبِّ بِما أحْسَنْتَ إلَيَّ وَفي نَفْسي عافَيْتَني، رَبِّ بِما كَلأتَني (أطعمتني) وَوَفَّقْتَني، رَبِّ بِما أنَعْمَتَ عَلَيَّ فَهَدَيْتَني، رَبِّ بِما أوْلَيْتَني وَمِنْ كُلِّ خَيْر أعْطَيْتَني، رَبِّ بِما أطْعَمْتَني وَسَقَيْتَني، رَبِّ بِما أغْنَيْتَني وَأقْنَيْتَني، رَبِّ بِما أعَنْتَني وَأعْزَزْتَني، رَبِّ بِما ألْبَسْتَني مِنْ سِتْرِكَ الصّافي (الذي لا تنكشف من خلاله العيوب)، وَيَسَّرْتَ لي مِنْ صُنْعِكَ الْكافي (جميلك ومعروفك الذي يكفيني)، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأعِنّي عَلى بَوائِقِ الدُّهُورِ (مصائب الأيّام وشرورها)، وَصُرُوفِ اللَّيالي (نوائب الليالي وشدائدها) وَالأيّامِ، وَنَجِّني مِنْ أهْوالِ الدُّنْيا (فزع الحياة) وَكُرُباتِ الآخِرَةِ (حزن وغم يوم القيامة)، وَاكْفِني شَرَّ ما يَعْمَلُ الظّالِمُونَ فِي الأرْضِ، اللّهُمَّ ما أخافُ فَاكْفِني، وَما أحْذَرُ فَقِني (فنجني)، وَفي نَفْسي وَديني فَاحْرُسْني، وَفي سَفَري فَاحْفَظْني، وَفي أهْلي وَمالي فَاخْلُفْني (كن خليفتي ووكيلي فيهم)، وَفي ما رَزَقْتَني فَبارِكْ لي، وَفي نَفْسي فَذلِّلْني، وَفي أعْيُنِ النّاسِ فَعَظِّمْني، وَمِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَالإنْسِ فَسَلِّمْني، وَبِذُنُوبي فَلا تَفْضَحْني وَبِسَريرَتي (بأسراري) فَلا تُخْزِني (تعذبني)، وَبِعَمَلي فَلا تَبْتَلْني، وَنِعَمَكَ فَلا تَسْلُبْني، وَإلى غَيْرِكَ فَلا تَكِلْني، إلهي إلى مَنْ تَكِلُني إلى قَريب فَيَقطَعُني، أمْ إلى بَعيد فَيَتَجَهَّمُني (ينظر إليَّ بوجهٍ عبوس)، إمْ إلَى الْمُسْتَضْعَفينَ لي، وَاَنْتَ رَبّي وَمَليكُ أمْري، أشْكُو إلَيْكَ غُرْبَتي وَبُعْدَ داري، وَهَواني عَلى مَنْ مَلَّكْتَهُ أمْري، إلهي فَلا تُحْلِلْ عَلَيَّ غَضَبَكَ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ غَضِبْتَ عَلَيَّ فَلا أُبالي سُبْحانَكَ غَيْرَ أنَّ عافِيَتَكَ اَوْسَعُ لي، فَأَسْأَلُكَ يا رَبِّ بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذي أشْرَقَتْ لَهُ الأرْضُ وَالسَّماواتُ، وَكُشِفَتْ بِهِ الظُّلُماتُ، وَصَلُحَ بِهِ أمْرُ الأوَّلينَ وَالآخِرِينَ، أنْ لا تُميتَني عَلى غَضَبِكَ، وَلا تُنْزِلْ بي سَخَطَكَ، لَكَ الْعُتْبى لَكَ الْعُتْبى حَتّى تَرْضى (أسترضيك حتى ترضى، وهو قول من يسلمّم بذنبه ويعترف بخطأه إرضاءً لمن يُعاتب) قَبْلَ ذلِك، لا إلهَ إلّا أنْتَ، رَبَّ الْبَلَدِ الْحَرامِ وَالْمَشْعَرِ الْحَرامِ، وَالْبَيْتِ الْعَتيقِ الَّذي أحْلَلْتَهُ الْبَرَكَةَ، وَجَعَلْتَهُ لِلنّاسِ أمْنَاً، يا مَنْ عَفا عَنْ عَظيمِ الذُّنُوبِ بِحِلْمِهِ، يا مَنْ أسْبَغَ النَّعْمآءَ (أفض النعمة عليّ، أتمّها وأكملها) بِفَضْلِهِ، يا مَنْ اَعْطَى الْجَزيلَ (الكثير جدّاً) بِكَرَمِهِ، يا عُدَّتي في شِدَّتي (يا مَنْ به استعد وأتهيأ لمواجهة الشدائد والصعاب)، يا صاحِبي في وَحْدَتي، يا غِياثي في كُرْبَتي (يا منقذي في مصائبي ونكباتي)، يا وَلِيّي في نِعْمَتي، يا إلهي وَإلهَ آبائي إبْراهيمَ وَإسْماعيلَ وَإسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، وَرَبَّ جَبْرَئيلَ وَميكائيلَ وَإسْرافيلَ، وَربَّ مُحَمَّد خاتَمِ النَّبِيّيينَ وَآلِهِ الْمُنْتَجَبينَ (المختارين)، مُنْزِلَ التَّوراةِ وَالإنْجيلَ، وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقانِ، وَمُنَزِّلَ كهيعص، وَطه وَيس، وَالْقُرآنِ الْحَكيمِ، أنْتَ كَهْفي حينَ تُعيينِي الْمَذاهِبُ (تعجزني السبل والطرق المؤدية للحلّ) في سَعَتِها، وَتَضيقُ بِيَ الأرْضُ بِرُحْبِها (بسعتها)، وَلَوْلا رَحْمَتُكَ لَكُنْتُ مِنَ الْهالِكينَ، وَأنْتَ مُقيلُ عَثْرَتي (يا مَنْ يصفح عنِّي ويترك محاسبتي على ذنبي، انهضني من سقوطي)، وَلَوْلا سَتْرُكَ إيّايَ لَكُنْتُ مِنَ الْمَفْضُوحِينَ، وَأنْتَ مُؤَيِّدي بِالنَّصْرِ عَلى أعْدآئي، وَلَوْلا نَصْرُكَ إيّايَ لَكُنْتُ مِنَ الْمَغْلُوبينَ، يا مَنْ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْسُّمُوِّ وَالرِّفْعَةِ، فَأوْلِيآؤهُ بِعِزِّهِ يَعْتَزُّونَ، يا مَنْ جَعَلَتْ لَهُ الْمُلُوكُ نَيرَ الْمَذَلَّةِ (قيد الذل والمهانة) عَلى أعْناقِهِمْ، فَهُمْ مِنْ سَطَواتِهِ (سلطته وتأثيره) خائِفُونَ، تَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (خيانة الأعين بنظرها لما يحرم، وما تخفي الصدور من أسرار)، وَغَيْبَ مَا تَأْتِي بِهِ الْأَزْمَانُ وَالدُّهُورُ، يَا مَنْ لَا يَعْلَمُ كَيْفَ هُوَ إِلَّا هُوَ، يَا مَنْ لَا يَعْلَمُ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، يَا مَنْ كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى الْمَاءِ (ضغطها، والكبس: التراب الذي تردم (تغلق) به البئر)، وَسَدَّ الْهَوَاءَ بِالسَّمَاءِ (حجز الهواء بالسماء وفصل بينهما)، يَا مَنْ لَهُ أَكْرَمُ الْأَسْمَاءِ، يَا ذَا الْمَعْرُوفِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ أَبَداً، يَا مُقَيِّضَ الرَّكْبِ (يا مقدّر القافلة من عشرة أشخاص) لِيُوسُفَ فِي الْبَلَدِ الْقَفْرِ (في البادية والصحراء)، وَمُخْرِجَهُ مِنَ الْجُبِّ (البئر)، وَجَاعِلَهُ بَعْدَ الْعُبُودِيَّةِ مَلِكاً، يَا رَادَّ يُوسُفَ عَلَى يَعْقُوبَ بَعْدَ أَنِ ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (كاتم لحزنه وألمه)، يَا كَاشِفَ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ (يا دافع ورافع الأضرار والآلام) عَنْ أَيُّوبَ، يَا مُمْسِكَ يَدِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ بَعْدَ كِبَرِ سِنِّهِ وَفَنَاءِ عُمُرِهِ، يَا مَنِ اسْتَجَابَ لِزَكَرِيَّا فَوَهَبَ لَهُ يَحْيَى، وَلَمْ يَدَعْهُ فَرْداً وَحِيداً، يَا مَنْ أَخْرَجَ يُونُسَ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، يَا مَنْ فَلَقَ الْبَحْرَ (شقّه إلى نصفين) لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْجَاهُمْ وَجَعَلَ فِرْعَوْنَ وَجُنُودَهُ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، يَا مَنْ أَرْسَلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ (يحملن بشرى الخير) بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، يَا مَنْ لَمْ يَعْجَلْ عَلَى مَنْ عَصَاهُ مِنْ خَلْقِهِ، يَا مَنِ اسْتَنْقَذَ السَّحَرَةَ مِنْ بَعْدِ طُولِ الْجُحُودِ (النكران)، وَقَدْ غَدَوْا فِي نِعْمَتِهِ يَأْكُلُونَ رِزْقَهُ وَيَعْبُدُونَ غَيْرَهُ، وَقَدْ حَادُّوهُ وَنَادُّوهُ (غاضبوه وخالفوه) وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ، يَا اللَّهُ‏ يا اللهُ يَا بَديءُ (يا سيداً أوّل في السيادة) لَا بَدْءَ لَكَ دَائِماً، يا بديعاً لا نِدَّ لك (يا مَنْ لا مثيل له ولا شبيه في ذاته وصفاته وأفعاله)، يَا دَائِماً لَا نَفَادَ لَكَ (يا باقياً بلا انتهاء)، يَا حَيّاً حينَ لا حَيّ، يَا مُحِيَ الْمَوْتَى، يَا مَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، يَا مَنْ قَلَّ لَهُ شُكْرِي فَلَمْ يَحْرِمْنِي، وَعَظُمَتْ خَطِيئَتِي فَلَمْ يَفْضَحْنِي، وَرَآنِي عَلَى الْمَعَاصِي فَلَمْ يَشْهرنِي (يفضحني)، يَا مَنْ حَفِظَنِي فِي صِغَرِي، يَا مَنْ رَزَقَنِي فِي كِبَرِي، يَا مَنْ أَيَادِيهِ (نِعَمه) عِنْدِي لَا تُحْصَى، يَا مَنْ نِعَمُهُ عِنْدِي لَا تُجَازَى، يَا مَنْ عَارَضَنِي بِالْخَيْرِ وَالْإِحْسَانِ (واجهني بهما)، وَعَارَضْتُهُ بِالْإِسَاءَةِ وَالْعِصْيَانِ (قابلته بهما)، يَا مَنْ هَدَانِي بِالْإِيمَانِ قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ شُكْرَ الِامْتِنَانِ، يَا مَنْ دَعَوْتُهُ مَرِيضاً فَشَفَانِي، وَعُرْيَاناً فَكَسَانِي، وَجَائِعاً فَأَطْعَمَنِي، وَعَطْشَاناً فَأَرْوَانِي، وَذَلِيلًا فَأَعَزَّنِي، وَجَاهِلًا فَعَرَّفَنِي، وَوَحِيداً فَكَثَّرَنِي، وَغَائِباً فَرَدَّنِي، وَمُقِلًّا (قليل المال، فقيراً) فَأَغْنَانِي، وَمُنْتَصِراً فَنَصَرَنِي، وَغَنِيّاً فَلَمْ يَسْلُبْنِي، وَأَمْسَكْتُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ فَابْتَدَأَنِي، فَلَكَ الْحَمْدُ يَا مَنْ أَقَالَ عَثرَتِي (غفر خطأي وسامحني)، وَنَفَّسَ كُرْبَتِي، وَأَجَابَ دَعْوَتِي، وَسَتَرَ عَوْرَتِي (لم يفضح خطيئتي) وَذُنُوبِي، وَبَلَّغَنِي طَلِبَتِي، وَنَصَرَنِي عَلَى عَدُوِّي، وَإِنْ أَعُدَّ نِعَمَكَ وَمِنَنَكَ وَكَرَائِمَ مِنَحِكَ لَا أُحْصِيهَا، يَا مَوْلَايَ أَنْتَ الَّذِي أَنْعَمْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي مَنَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذِي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَصَمْتَ (منعت من ارتكاب المعصية)، أَنْتَ الَّذِي سَتَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي غَفَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَقَلْتَ (انهضتني من سقطتي)، أَنْتَ الَّذِي مَكَّنْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَضَدْتَ (أعنتني على شدّتي)، أَنْتَ الَّذِي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذِي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذِي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي عَافَيْتَ، أَنْتَ الَّذِي أَكْرَمْتَ، تَبَارَكْتَ رَبِّي وَتَعَالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دَائِماً، وَلَكَ الشُّكْرُ وَاصِباً (دائماً وثابتاً)، ثُمَّ أَنَا يَا إِلَهِي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْهَا لِي، أَنَا الَّذِي أَخْطَأْتُ، أَنَا الَّذِي أَغْفَلْتُ، أَنَا الَّذِي جَهِلْتُ، أَنَا الَّذِي هَمَمْتُ، أَنَا الَّذِي سَهَوْتُ، أَنَا الَّذِي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذِي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذِي وَعَدْتُ، أَنَا الَّذِي أَخْلَفْتُ، أَنَا الَّذِي نَكَثْتُ (خالفت وعدي ونقضت عهدي)، أَنَا الَّذِي أَقْرَرْتُ، إِلَهِي أَعْتَرِفُ بِنِعْمَتِكَ عِنْدِي، وَأَبُوءُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْ لِي، يَا مَنْ لَا تَضُرُّهُ ذُنُوبُ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْ طَاعَتِهِمْ، وَالْمُوَفِّقُ مَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ صَالِحاً بِمَعُونَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَلَكَ الْحَمْدُ إِلَهِي، أَمَرْتَنِي فَعَصَيْتُكَ، وَنَهَيْتَنِي فَارْتَكَبْتُ نَهْيَكَ، فَأَصْبَحْتُ لَا ذَا بَرَاءَةٍ لي (غير بريء) فَأَعْتَذِرَ، وَلَا ذَا قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرَ (أجلب لنفسي النصر والغلبة)، فَبِأَيِّ شَيْ‏ءٍ أَسْتَقْبِلُكَ يَا مَوْلَايَ، أَ بِسَمْعِي أَمْ بِبَصَرِي أَمْ بِلِسَانِي أَمْ بِرِجْلِي، أَلَيْسَ كُلُّهَا نِعَمَكَ عِنْدِي، وَبِكُلِّهَا عَصَيْتُكَ، يَا مَوْلَايَ فَلَكَ الْحُجَّةُ وَالسَّبِيلُ (الدليل والبرهان) عَلَيَّ، يَا مَنْ سَتَرَنِي مِنَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ أَنْ يَزْجُرُونِي (ينهروني بعنف)، وَمِنَ الْعَشَائِرِ وَالْإِخْوَانِ أَنْ يُعَيِّرُونِي (يعيبون عليّ)، وَمِنَ السَّلَاطِينِ أَنْ يُعَاقِبُونِي، وَلَوِ اطَّلَعُوا يَا مَوْلَايَ عَلَى مَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنِّي إِذًا مَا أَنْظَرُونِي (ما أمهلوني) وَلَرَفَضُونِي وَقَطَعُونِي، فَهَا أَنَا ذَا بَيْنَ يَدَيْكَ يَا سَيِّدِي خَاضِعاً ذَلِيلًا حَصيراً (بخيلٌ ممسك يدي، أحبس عطائي) حَقِيراً، لَا ذُو بَرَاءَةٍ فَأَعْتَذِرَ، وَلَا قُوَّةٍ فَأَنْتَصِرَ، وَلَا حُجَّةَ (لا دليل مقنعاً) لِي فَأَحْتَجَّ بِهَا، وَلَا قَائِلٌ لَمْ أَجْتَرِحْ (لم أرتكب) وَلَمْ أَعْمَلْ سُوءاً، وَمَا عَسَى الْجُحُودُ لَوْ جَحَدْتُ يَا مَوْلَايَ فَيَنْفَعُنِي، وَكَيْفَ وَأَنَّى ذَلِكَ وَجَوَارِحِي (أعضائي) كُلُّهَا شَاهِدَةٌ عَلَيَّ بِمَا قَدْ عَلِمْتُ، يَقِيناً غَيْرَ ذِي شَكٍّ أَنَّكَ سَائِلِي عَنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، وَأَنَّكَ الْحَكِيمُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ، وَعَدْلُكَ مُهْلِكِي، وَمِنْ كُلِّ عَدْلِكَ مَهْرَبِي، فَإِنْ تُعَذِّبْنِي فَبِذُنُوبِي يَا مَوْلَايَ بَعْدَ حُجَّتِكَ عَلَيَّ، وَإِنْ تَعْفُ عَنِّي فَبِحِلْمِكَ وَجُودِكَ وَكَرَمِكَ، لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُسْتَغْفِرِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْوَجِلِينَ (الخائفين)، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الرَّاجِينَ الرَّاغِبِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ السَّائِلِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الْمُهَلِّلِينَ (القائلين: لا إله إلّا الله) الْمُسَبِّحِينَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ رَبِّي وَرَبُّ آبَائِيَ الْأَوَّلِينَ، اللَّهُمَّ هَذَا ثَنَائِي عَلَيْكَ مُمَجِّداً، وَإِخْلَاصِي مُوَحِّداً، وَإِقْرَارِي بِآلَائِكَ مُعِدّاً، وَإِنْ كُنْتُ مُقِرّاً أَنِّي لَا أُحْصِيهَا لِكَثْرَتِهَا وَسُبُوغِهَا وَتَظَاهُرِهَا وَتَقَادُمِهَا (فيضها وبروزها وطول زمانها) إلى حادِثٍ (قريب الحدوث)، ما لَمْ تَزَلْ تَتَعَهَّدُنى بِهِ مَعَها مُنْذُ خَلَقْتَني وَبَرَأتَني مِنْ أوَّلِ الْعُمْرِ، مِنَ الإغْنآءِ مِنَ الْفَقْرِ، وَكَشْفِ الضُّرِّ، وَتَسْبِيبِ الْيُسْرِ (الفرج)، وَدَفْعِ الْعُسْرِ، وَتَفريجِ الْكَرْبِ، وَالْعافِيَةِ فِي الْبَدَنِ، وَالسَّلامَةِ فِي الدّينِ، وَلَوْ رَفَدَني (أعانني) عَلى قَدْرِ ذِكْرِ نِعْمَتِكَ جَميعُ الْعالَمينَ مِنَ الأوَّلينَ وَالآخِرينَ، ما قَدَرْتُ وَلاهُمْ عَلى ذلِكَ، تَقَدَّسْتَ وَتَعالَيْتَ مِنْ رَبٍّ كَريم، عَظيم رَحيم، لا تُحْصى آلاؤُكَ، وَلا يُبْلَغُ ثَنآؤُكَ، وَلا تُكافى نَعْمآؤُكَ، فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأتْمِمْ عَلَيْنا نِعَمَكَ، وَأسْعِدْنا بِطاعَتِكَ، سُبْحانَكَ لا إلهَ إلّا أنْتَ، اللَّهُمَّ إنَّكَ تُجيبُ الْمُضْطَرَّ (صاحب الحاجة الذي لا يجد مَنْ يقضيها)، وَتَكْشِفُ السُّوءَ، وَتُغيثُ الْمَكْرُوبَ (المصاب بنكبة أو مصيبة)، وَتَشْفِي السَّقيمَ (المريض)، وَتُغْنِي الْفَقيرَ، وَتَجْبُرُ الْكَسيرَ، وَتَرْحَمُ الصَّغيرَ، وَتُعينُ الْكَبيرَ، وَلَيْسَ دُونَكَ ظَهيرٌ (معاون، مساعد)، وَلا فَوْقَكَ قَديرٌ، وَانْتَ الْعَلِيُّ الْكَبيرُ، يا مُطْلِقَ الْمُكَبِّلِ الأسيرِ (المقيّد بالسلاسل)، يا رازِقَ الطِّفْلِ الصَّغيرِ، يا عِصْمَةَ الْخآئِفِ الْمُسْتَجيرِ (الخائف الذي يطلب الإجارة واللجوء عند مَنْ يدفع خوفه)، يا مَنْ لا شَريكَ لَهُ وَلا وَزيرَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَأعْطِني في هذِهِ الْعَشِيَّةِ (الأمسية)، أفْضَلَ ما أعْطَيْتَ وَأنَلْتَ أحَداً مِنْ عِبادِكَ، مِنْ نِعْمَة تُوليها، وَآلاء (نعم وفضائل) تُجَدِّدُها، وَبَلِيَّة تَصْرِفُها (مصيبة تدفعها فلا تنالني)، وَكُرْبَة (هم ثقيل يوجع القلب) تَكْشِفُها، وَدَعْوَة تَسْمَعُها، وَحَسَنَة تَتَقَبَّلُها، وَسَيِّئَة تَتَغَمَّدُها (عمل سيِّئ تخفيه، كما يخفي السيف الغمدُ (القُراب))، إنَّكَ لَطيفٌ بِما تَشاءُ خَبيرٌ، وَعَلى كُلِّ شَيء قَديرٌ، اللَّهُمَّ إنَّكَ أقْرَبُ مَنْ دُعِىَ، وَأسْرَعُ مَنْ أجابَ، وَأكْرَمُ مَنْ عَفى، وَأوْسَعُ مَنْ اَعْطى، وَأسْمَعُ مَنْ سُئِلَ، يا رَحمنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ وَرحيمُهُما، لَيْسَ كَمِثْلِكَ مَسْؤولٌ، وَلا سِواكَ مَأمُولٌ (أملي متعلِّق فيك)، دَعَوْتُكَ فَأجَبْتَني، وَسَأَلْتُكَ فَأعْطَيْتَني، وَرَغِبْتُ إلَيْكَ فَرَحِمْتَني، وَوَثِقْتُ بِكَ فَنَجَّيْتَني، وَفَزِعْتُ (لجأت) إلَيْكَ فَكَفَيْتَني، اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَنَبِيِّكَ، وَعَلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ أجْمَعينَ، وَتَمِّمْ لَنا نَعْمآءَكَ، وَهَنِّئْنا عَطآءَكَ، وَاكْتُبْنا لَكَ شاكِرينَ، وَلاِلائِكَ ذاكِرينَ، آمينَ آمينَ (استجب بلطفك) رَبَّ الْعالَمينَ، اللّهُمَّ يا مَنْ مَلَكَ فَقَدَرَ، وَقَدَرَ فَقَهَرَ، وَعُصِيَ فَسَتَرَ، وَاسْتُغْفِرَ فَغَفَرَ، يا غايَةَ الطّالِبينَ الرّاغِبينَ، وَمُنْتَهى أمَلِ الرّاجينَ، يا مَنْ أحاطَ بِكُلِّ شَيء عِلْماً، وَوَسِعَ الْمُسْتَقيلينَ (مشمل التائبين بمغفرته) رَأفَةً وَحِلْماً، اللّهُمَّ إنّا نَتَوَجَّهُ إلَيْكَ في هذِهِ الْعَشِيَّةِ (وقت غروب الشمس) الَّتي شَرَّفْتَها وَعَظَّمْتَها بِمُحَمَّد نَبِيِّكَ وَرَسُولِكَ، وَخِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَأمينِكَ عَلى وَحْيِكَ، الْبَشيرِ النَّذيرِ، السِّراجِ الْمُنيرِ، الَّذي أنْعَمْتَ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمينَ، وَجَعَلْتَهُ رَحْمَةً لِلْعالَمينَ، اللَّهُمَّ فَصَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، كَما مُحَمَّدٌ أهْلٌ لِذلِكَ مِنْكَ يا عَظيمُ فَصَلِّ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ، الْمُنْتَجَبينَ (المختارين) الطَّيِّبينَ الطّاهِرينَ أجْمَعينَ، وَتَغَمَّدْنا بِعَفْوِكَ عَنّا، فَإلَيْكَ عَجَّتِ الأصْواتُ (ارتفعت ضارعةً بالدعاء متوسلةً بالرحمة) بِصُنُوفِ اللُّغاتِ (بمختلف الألسن واللغات لقدوم الحجاج من مختلف البلدان)، فَاجْعَلْ لَنا اللّهُمَّ في هذِهِ الْعَشِيَّةِ نَصيباً مِنْ كُلِّ خَيْر تَقْسِمُهُ بَيْنَ عِبادِكَ، وَنُور تَهْدى بِهِ، وَرَحْمَة تَنْشُرُها، وَبَرَكَة تُنْزِلُها، وَعافِيَة تُجَلِّلُها (تعطيني بها، تغمرني بها)، وَرِزْق تَبْسُطُهُ، يا أرْحَمَ الرّاحِمينَ، اللَّهُمَّ اقْلِبْنا في هذَا الْوَقْتِ مُنْجِحينَ مُفْلِحينَ (أرجعنا بالنجاح والقبول) مَبْرُورينَ (لا يخالطنا شيء من الذنوب، والآثام) غانِمينَ (رابحين)، وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْقانِطينَ (اليائسين)، وَلا تُخْلِنا مِنْ رَحْمَتِكَ (لا تحجبها وتمنعه عنّا)، وَلا تَحْرِمْنا ما نُؤَمِّلُهُ مِنْ فَضْلِكَ، وَلا تَجْعَلْنا مِنْ رَحْمَتِكَ مَحْرُومينَ، وَلا لِفَضْلِ ما نُؤَمِّلُهُ مِنْ عَطآئِكَ قانِطينَ، وَلا تَرُدَّنا خائِبينَ وَلا مِنْ بابِكَ مَطْرُودينَ، يا أجْوَدَ الأجْوَدينَ، وَاَكْرَمَ الأكْرَمينَ، إلَيْكَ اَقْبَلْنا مُوقِنينَ، وَلِبَيْتِكَ الْحَرامِ آمّينَ قاصِدينَ (متوجهين نحوه)، فَأعِنّا عَلى مَناسِكِنا (عباداتنا في الحج)، وَأكْمِلْ لَنا حَجَّنا، وَاْعْفُ عَنّا وَعافِنا، فَقَدْ مَدَدْنا إلَيْكَ اَيْديَنا فَهِىَ بِذِلَّةِ الاعْتِرافِ مَوْسُومَةٌ (معروفة)، اللَّهُمَّ فَأعْطِنا في هذِهِ الْعَشِيَّةِ ما سَأَلْناكَ، وَاكْفِنا مَا اسْتَكْفَيْناكَ، فَلا كافِيَ لَنا سِواكَ، وَلا رَبَّ لَنا غَيْرُكَ، نافِذٌ فينا حُكْمُكَ (مطبَّق ومطاع، تامّ ومنفَّذ)، مُحيطٌ بِنا عِلْمُكَ، عَدْلٌ فينا قَضآؤُكَ، إقْضِ لَنَا الْخَيْرَ، وَاجْعَلْنا مِنْ اَهْلِ الْخَيْرِ، اللَّهُمَّ أوْجِبْ لَنا بِجُودِكَ عَظيمَ الأجْرِ، وَكَريمَ الذُّخْرِ، وَدَوامَ الْيُسْرِ، وَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أجْمَعينَ، وَلا تُهْلِكْنا مَعَ الْهالِكينَ، وَلا تَصْرِفْ عَنّا رَأفَتَكَ وَرَحْمَتَك، يا أرْحَمَ الرّاحِمينَ، اللّهُمَّ اجْعَلْنا في هذَا الْوَقْتِ مِمَّنْ سَاَلَكَ فَاَعْطَيْتَهُ، وَشَكَرَكَ فَزِدْتَهُ، وَتابَ إلَيْكَ (رجع تائباً) فَقَبِلْتَهُ وَتَنَصَّلَ إلَيْكَ (تبرّأ من ذنبه) مِنْ ذُنُوبِهِ كُلِّها فَغَفَرْتَها لَهُ يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرامِ، اللّهُمَّ وَنَقِّنا وَسَدِّدْنا (إجعلنا لا نقول إلّا الصواب من القول) واقْبَلْ تَضَرُّعَنا، يا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ، وَيا أرْحَمَ مَنِ اسْتُرْحِمَ، يا مَنْ لا يَخْفى عَلَيْهِ إغْماضُ الْجُفُونِ، ولا لَحْظُ الْعُيُونِ (نظراتها)، وَلا مَا اسْتَقَرَّ فِى الْمَكْنُونِ (بقي مستوراً بعيداً عن الأعين)، وَلا مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مُضْمَراتُ الْقُلُوبِ (الأسرار والخفايا)، ألا كُلُّ ذلِكَ قَدْ أحْصاهُ عِلْمُكَ، وَوَسِعَهُ حِلْمُكَ، سُبْحانَكَ وَتَعالَيْتَ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوّاً كَبيراً، تُسَبِّحُ لَكَ السَّماواتُ السَّبْعُ، وَالأرَضُونَ وَمَنْ فيهِنَّ، وَإنْ مِنْ شَىء إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، فَلَكَ الْحَمْدُ وَالْمَجْدُ، وَعُلُوُّ الْجَدِّ، يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرامِ، وَالْفَضْلِ وَالأنْعامِ، وَالأيادِي الْجِسامِ (النِعَم الكبيرة)، وَأنْتَ الْجَوادُ الْكَريمُ، الرَّؤُوفُ الرَّحيمُ، اللَّهُمَّ أوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ الْحَلالِ، وَعافِني في بَدَني وَديني، وَآمِنْ خَوْفي، وَاعْتِقْ رَقَبَتي مِنَ النّارِ (خلّصني من عذابها)، اللّهُمَّ لا تَمْكُرْ بي، وَلا تَسْتَدْرِجْني (لا تمدّني بالنعم فأعصيك بها فيكون ذلك استدراجاً لي)، وَلا تَخْدَعْني، وَادْرَأ عَنّي (ادفع، أبعد) شَرَّ فَسَقَةِ الْجِنِّ وَالإنْسِ (الخارجين منهم عن طاعة الله تعالى).

ثمّ رفع رأسه وبصره إلى السماء وعيناه ماطرتان كأنّهما مزنتان، وقال بصوتٍ عالٍ:

يا أسْمَعَ السّامِعينَ، يا أبْصَرَ النّاظِرينَ، وَيا أسْرَعَ الْحاسِبينَ، وَيا أرْحَمَ الرّاحِمينَ، صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد السّادَةِ الْمَيامينَ، وَأسْأَلُكَ اللَّهُمَّ حاجَتِي التي إنْ أعْطَيْتَنيها لَمْ يَضُرَّني ما مَنَعْتَني، وَإنْ مَنَعْتَنيها لَمْ يَنْفَعْني ما أعْطَيْتَني، أسْأَلُكَ فَكاكَ رَقَبَتي مِنَ النّارِ، لا إله إلّا أنْتَ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ، وَلَكَ الْحَمْدُ، وَأنْتَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، يا رَبُّ يا رَبُّ.

وكان يكرِّر قوله يا رَبُّ وشغل مَنْ حضر ممّن كان حوله عن الدُّعاء لأنفسهم واقبلوا على الاستماع له والتأمين على دعائه، ثمّ علت أصواتهم بالبكاء معه وغربت الشمس وأفاض الناس معه».

 

أسئلة على هامش الدُّعاء:

1- ما هي خصوصيات دعاء الإمام الحسين 7 في يوم عَرَفة؟

صاحب كتاب (شرح دعاء الإمام الحسين 7 يوم عَرَفة) أشار إلى أربع خصوصيات نوردها على نحو الاختصار تعميماً للفائدة:

1- الزمان: حيث جاء هذا الدعاء في توقيت دقيق ومناسبة مهمّة واستجابة للنداء القرآني في قوله تعالى: ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ﴾ (الحج/ 28).

2- المكان: حدث الدعاء في عَرَفة، أي في الموقف، حيث يعتبر الحج مساوياً له (الحج عَرَفة)، وحيث احتشاد الحجيج في مكان واحد.

3- الداعي: وهو الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب 7 آخر ابن بنت رسول الله 6 بقي على قيد الحياة، وابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وآخر مَنْ بقي من أصحاب الكساء، والمشمول بآية التطهير ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (الأحزاب/ 33)، وآخر مَنْ بقي حياً ممّن باهل بهم النبيّ 6 نصارى نجران، وهو وصية جدّه 6: «حسينٌ مني وأنا من حسين». «الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة، وهما إمامان قاما أو قعدا» أي قاما بمسؤولية الإمامة أو منعهما الناس من إقامتها فقعدا مكرهين مجبرين غير مختارين.

وعلى ذلك، فالداعي ليس شخصيةً عادية تتلو دعاءً وتنصرف فلا تخلّف أثراً ولا تترك صدى، وإنما حضوره 7 شخصياً في الموقف يمثّل تذكيراً بموقف جده 6 في حجّة الوداع في ذات المكان، خاصةً وانّه من النبيّ 6 والنبيّ منه بحسب النسبة الإيمانية والرسالية لا النسبية، وإن كان لهذه أيضاً اعتبارها لأنّ الإمام الحسين 7 في الحساب النسبي: جَدّه النبيّ 6 وأبوه الإمام عليّ 7 وأُمّه الزهراء 3 وهو إمام وأخو إمام وأبو الأئمة من بعده، فنحن أمام ذرِّية بعضها من بعض.

4- الدُّعاء: وهو هذا الذي بين يديك الذي ينطوي على مضامين عالية ومعبِّرة تدفع إلى التأمُّل في نعم الله تعالى المرافقة لكلّ مراحل الوجود الإنساني منذ التكوّن حتى البلوغ، والإقرار بالعجز عن شكرها، ونسبة كلّ (حسنة) لله تعالى بإيقاع وجداني - عرفاني يستثير العواطف ويهزّ المشاعر من الأعماق بتكرار ضمير النداء (أنت.. أنت) ونسبة كلّ (سيِّئة) إلى النفس بتكرار ضمير النداء (أنا الذي.. أنا الذي) ثمّ ينتهي بعرض حاجاته.

2- عن ماذا يكشف هذا الدُّعاء؟

الجواب:

أ) عن حدود ومدى علاقة وارتباط الإمام الحسين 7 بالله تبارك وتعالى.. فنحن أمام حالة عرفانية خاصّة ومميّزة ونادرة جدّاً، لا يستطيع أن يجلّي مكنوناتها إلّا مَنْ ارتقى في عرفانه.

ب) الهيئة التي وصف بها الإمام الحسين 7 عند خروجه للدعاء عند سفح الجبل ووقوفه في الجانب الأيسر منه، حيث تذكر الرواية أنّه خرج وأهل بيته وولده وأصحابه من خيمته بحالة من التذلُّل والخشوع والاستكانة، حيث كان يمشي الهوينا (يسير سيراً بطيئاً وبتواضع شديد) متوجهاً نحو الكعبة رافعاً يديه قبالة وجهه كمسكين يطلب عوناً أو مساعدة، أو طعاماً. يقول الراوي: «وكان يكرِّر قوله (يا ربّ) حتى شغل مَنْ حضر (الموقف) عمَّن كان حوله عن الدُّعاء لأنفسهم وأقبلوا على الاستماع له، والتأمين على دعائه، ثمّ علت أصواتهم بالبكاء معه» حتى غروب الشمس والإفاضة من عرفات.

ت) توفره 7 على شرط (الكمال) في التضرُّع بالدعاء فضلاً عن إحراز شروط (الصحة) ومنها تحميد الله سبحانه وتعالى والثناء عليه، والإقرار بالذنب والاستغفار والبكاء. ورد عن الإمام الصادق 7: «إذا اقشعر جلدك (عند تلاوة الدعاء) ودمعت عيناك ووجل قلبك فدونك دونك فقد قصد قصدك»[21]!


 

دعاء الإمام عليّ بن الحسين 7 في يوم عَرَفة

 

«الحَمْدُ للّهِ رَبّ العالَمِينَ، اللّهمّ لَكَ الحَمْدُ بَدِيعَ السّماواتِ والأَرْضِ، ذا الجَلالِ والإِكْرامِ، رَبّ الأَربْابِ، وإلهَ كُلّ مألُوهٍ، وخالِقَ كُلّ مَخْلُوقٍ، وَوارِثَ كُلّ شَي‏ءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَي‏ءٌ، ولا يَعْزُبُ (لا يغيب) عَنْهُ عِلْمُ شَي‏ءٍ، وَهوَ بِكُلّ شَي‏ءٍ مُحِيطٌ، وَهوَ على‏ كُلّ شَي‏ءٍ رَقِيْبٌ، أنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، الأَحَدُ المُتَوَحّدُ، الفَرْدُ المُتَفْرّدُ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، الكَرِيمُ المُتَكَرّمُ، العَظِيمُ المُتَعَظّمُ، الكَبِيرُ المُتَكَبّرُ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ العليّ المتعالِ الشديدُ المحالِ (شديد الكيد والقوة والتدبّر) وأنتَ اللّهُ لا اله إلّا أنتَ، الرّحمنُ الرّحِيمُ، العَلِيمُ الحَكِيمُ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، السّمِيعُ البَصِيرُ، القَدِيمُ الخَبِيرُ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، الكَرِيمُ الأكْرَمُ، الدّائِمُ الأَدْوَمُ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، الأَوّلُ قَبْلَ كُلّ أَحَدٍ، والآخِرُ بَعْدَ كُلّ عَدَدٍ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، الدّانِي في عُلُوّهِ، والعَالِي في دُنُوّهِ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، ذُو البَهاءِ والَمجْدِ (العزّة والرفعة)، والكِبرِياءِ (قوة المُلك والسلطان) والحَمْدِ، وأنْتَ اللّهُ لا إلهَ إلّا أنْتَ، اّلذِي أَنْشَأْتَ الأَشياءَ مِنْ غَيْرِ سِنْخٍ (من غير مثال سابق)، وَصَوّرْتَ ما صَوّرْتَ مِنْ غَيْرِ مِثالٍ، وابْتَدَعْتَ المُبْتَدَعاتِ بِلا احْتِذاءٍ (من غير تقليد)، أنْتَ الّذِي قَدّرْتَ كُلّ شَي‏ءٍ تَقْدِيرا، ويَسّرْتَ (سهلت) كُلّ شَي‏ءٍ تَيْسِيرا، وَدَبّرْتَ ما دُونَكَ تَدْبِيرا، أنْتَ الّذِي لَمْ يُعِنْكَ على‏ خَلْقِكَ شَريكٌ، ولَمْ يُؤازِرْكَ (يساعدك) في أَمرِكَ وَزِيرٌ، ولَمْ يَكُنْ لَكَ مُشاهِدٌ ولا نَظِيرٌ (شبيه، مساوٍ)، أنْتَ الّذِي أرَدْتَ فَكانَ حَتْما ما أَرَدْتَ، وقَضَيْتَ فَكانَ عَدْلا ما قَضَيْتَ، وحَكَمْتَ فَكانَ نَصْفا ما حَكَمْتَ، أنْتَ الّذِي لا يَحْوِيكَ مَكانٌ، ولَمْ يَقُمْ لِسُلْطانِكَ سُلْطانٌ، ولَمْ يُعْيكَ بُرهانٌ ولا بَيانٌ، أنْتَ الّذِي أَحْصَيتَ كُلّ شَي‏ءٍ عَدَدا، وَجَعَلْتَ لِكُلّ شَي‏ءٍ أَمَدا (زمناً محدداً)، وقَدّرْتَ كُلّ شَي‏ءٍ تَقدِيرا، أنْتَ الّذِي قَصُرَتِ الأوهامُ (عجزت عن إدراك السر) عن ذاتِيّتِكَ، وعَجَزَتِ الأفهامُ عن كَيفِيّتِكَ، ولَمْ تُدْرِكِ الأَبصارُ مَوضِعَ أَيْنِيّتِكَ (المكان الذي تكون فيه، من سؤالك أين الله؟)، أنْتَ الّذِي لا تُحَدّ فَتَكُونَ مَحْدُودا، ولَمْ تُمَثّلْ فَتَكُونَ مَوجُودا، ولَمْ تَلِدْ فَتَكُونَ مُولُودا، أنْتَ الّذِي لا ضِدّ (معارض ومناقض) مَعَكَ فَيُعانِدَكَ، ولا عِدْلَ (لا مساوي) لَكَ فَيُكاثِرَكَ، ولا نِدّ لك فَيُعارِضَكَ (لا شريك لك ليواجهك أو يقابلك)، أنْتَ الّذِي ابْتَدأَ واخْتَرَعَ، واسْتَحْدَثَ وابْتَدَعَ، وأَحْسَنَ صُنْعَ ما صَنَعَ، سُبْحانَكَ ما أَجَلّ شَأْنَكَ، وأَسْنى‏ (أرفع) في الأماكِنِ مَكانَكَ، وأَصْدَعَ بالحَقّ فُرقانَكَ (ما أبين وأظهر قرآنك بالحقّ وبالتعريف به)، سُبْحانَكَ مِنْ لَطِيفٍ ما أَلْطَفَكَ، وَرَؤُوفِ ما أَرَأَفَكَ، وَحَكِيمٍ ما أَعَرَفَكَ، سُبْحانَكَ مِنْ مَلِيكٍ ما أَمْنَعَكَ، وَجَوادٍ ما أَوْسَعَكَ، وَرَفِيعٍ ما أَرْفَعَكَ، ذُوالبَهاءِ والَمجْدِ، والكِبرِياءِ والحَمْدِ، سُبْحانَكَ بَسَطْتَ بالخَيراتِ يَدَكَ، وعُرِفَتِ الهِدايَةُ مِنْ عِنْدِكَ، فَمَنِ الَتمَسَكَ لِدِيْنٍ أو دُنْيا وَجَدَكَ، سُبْحانَكَ خَضَعَ لَكَ مَنْ جَرى‏ في عِلْمِكَ، وَخَشَعَ لِعَظَمَتِكَ ما دُونَ عَرْشِكَ، وانْقادَ لِلتّسْلِيمِ لَكَ كُلّ خَلْقِكَ، سُبْحانَكَ لا تُحَسّ ولا تُجَسّ ولا تُمَسّ، ولا تُكادُ (من الكيد وهو الخداع، أي لا يقدر أحد أن يغلبك) ولا تُماطُ (لا أحد يستطيع تنحيتك وإبعادك) ولا تُنازَعُ، ولا تُجارى (لا تُشابَه ولا تُشاكل في عظمتك وقدرتك وسلطانك)‏ ولا تُمارى‏ (ليس بالإمكان مناظرتك، ومحادثتك ومخالفة رأيك) ولا تُخادَعُ ولا تُماكَرُ، سُبْحانَكَ سَبِيلُكَ جَدَدٌ، وأَمْرُكَ رَشَدٌ، وأنْتَ حَيّ صَمَدٌ (يحتاج الكلّ إليه ولا يحتاج إلى أحد)، سُبْحانَكَ قَولُكَ حُكْمٌ، وَقَضاؤُكَ حَتْمٌ (مبرم لا يرد)، وإرادَتُكَ عَزْمٌ (قاطعة لا تلين ولا تتردد)، سُبْحانَكَ لا رادّ لِمَشِيّتِكَ، ولا مُبَدّلَ لِكَلِماتِكَ، سُبْحانَكَ قاهِرَ الأَرْبابِ (غالب الأرباب والآلهة المزيفة والمصنوعة)، باهِرَ (مدهش في دلائل وبراهين عظمته) الآياتِ، فاطِرَ السّماواتِ، بارئَ النَسَماتِ (خالق النسيم العذب العليل)، لَكَ الحَمْدُ حَمْدا يَدُومُ بِدَوامِكَ ولَكَ الحَمْدُ حَمْدا خالِدا بِنِعْمَتِكَ، وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا يُوازي صُنْعَكَ، وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا يَزِيدُ على‏ رِضاكَ، وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا مَعَ حَمْدِ كُلّ حَامِدٍ، وشُكْرا يَقْصُرُ عَنْهُ شُكْرُ كُلّ شَاكِرٍ، حَمْدا لا يَنْبَغي إلّا لَكَ، ولا يُتَقَرّبُ بِهِ إلّا إِليكَ، حَمْدا يُسْتَدامُ (يُستبقى به إلى الأبد) بِهِ الأَوّلُ، ويُسْتَدْعى (يستوجب، يقتضي، يتحقق)‏ بِهِ دَوَامُ الآخِرِ، حَمْدا يَتَضاعَفُ على‏ كُرُورِ (تعاقب السنوات) الأَزْمِنَةِ، ويَتَزايَدُ أضْعافا مُتَرادِفَةً (زيادات متتالية)، حَمْدا يَعْجِزُ عَن احْصائِهِ الحَفَظَةُ (الملائكة)، ويَزَيدُ على‏ ما أحْصَتْهُ في كِتابِكَ الكَتَبَةُ (الملائكة)، حَمْدا يُوازِنُ عَرْشَكَ الَمجِيدَ (هيبتك، وقدرتك، وسلطانك العظيم)، ويُعادِلُ كُرسِيّكَ الرّفيعَ (هيبتك، وقدرتك، وسلطانك العظيم)، حَمْدا يَكْمُلُ لَدَيكَ ثَوابُهُ، ويَسْتَغْرِقُ كُلّ جَزاءٍ جَزاؤُهُ، حَمْدا ظاهِرُهُ وَفْقٌ لِباطِنِهِ، وبَاطِنُهُ وَفْقٌ لِصِدْقِ النِيّةِ فِيهِ، حَمْدا لَمْ يَحْمَدْكَ خَلْقٌ مِثْلَهُ، ولا يَعْرِفُ أحَدٌ سِواكَ فَضْلَهُ، حَمْدا يُعانُ مَنِ اجْتَهَدَ في تَعدِيدِهِ، ويُؤَيّدُ مَنْ أغْرَقَ نَزْعا في تَوْفِيَتِهِ (مَنْ بالغ اشتياقاً في استكماله)، حَمْدا يَجْمَعُ ما خَلَقْتَ مِنَ الحَمْدِ، وَيَنْتَظِمُ ما أَنْتَ خالِقُهُ مِن بَعْدُ، حَمْدا لا حَمْدَ أَقْرَبُ إلى قَولِكَ مِنْهُ، ولا أَحْمَدُ مِمّنْ يَحْمَدُكَ بِهِ، حَمْدا يُوجِبُ بِكَرَمِكَ المَزِيدَ بِوفُورِهِ (بكثرته)، وَتَصِلُهُ بِمَزيدٍ بَعْدَ مَزيدٍ طَوْلا مِنْكَ (تفضّلاً ممدوداً (مَنْ طوّل الدابة أي أرخى لها الحبل))، حَمْدا يَجِبُ لِكَرَمِ وَجْهِكَ، وَيُقابِلُ عِزّ جَلالِكَ، رَبّ صَلّ على‏ مُحَمّدٍ وَآلِ مُحَمّدٍ المُنْتَجَبِ المُصْطَفى‏ المُكَرّمِ المُقَرّبِ أَفْضَلَ صَلَواتِكَ، وَبارِكْ عَلَيهِ أَتَمّ بَرَكاتِكَ، وتَرَحّمْ عَلَيهِ أَمْتَعَ رَحَماتِكَ، رَبّ صَلّ عَلى‏ مُحَمّدٍ وَآلِهِ صَلاةً زَاكِيَةً (دعاءً نامياً مباركاً كثيراً) لا تَكَونُ صَلاةٌ أَزْكى‏ مِنها، وَصَلّ عَلَيهِ صَلاةً نَامِيةً لا تَكونُ صلاةٌ أَنْمى‏ مِنها، وَصَلّ عَلَيهِ صَلاةً راضِيَةً لا تَكُونُ صلاةٌ فَوْقَها، رَبّ صَلّ عَلى‏ مُحَمّدٍ وآلِهِ صَلاةً تُرْضِيهِ وَتَزِيدُ على‏ رِضاهُ، وَصَلّ عَلَيهِ صَلاةً تُرْضِيكَ وَتَزِيدُ على‏ رِضاكَ لَهُ، وَصَلّ عَلَيهِ صَلاةً لا تَرْضَى‏ لَهُ إلّا بِها، ولا تَرى غَيْرَهُ لَها أهلا، رَبّ صَلّ عَلى‏ مُحَمّدٍ وآلِهِ صَلاةً تُجاوِزُ رِضْوانَكَ، وَيَتّصِلُ اتّصالُها بِبِقائِكَ، ولا تَنْفَدُ (لا تنتهي أبداً) كَما لا تَنْفَدُ كَلِماتُكَ.

رَبّ صَلّ عَلى‏ مُحَمّدٍ وآلِهِ صَلاةً تَنْتَظِمُ صَلَواتِ مَلائِكَتِكَ وأَنْبِيائِكَ وَرُسُلِكَ وأَهْلِ طَاعَتِكَ، وَتَشْتَمِلُ عَلى‏ صَلَواتِ عِبادِكَ مِنْ جِنّكَ وإِنْسِكَ وأَهْلِ إجابَتِكَ، وَتَجْتَمِعُ عَلى‏ صَلاةِ كُلّ مَنْ ذَرَأْتَ وَبَرَأْتَ مِنْ أَصْنافِ خَلْقِكَ (خلقت ونشرت من أنواع المخلوقات)، رَبّ صَلّ عَلَيهِ وآلِهِ صَلاةً تُحِيطُ بِكُلّ صَلاةٍ سَالِفَةٍ (سابقة) وَمُسْتَأْنَفَةٍ (مستقبلية)، وصَلّ عَلَيهِ وعَلى‏ آلِهِ صَلاةً مَرْضِيّةً لَكَ ولِمَنْ دُونَكَ، وَتُنْشِئُ مَعَ ذلِكَ صَلَواتٍ تُضاعِفُ مَعْها تِلْكَ الصّلَواتِ عِنْدَها، وَتَزِيدُها عَلى‏ كُرُورِ الأَيامِ (تعاقبها) زِيادَةً في تَضاعِيْفَ لا يَعُدّها غَيْرُكَ، رَبّ صَلّ عَلى‏ أَطائبِ أَهْلِ بَيْتِهِ، الّذينَ اخْتَرْتَهُمْ لأَمْرِكَ، وَجَعَلْتَهُمْ خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَحَفَظَةَ دِينِكَ، وَخُلَفاءَكَ في أَرضِكَ، وَحُجَجَكَ عَلى‏ عِبادِكَ، وَطَهّرْتَهُمْ مِنَ الرّجْسِ والدّنَسِ تَطْهِيرا بإرادَتِكَ، وَجَعَلْتَهُمْ الوَسِيلَةَ (كلّ ما يتحقق به الغرض، الأسباب المؤدية إلى الغايات) إلَيكَ، والمَسْلَكَ إلى‏ جَنّتِكَ، رَبّ صَلّ عَلى‏ مُحَمّدٍ وآلِهِ صَلاةً تُجْزِلُ لَهُمْ بِها مِنْ نِحَلِكَ وَكَرامَتِكَ، وتُكْمِلُ لَهُمُ الأَشياءَ مِنْ عَطاياكَ ونَوَافِلِكَ (زياداتك)، وَتُوَفّرُ عَلَيْهِمْ الحَظّ مِنْ عَوائِدِكَ وَفَوائِدِكَ (تستكمل نصيبهم من الفضائل والعطايا)، رَبّ صَلّ عَلَيهِ وَعَلَيهِمْ صَلاةً لا أَمَدَ في أَوّلِها (لا انقضاءً لها)، ولا غَايَةَ لأَمَدِها، ولا نِهايَةَ لآخِرِها، رَبّ صَلّ عَلَيهِمْ زِنَةَ عَرْشِكَ وَما دُونَهُ، وَمِلْ‏ءَ سَماواتِكَ وَما فَوقَهُنّ، وَعَدَدَ أَرَضِيْكَ وَما تَحْتَهُنّ وَما بَيْنَهُنّ، صَلاةً تُقَرّبُهُمْ مِنْكَ زُلْفى (تقرّب منزلتهم منك، يزدادوا منك قرباً)‏، وَتَكُونُ لَكَ وَلَهُم رِضىً، وَمُتّصِلَةً بِنَظائِرِهنّ أبَدا، اللّهمّ إِنّكَ أَيّدْتَ دِينَكَ في كُلّ أَوانٍ بإِمامٍ أَقَمْتَهُ عَلَما لِعبادِكَ، وَمَنارا (يُستنار به، كمنارات السُفن التي تراها من بعيد وتتجه نحوها كعلامة سلامة) في بِلادِكَ، بَعْدَ أنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ (ربطت سببه بسببك، أي جعلته مرتبطاً بك ارتباطاً وثيقاً)، وَجَعَلْتَهُ الذّرِيعَةَ إلى‏ رِضْوانِكِ، وافْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وحَذّرْتَ مَعْصِيتَهُ، وأَمَرْتَ بامْتِثالِ أَمْرِهِ (الاستجابة لإرادته) والانْتِهاءِ عَنْدَ نَهيِهِ، وَأَلّا يَتَقَدّمَهُ مُتَقَدّمٌ، وَلا يَتَأَخّرَ عَنْهُ مُتَأخّرٌ، فَهُوَ عِصْمَةُ اللائِذِينَ (نجاة الطالبين النجاة، حماية للاجئين إلى مظلّة حماية)، وَكَهْفُ المُؤمِنِينَ، وَعُروَةُ المُسْتَمْسِكِينَ (مقبض المتعلق بشيء حتى لا يسقط (أشبه شيء بمقابض الحافلة أو سيارة النقل العام التي يمسك بها بعض الركاب للوقوف بمقابض جلديّة))، وَبَهاءُ العالَمِينَ (مجد وعظمة العارفين الذين يعلمون مَن أنت)، اللّهمّ فأَوزِعْ لِوَلِيّكَ شُكْرَ ما أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيهِ (ألهمه شكر النعم التي مننت بها عليهم)، وأَوْزِعْنا مِثْلَهُ فِيهِ، وَآتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطانا نَصِيرا، وَافْتَحْ لَهُ فَتْحا يَسِيرا، وَأعِنْهُ بِرُكْنِكَ الأعَزّ (الاعتماد عليك)، وَاشْدُدْ أَزْرَهُ (قوِّه، أعنه على ما يريد)، وَقَوّ عَضُدَهُ (أسعفه وأنجده وانصره)، وَرَاعِهِ بِعَينِكَ، واحْمِهِ بِحِفْظِكَ، وانْصُرْهُ بِمَلائِكَتِكَ، وامْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الأَغْلَبِ، وأَقِمْ بِهِ كِتابَكَ وَحُدُودَكَ وَشَرائِعَكَ وسُنَنَ رَسُولِكَ صَلَواتُكَ اللّهمّ عَلَيهِ وآلِهِ، وأَحْيِ بِهِ ما أَماتَهُ الظّالِمُونَ مِنْ مَعالِمِ دِيْنِكَ، واجْلُ بِهِ صَدَأَ الجَوْرِ (أزل بظهوره ما تراكم من كدر الظلم وسيئاته. (والصدأ الطبقة البنية التي تعلو الحديد)) عَن طَرِيقَتِكَ، وأبِنْ بِه الضّرّاءَ مِنْ سَبِيلِكَ (ابعد الآلام والمخاطر عن طريق دعوته إليك)، وأَزِلْ بِهِ النّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِكَ (اطرد وامحُ به المبتعدين عن خط الاستقامة والصلاح)، وامْحَقْ بِهِ بُغاةَ قَصْدِكَ عِوَجا (إفنِ الذين يبغون تحويل العدالة إلى الإعوجاج)، وأَلِنْ جانِبَهُ لأَولِيائِكَ (إجعله متواضعاً لأنصار دينك) وابْسُطْ يَدَهُ عَلى‏ أَعدَائِكَ (مكِّنه منهم ليغلبهم)، وَهَبْ لَنا رَأْفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَتَعَطّفَهُ وَتَحَنّنَهُ، واجْعَلْنا لَهُ سامِعِينَ مُطِيعِينَ، وفي رِضاهُ ساعِينَ، والى نُصْرَتِهِ والمُدافعةِ عَنْهُ‏ مُكْنِفِينَ واليْكَ والى‏ رَسُوِلَكَ صَلواتُكَ اللّهمّ عَلَيهِ وآلِهِ بِذلِكَ مُتَقَرّبِينَ، اللّهمّ وَصَلّ عَلى‏ أَوْلِيائِهِمْ المُعْتَرِفِينَ بِمَقامِهِمْ، المُتّبِعِينَ مَنْهَجَهُم، المُقْتَفِينَ آثارَهُم (السائرين على خطاهم)، المُسْتَمْسِكَينَ بِعُرْوَتِهِم، المُتَمَسْكِينَ بِوِلايتِهِم، المُؤْتَمِّينَ بِإِمامَتِهِم، المُسَلّمِينَ لأَمْرِهِم، الُمجْتَهِدِينَ في طاعَتِهِم، المُنْتَظِرِينَ أَيّامَهُمْ، المادّينَ إِليهِم أَعْيُنَهُم، الصّلَواتِ المُبارَكاتِ الزّاكِياتِ النّامِياتِ الغَادِياتِ (جمع غادية وهي السحابة الممطرة) الرّائِحاتِ، وَسَلّمْ عَلَيهِم وَعَلى‏ أَرْواحِهِم، واجْمَعْ عَلى‏ التّقْوى‏ أَمْرَهُم، وأَصْلِحْ لَهُم شُؤُوْنَهُم، وَتُبْ عَلَيْهِم، إِنّكَ أَنْتَ التّوابُ الرّحِيمُ، وَخَيْرُ الغافِرينَ، واجْعَلْنا مَعَهُم في دارِ السّلامِ (الجنّة)، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ، اللّهمّ هذا يَومُ عَرَفة، يَومٌ شَرّفْتَهُ وَكَرّمْتَهُ وَعَظّمْتَهُ، نَشَرْتَ فِيهِ رَحْمَتَكَ، وَمَنَنْتَ فِيهِ بَعَفْوِكَ، وأَجْزَلْتَ فِيهِ عَطَيّتَكَ، وَتَفَضّلْتَ بِهِ عَلى‏ عِبادِكَ، اللّهمّ وأنَا عَبْدُكَ الذِي أَنْعَمْتَ عَلَيهِ قَبْلَ خَلْقِكَ لَهُ، وَبَعْدَ خَلْقِكَ إيّاهُ، فَجَعَلْتَهُ مِمّنْ هَديتَهُ لِدِينِكَ، وَوَفّقْتَهُ لِحَقّكِ، وَعَصَمْتَهُ بِحَبْلِكَ، وَأَدْخَلْتَهُ فِي حِزْبِكَ (ألحقته بالجماعة التي تعبدك وتنصر دينك)، وَأَرْشَدْتَهُ لِمُوالاةِ أَوْلِيائِكَ وَمُعاداةِ أَعْدائِكَ، ثُمّ أَمَرْتَهُ فَلَمْ يأْتَمِرْ، وَزَجَرْتَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وَنَهَيْتَهُ عَن مَعْصِيَتِكَ فَخَالَفَ أَمْرَكَ إلى‏ نَهْيكَ، لا مُعانَدَةً لَكَ ولا اسْتِكْبارا عَلَيكَ، بَلْ دَعاهُ هَواهُ إلى‏ ما زَيّلْتَهُ (اغرته شهوته بما نهيته عنه) وإلى‏ ما حَذّرْتَهُ، وأَعانَهُ عَلى‏ ذلِكَ عَدُوّكَ وَعَدُوّهُ، فَأَقْدَمَ عَلَيهِ عَارِفا بِوَعِيدِكَ، رَاجِيا لِعَفْوِكَ، وَاثِقا بِتَجاوُزِكَ، وَكَانَ أَحَقّ عِبادِكِ مَعَ ما مَنَنْتَ عَلَيهِ أَلّا يَفْعَلَ، وَها آنذا بَيْنَ يَدَيكَ صاغِرا (حقيراً) ذَلَيلا، خاضِعا خاشِعا، خائِفا مُعْتَرِفا بِعَظِيمٍ مِن الذّنُوبِ تَحَمّلْتُهُ، وجَلَيلٍ مِنَ الخَطايا اجْتَرَمْتُهُ (عظيم الذنوب التي تعدّ جرائم كبرى)، مُسْتَجِيرا بِصَفْحِكَ (أطلب اللجوء إلى عفوك)، لائِذا بِرَحْمَتِكَ (ملتجئاً إلى دواعي وأسباب رحمتك)، مُوقِنا أنّهُ لا يُجِيْرُنِي مِنْكَ مُجِيرٌ، ولا يَمْنَعُنِي مِنْكَ مانِعٌ، فَعُدْ عَلَيّ (امنحني) بِما تَعُودُ بِهِ عَلَى مَنِ اقْتَرَفَ من تَغَمّدِكَ (ارتكب ما هو مستور من الذنوب والعيوب)، وَجُدْ عَلَيّ بِما تَجُودُ بِهِ عَلَى‏ مَنْ أَلْقى‏ بِيَدِهِ إِليكَ مِنْ عَفْوِكَ، وَامْنُنْ عَلَيّ بِما يَتَعاظَمُكَ لا أَنْ تَمُنّ بِهِ عَلَى ما أَمّلَكَ مِنْ غُفْرَانِكَ، واجْعَلْ لِي فِي هذا اليومِ نَصِيبا أنَالُ بِهِ حَظّا مِنْ رِضْوانِكَ، ولا تَرُدّنِي صِفْرا مِمّا يَنْقَلِبُ بِهِ المُتَعَبّدُونَ لَكَ مِن عِبادِكَ، وإِنّي وإِنْ لَمْ أُقَدّمْ ما قَدّمُوهُ مِنَ الصالِحاتِ فَقَدْ قَدّمْتُ تَوحِيدَكَ، وَنَفْيَ الأَضْدادِ وَالأَنْدادِ (رفض الأمثال والشركاء لله تعالى من الأصنام والآلهة المعبودة من دونه) وَالأَشْباهِ عَنْكَ، وأَتَيْتُكَ مِنَ الأَبوابِ الّتي أَمَرْتَ أنُ تُؤتى‏ مِنْها، وَتَقَرّبْتُ إِليكَ بِما لا يَقْرُبُ بِهِ أَحَدٌ مِنْكَ إلّا بِالتّقَرّبِ بِهِ، ثُمّ اتْبَعْتُ ذلكَ بِالإِنابَةِ إِليكَ (الرجوع إليك)، والتّذَللِ والاسْتِكانَةِ (الخشوع والخضوع) لَكَ، وَحُسْنِ الظَنّ بِكَ، والثّقَةِ بِما عِنْدَكَ، وشَفّعْتُهُ بِرجائِكَ الّذي قَلّما يَخِيبُ عَلَيهِ رَاجِيكَ، وسَأَلْتُكَ مَسْأَلَةَ الحَقِيرِ الذّلِيلِ، البَائِسِ الفَقِيرِ، الخائِفِ المُسْتَجِيرِ، وَمَعَ ذلِكَ خِيفَةً (خوفاً منك) وَتَضَرّعاً (توسلاً بك) وَتَعَوّذاً (لجوءاً إلى رحمتك) وَتَلَوّذاً (هروباً إليك)، لا مُسْتَطِيلا (متجاوزاً) بَتَكَبّرِ المُتَكَبّرِينَ، ولا مُتَعالِيا بِدَالّةِ المُطِيعِينَ (لا متفاخراً بمنزلة مَنْ أطاعك)، وَلا مُسْتَطِيلا بَشَفاعَةِ الشّافِعِينَ، وأَنا بَعْدُ أقَلّ الأَقلّينَ، وأَذَلّ الأَذلّينَ، وَمِثْلُ الذّرّةِ أَو دُونَها، فَيا مَنْ لَمْ يُعاجِلِ المُسِيئِينَ، وَلا يَنْدَهُ المُتْرَفِينَ (لا يطرد المتنعمين)، وَيا مَنْ يَمُنّ بإقالَةِ العَاثِرينَ (يتفضّل بإنهاض الساقطين)، وَيَتَفَضَلُ بإِنْظارِ الخاطِئِينَ (إمهال وتكبير الذنوب)، أَنا المُسي‏ءُ المُعْتَرِفُ الخاطِئُ العاثِرُ، أَنا الّذي أَقْدَمَ عَلَيكَ مُجْتَرِئا، أَنا الّذي عَصاكَ مُتَعَمّدِا، أَنا الّذي اسْتَخْفى‏ مِن عِبادِكَ وَبارَزَكَ (حاربك)، أَنا الّذي هابَ عِبادَكَ وَأَمِنَكَ، أَنا الّذي لَمْ يَرْهَبْ سَطْوَتَكَ وَلَمْ يَخَفْ بَأْسَكَ (عذابك الشديد)، أَنا الجانِي عَلى‏ نَفْسِهِ، أَنا المُرْتَهَنُ بِبَلِيّتِهِ (المقيّد بخطاياه وذنوبه)، أَنا القَلِيلُ الحَياءِ، أَنا الطّويلُ العَناءِ، بَحَقّ مَنْ انْتَجَبْتَ (اخترت للنبوّة والإمامة) مِنْ خَلْقِكَ، وَبِمَنِ اصْطَفَيتَهُ لِنَفْسِكَ، بِحَقّ مَنْ اخْتَرْتَ مِنْ بَرِيّتِكَ، وَمَنِ اجْتَبَيْتَ لِشَأْنِكَ، بِحَقّ مَنْ وَصَلْتَ طَاعَتَهُ بِطاعَتِكَ، وَمَنْ جَعَلْتَ مَعْصِيتَهُ كَمَعْصِيتِكَ، بِحَقّ مَنْ قَرَنْتَ مُوالاتِهِ بِمُوالاتِكَ، وَمَنْ نُطْتَ مُعاداتِهِ بِمُعاداتِكَ (قرنت أو ربطت عداء الأنبياء والأوصياء بعدائك، فمن عاداهم عاداك)، تَغَمّدْنِي فِي يَومِي هذا بِما تَتَغَمّدُ بِهِ مَنْ جأرَ إِليكَ مُتنصّلا، وَعاذَ بِاسْتِغْفارِكَ تَائِبا، وَتَوَلّنِي بِما تَتَوَلّى‏ بِهِ أَهْلَ طَاعَتِكَ، والزّلْفى‏ (القربى والتقرب) لَدَيكَ، والمَكَانَةِ مِنْكَ، وَتَوحّدَنِي بِما تَتَوَحّدُ بِهِ مَنْ وَفى‏ بِعَهْدِكَ، وَأَتْعَبَ نَفْسَهُ فِي ذاتِكَ، وأَجْهَدَها فِي مَرْضاتِكَ، وَلاَ تُؤاخِذْنِي بِتَفْرِيطِي فِي جَنْبِكَ (تقصيري في أداء حقّك)، وَتَعَدّي طَوْرِي فِي حِدُودِكَ (مجاوزتي لقدري في مخالفة أوامرك)، وَمُجاوَزَةِ أَحْكامِكَ، وَلا تَسْتَدْرِجْني (تجرّني شيئاً فشيئاً) بِإمْلائِكَ لِيَ اسْتِدْراجَ مَنْ مَنَعَنِي خَيْرَ ما عِنْدَهُ، وَلَمْ يَشْرَكْكَ فِي حُلُولِ نِعْمَتِهِ، وَنَبّهْنِي مِنْ رَقْدَةِ الغافِلِينَ (نومة الذين لا يعرفون مسؤولياتهم)، وَسِنَةِ المُسْرِفِينَ (غفوة وغفلة المتجاوزين حدودهم)، وَنَعْسَةِ الَمخْذُولِينَ، وَخُذْ بِقَلْبِي إلى‏ ما اسْتَعْمَلْتَ بِهِ القانِتِينَ (المطيعين)، واسْتَعْبَدْتَ بِهِ المُتَعَبّدِينَ، واسْتَنْقَذْتَ بِهِ المُتَهاوِنِينَ، وأَعِذْنِي (نجني وخلصني) مِمّا يُباعِدُنِي عَنْكَ، وَيَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ حَظّي مِنْكَ، وَيَصُدّنِي عَمّا أُحاوِلُ لَدَيْكَ، وسَهّلْ لِي مَسْلَكَ الخَيْراتِ إِليكَ، وَالمُسابَقَةَ إِليْها (المسارعة للعمل بها) مِنْ حَيثُ أَمَرْتَ، والمُشاحّةَ فِيها (المخاصمة والمحاكمة) عَلى‏ ما أَرَدْتَ، وَلا تَمْحَقْنِي (تهلكني وتبيدني وتستأصلني) فِيمَنْ تَمْحَقُ مِنَ المُسْتَخِفّينَ بِما أَوْعَدْتَ، وَلا تُهْلِكْنِي مَعَ مَنْ تُهْلِكُ مِنَ المُتَعَرّضِينَ لِمَقْتِكَ (المواجهين لسخطك وغضبك وانتقامك)، وَلا تُتَبّرْنِي (لا تدمِّرني) فِيمَنْ تُتَبّرُ مِنْ المُنْحَرِفِينَ عَنْ سُبُلِكَ، وَنَجّنِي مِنْ غَمَراتِ الفِتْنَةِ (اقتحام أهوال الابتلاءات)، وَخَلّصْنِي مَنْ لَهَواتِ البَلْوى (مُشغلات الكوارث والمصائب)‏، وَأَجِرْنِي مِنْ أَخْذِ الإِملاءِ (انقذني من أخذي في فترة إمهالك لي)، وَحُلْ (قف حائلاً ومانعاً) بَيْنِي وَبَيْنَ عَدُوّ يُضِلّنِي، وَهَوىً يُوْبِقُنِي (ميلٌ نفسيّ يذلّني ويهلكني)، وَمَمْقَصَةٍ تُرْهِقُنِي (نقض في الدين والأخلاق يرهق كاهلي، ويثقل نفسيّتي)، وَلا تُعْرِضْ عَنّي إعْراضَ مَنْ لا تَرْضى‏ عَنْهُ بَعْدَ غَضَبِكَ، وَلا تُؤْيِسْنِي مِنَ الأَمَلِ فِيكَ فَيَغْلِبَ عَلَيّ القُنُوطُ (اليأس) مِنْ رَحْمَتِكَ، وَلا تَمْتَحِنّي بِما لا طاقَةَ لِي بِهِ فَتَبْهَظَنِي مِمّا تَحَمّلْنِيهِ مِنْ فَضْلِ مَحَبّتِكَ، وَلا تُرْسِلْنِي مِنْ يَدَكِ إِرْسالَ مَنْ لا خَيْرَ فِيهِ، وَلا حَاجَةَ بِكَ إِلَيهِ، وَلا إنابَةَ لَهُ، وَلا تَرْمِ بِي رَمْيَ مَنْ سَقَطَ مِنْ عَينِ رِعايَتِكَ، وَمَنِ اشْتَمَلَ عَلَيهِ الخَزْيّ (العذاب الدنيويّ) مِنْ عِنْدِكَ، بَلْ خُذْ بِيَدِي مِنْ سَقْطَةِ المُتَرَدّينَ، وَوَهْلَةِ المُتَعَسّفِيْنَ (فزعة المتشددين) وَزَلّةِ المَغْرُوِرْينَ وَوَرْطَةِ الهَالِكِينَ، وَعافِنِي مِمّا ابْتَلَيْتَ بِهِ طَبَقَاتِ عَبِيْدِكَ وإمائِكَ، وَبَلّغِنِي مَبالِغَ مَنْ عُنِيْتَ بِهِ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيهِ وَرَضِيتَ عَنْهُ، فَأَعَشْتَهُ حَمِيدا، وَتَوَفّيتَهُ سَعِيدا، وَطَوّقْنِي طَوْقَ الإِقْلاعِ (الكفّ، الامتناع) عَمّا يُحْبِطُ الحَسَناتِ (يبطل ثوابها)، وَيُذْهِبُ بِالبَرَكاتِ، وَاشْعِرْ قَلْبِي الإِزْدِجارَ عَنْ قَبائِحِ السّيْئاتِ، وَفَوَاضِحِ الحَوْباتِ (الآثام المهلكات)، وَلا تَشْغَلْنِي بِما لا أَدْرِكُهُ إلاّ بِكَ عَمّا لا يُرْضِيكَ عَنّي غَيرُهُ، وَانْزِعْ مِنْ قَلْبِي حُبّ دُنْيا دَنِيّةٍ تَنْهى‏ عَمّا عِنْدَكَ، وَتَصُدّ عَن ابْتِغاءِ الوَسِيلَةِ إِليكَ، وَتُذْهِلُ (تصرف، تُبعد) عَنِ التّقَرّبِ مِنْكَ، وَزَيّنْ (حبّب) لِي التّفَرّدَ بِمناجاتِكَ بالليلِ والنّهارِ، وَهَبْ لِي عِصْمَةً تُدْنِينِي مِنْ خَشْيَتِكَ، وَتَقْطَعُنِي عَن رُكُوبِ مَحارِمِكَ، وَتَفُكّنِي مِنْ أَسْرِ العَظائِمِ (الذنوب العظيمة، الكبائر)، وَهَبْ لِي التّطْهِيرَ مِنْ دَنَسِ (التلوّث بالوسخ والنجاسة) العِصْيانِ، وأَذْهِبْ عِنّي دَرَنَ (مرض، وسخ) الخَطايا، وَسَرْبِلْنِي (ألبسني) بَسِرْبالِ عافِيَتِكَ، وَرَدّنِي (ألبسني) رَدَاءَ مُعافاتِكَ، وَجَلّلْنِي (غطّني) سَوابِغَ نَعْمائِكَ (ما تفيضه منها عليَّ)، وَظاهِرْ (أبن، إكشف) لَدَيّ فَضْلَكَ وَطَوْلَكَ، وَأَيّدْنِي بِتَوْفِيقِكَ وَتَسْدِيدِكَ، وَأَعِنّي عَلى‏ صَالِحِ النّيَةِ، وَمَرْضِيّ القَوْلِ، وَمُسْتَحْسَنِ العَمَلِ، وَلا تَكِلْنِي إلى‏ حَوْلِي (لا تتركني لقدرتي) وَقُوّتِي دُونَ حَوْلِكَ وَقُوّتِكَ، وَلا تُخْزِنِي يَومَ تَبْعَثُنِي لِلِقائِكَ وَلا تَفْضَحْنِي بَيْنَ يَديَ أَولِيائِكَ، وَلا تُنْسِنِي ذِكْرَكَ، وَلا تُذْهِبْ عَنّي شُكْرَكَ، بلِ الزِمْنِيهِ (إجعلني ملازماً ومرافقاً ومصاحباً له) فِي أَحوالِ السّهوِ عِنْدَ غَفَلاتِ الجاهِلِينَ لآلائِكَ (نعمك)، وَأَوْزِعْنِي (ألهمني) أَنْ أُثْنِي بِما أَولَيتِنِيهِ، وَأَعْتَرِفَ بِما أَسْدَيتَهُ إِليّ (أنعمت به عليَّ)، وَاجْعَلْ رَغْبَتي إِليكَ فَوْقَ رَغْبَةِ الرّاغِبِينَ، وَحَمْدِي إِيّاكَ فَوْقَ حَمْدِ الحامِدِينَ، وَلا تَخْذُلْنِي عِنْدَ فاقَتِي إِليكَ، وَلا تُهْلِكْنِي بِما أَسْدَيْتُهُ إِليكَ، وَلا تَجْبَهْنِي (لا تؤاخذني) بِما جَبَهْتَ بِهِ المُعانِدِينَ لَكَ، فإِنّي لَكَ مُسْلّمٌ، أَعْلَمُ أَنّ الحُجّةَ لَكَ، وَأَنّكَ أَوْلَى‏ بِالفَضْلِ، وَأَعْودُ بِالإِحْسانِ، وَأَهْلُ التّقْوى‏ وَأَهْلُ المَغْفِرَةِ، وَأَنّكَ بِأَنْ تَعْفُو أَوْلَى‏ مِنْكَ بِأَنْ تُعاقِبَ، وَأَنّكَ بِأَنْ تَسْتُرَ أَقْرَبُ مِنْكَ إلى‏ أَنْ تَشْهَرَ (تفضح)، فَأَحْينِي حَياةً طَيّبَةً تَنْتَظِمُ بِما أُريدُ، وَتَبْلُغُ ما أُحِبّ مِنْ حَيثُ لا آتِي ما تَكْرَهُ، وَلا أَرْتَكِبُ ما نَهَيْتَ عَنْهُ، وَأَمِتْنِي مِيتَةَ مَنْ يَسْعى‏ نُورُهُ بَيْنَ يَدَيهِ وَعَنْ يَمِينِهِ، وَذَلِلْنِي بَينَ يَدَيكَ، وَأَعِزّنِي عِنْدَ خَلْقِكَ، وَضَعْنِي إِذا خَلَوْتُ بِكَ (إجعلني متواضعاً في إنفرادي بك للمناجاة)، وَارْفَعْنِي بَينَ عِبادِكَ، وأغْنِنِي عَمّنْ هُو غَنيّ عَنّي، وَزِدْنِي إِليكَ فاقَةً وفقرا، وَأَعِذْنِي مِنْ شَماتَةِ الأَعْداءِ (فرحهم بما يصيبني من مكروه)، وَمِنْ حُلُولِ البلاءِ (وقوع المصائب)، وَمِنَ الذّلّ والعَناءِ، تَغَمّدْنِي (غطّني، استر عليَّ) فِيما اطّلَعْتَ عَلِيهِ مِنّي بِما يَتَغَمّدُ بِهِ القادِرُ عَلى‏ البَطْشِ لَولا حِلْمُهُ، وَالآخِذُ عَلى‏ الجَرِيرَةِ (المحاسبة على الذنب والمعاقبة عليه) لَولا أَناتُهُ (حلمه وصبره)، وإِذا أَرَدْتَ بِقَومٍ فِتْنَةً (بلاء، اختبار) أَو سُوءا فَنَجّنِي مِنها لَواذا (استعانة واستغاثة) بِكَ، وإِذْ لَمْ تُقِمْنِي مَقامَ فَضِيحَةٍ فِي دُنياكَ فَلا تُقِمْنِي مِثْلَهُ في آخرِتِكَ، واشْفَعْ (ثَنِّ، إقرنْ) لِي أَوائِلَ مِنَنِكَ بِأَواخِرِها، وَقَدِيمَ فَوائِدِكَ بِحَوادِثِها (جديدها)، وَلا تَمْدُدْ لِي مَدّا يَقْسُو مَعَهُ قَلْبِي، وَلا تَقْرَعْنِي قارِعَةً يَذْهَبُ بِها بَهائِي (لا تصبني بكارثة يختلّ لها توازني)، وَلا تَسُمْنِي خَسِيسَةً يَصْغُرُ لَها قَدْرِي (لا تبتلني بنقيصة يهون بها شأني)، وَلا نَقِيصَةً يُجْهَلُ مِنْ أَجْلِها مَكانِي، وَلا تَرُعْنِي رَوعَةً أُبْلِسُ بِها (لا تعرّضني لخوف أيأس فيه من رحمتك)، وَلا خِيفَةً أُوجِسُ دُونَها (يقع في قلبي خوف منها)، إِجْعَلْ هَيْبَتِي فِي وَعِيدِكَ، وَحَذَرِي مِنْ إِعْذارِكَ وإِنْذارِكَ، وَرَهْبَتِي عِنْدَ تِلاوةِ آياتِكَ، وَاعْمُرْ لْيلِي بِإِيقاظِي فِيهِ لِعِبادَتِكَ، وَتَفَرّدِي بِالتّهَجّدُ (بالعبادة) لَكَ، وَتَجَرّدِي (تحرّري من أهوائي وميولي المنحرفة) بِسُكُونِي إِليكَ، وَإَنْزالِ حَوائِجِي بِكَ، وَمُنازَلَتِي (محاربتي) إِيّاكَ فِي فَكاكِ رَقَبَتِي مِنْ نارِكَ، وَإِجارَتِي مِمّا فِيهِ أَهْلُها مِنْ عَذابِكَ، وَلا تَذَرْنِي (لا تتركني، لا تدعني) فِي طُغْيانِي عامِهاً، وَلا فِي غَمْرَتِي ساهِيا (غافلاً) حَتّى حِينٍ، وَلا تَجْعَلْنِي عِظَةً لِمَنِ اتّعَظَ، وَلا نَكالا لِمَنِ اعْتَبَرَ (عبرةً لمن يعتبر)، وَلا فِتْنَةً لِمَنْ نَظَرَ، وَلا تَمْكُرْ بِي فِيمَنْ تَمْكُرُ بِهِ، وَلا تَسْتَبْدِلْ بِي غَيرِي، وَلا تُغَيّرْ لِي إِسْما، وَلا تُبَدّلْ لِي جِسْما، وَلا تَتَّخِذْنِي هُزُوا لِخَلْقِكَ، وَلا سُخْرِيّا لَكَ وَلا تَبَعا إلّا لِمَرْضاتِكَ، وَلا مُمْتَهَنا (ذليلاً) إلّا بِالإِنْتِقامِ لَكَ، وَأَوْجِدْنِي بَرْدَ عَفْوِكَ وَرَوْحِكَ وَرَيْحانِكَ وَجَنّةِ نَعِيمِكَ، وَأَذِقْنِي طَعْمَ الفَراغِ لِما تُحِبّ بِسَعَةٍ مِنْ سَعَتِكَ، وَالإِجْتِهادِ فِيما يُزْلِفُ (يُقرّب) لَدَيكَ وَعِنْدَكَ، وَأَتْحِفْنِي بِتُحْفَةٍ مِنْ تُحَفاتِكَ، وَاجْعَلْ تِجارَتِي رَابِحَةً، وَكَرّتِي غَيرَ خاسِرَةٍ (رجعتي وعودتي إليك)، وَأَخْفِنِي مَقامَكَ، وَشَوّقْنِي لِقاءَكَ، وَتُبْ عَلَيّ تَوْبَةً نَصُوحا (لا عودة للذنب بعدها) لا تُبْقِ مَعَها ذُنُوبا صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلا تَذَرْ مَعَها عَلانِيّةً وَلا سَرِيرَةً، وَانْزِعِ الغِلّ (الحقد) مِنْ صَدْرِي لِلِمُؤْمِنِيْنَ، وَاعْطِفْ بِقَلْبِي عَلى‏ الخاشِعِينَ، وَكُنْ لِي كَما تَكُونُ لِلِصّالِحِينَ، وَحِلّنِي حِلْيَةَ المُتّقِينَ، وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الغَابِرِينَ (السابقين)، وَذِكْرا ناميا فِي الآخِرِينَ، وَوافِ بِي عَرْصَةَ (ساحة خالية من البناء والنبات) الأَوّلِينَ، وَتَمّمْ سُبُوغَ نِعْمَتِكَ عَلَيّ، وَظاهِرْ كَراماتِها لَدَيّ، إِمْلأْ مِنْ فَوائِدِكَ يَدَيّ، وَسُقْ كَرائِمَ مَواهِبِكَ إِليّ، وَجاوِرْ بَيْنَ الأطْيَبِيْنَ مِنْ أَولِيائِكَ، في الجِنَانِ الّتي زَيّنْتَها لأصْفِيائِكَ وَجَلّلْنِي شَرائِفَ نِحَلِكَ (مِننك، نِعمك، مواهبك، عطاياك) فِي المَقاماتِ المُعَدّةِ لأحِبّائِكَ، وَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ مَقِيلا آوِي إِليهِ مُطْمَئِنا، وَمَثابَةً أَتَبَوّأُها (مرجعية أرجع إليها مرّةً بعد أخرى) وَأَقَرّ عَينا، وَلا تُقايِسْنِي بِعَظِيماتِ الجَرَائِرِ (المعاصي)، وَلا تُهْلِكْنِي يَومَ تُبْلَى‏ السّرائِرُ، وَأَزِلْ عَنّي كُلّ شَكّ وَشُبْهَةٍ، وَاجْعَلْ لِي فِي الحَقّ طَرِيقا مِنْ كُلّ رَحْمَةٍ، وَأَجْزِلْ (أكثر) لِي قِسْمَ المَواهِبِ مِنْ نَوالِكَ، وَوَفّرْهُ عَلَيّ حُظُوظَ الإِحْسانِ مِنْ إَفْضالِكَ، وَاجْعَلْ قَلْبِي وَاثِقا بِما عِنْدَكَ، وَهَمّي مُسْتَفْرغا لِما هُوَ لَكَ، واسْتَعْمِلْنِي بِما تَسْتَعْمِلُ بِهِ خَالِصَتَكَ (المخلصين من عبادك)، وَأَشْرِبْ قَلْبِي (إملأه) عِنْدَ ذُهُولِ العُقُولِ (انصرافها عن الحقّ إلى الباطل) طاعَتَكَ، وَاجْمَعْ لِي الغِنى‏ وَالعَفافَ وَالدّعَةَ وَالمُعافاةَ والصّحَةَ والسّعَةَ وَالطُمأْنِينَةَ وَالعافِيةَ، وَلا تُحْبِطْ (تُبطل، تُفسه) حَسَناتِي بِما يَشُوبُها (يخالطها) مِنْ مَعْصِيتِكَ، وَلا خَلَواتِي بِما يَعْرِضُ لِي مِنْ نَزَعاتِ (ميول) فِتْنَتِكَ، وَصُنْ (احفظ) وَجْهِي عَن الطّلَبِ إلى‏ أَحَدٍ مِنْ العَالَمِينَ، وَذُبّنِي (ادفعني، أبعدني) عَنْ الِتماسِ (طلب) ما عِنْدَ الفاسِقِينَ، وَلا تَجْعَلْنِي لِلظالِمِينَ ظَهِيرا (معيناً، نصيراً)، وَلا لَهُمْ عَلى‏ مَحْوِ كِتابِكَ يَدا وَنَصِيرا، وَحُطْنِي مِنْ حَيثُ لا أَعْلَمُ حِياطَةً (حراسة) تَقِينِي بِها، وَافْتَحْ لِي أَبوابَ تَوْبَتِكَ وَرَحْمَتِكَ وَرَأْفَتِكَ وَرِزْقِكَ الواسِعِ، إِنّي إِليكَ مِنَ الرّاغِبِينَ، وَأتْمِمْ لِي إِنْعامَكَ إِنّكَ خَيرُ المُنْعِمِينَ، واجْعَلْ باقِي عُمُرِي فِي الحَجّ والعُمْرَةِ إبْتِغاءِ وَجْهِكَ يا رَبّ العالَمِينَ، وَصَلّى‏ اللّهُ عَلى‏ مُحَمّدٍ وَآلِهِ الطّيّبِينَ الطّاهِرِينَ، والسّلامُ عَلَيهِ وَعَلَيهِم أَبَدَ الآبِدِينَ».

هذا وقد ذكر صاحب (آفاق الروح في أدعية الصحيفة السجادية، ج2) المفاهيم الأساسية للدُّعاء التي نوجزها بالآتي:

1- الدُّعاء دراسة ابتهالية لكلّ مفردات الإيمان في توحيد الله وسعة علمه وقدرته وصفاته العليا وأسمائه الحسنى، وقصور العقل عن الإحاطة بذاته.

2- يؤكِّد دور الإمام في الأُمّة على اعتبار أنّ يوم عَرَفة هو اليوم الذي يتمثل فيه مظهر الأُمّة الواحدة تحت ظلّ قيادتها الواحدة.

3- الحديث عن يوم عَرَفة الذي جعل الله له الشرف والكرامة والعظمة الروحية بما نشر فيه من الرحمة، ومَنَّ فيه بالعفو، وأجزل فيه العطية، وتفضّل به على خلقه.

4- الاعتراف الخاشع في تقديم الإنسان نفسه لربّه بصفة العبد الذي أفاض الله عليه النعم، وشقّ له درب الهداية، ووفقه للالتزام بالحقّ وللاعتصام بحبله ولكنه عصى أمره ونهيه.

5- ثمّ تتتابع الاعترافات الخاشعة الذليلة؛ أمام الله، طالباً منه أن يتغمّده بما يتغمّد به التائبين، ولا يؤاخذه بما يؤاخذ به الخاطئين.

6- تتنّوع في الدُّعاء أساليب الاستعطاء من التوسُّل والابتهال، ثمّ تتابع الطلبات في هذا اليوم (يوم عَرَفة) الذي يفيض الله فيه رحمته على عباده، وتتعدد الاعترافات بما عاشه الإنسان في مفردات حياته التي ابتعد بها عن ربّه.

ويصف العلّامة الراحل السيد محمد حسين فضل الله ; الدُّعاء بأنّه يمثِّل وثيقة روحية شاملة مملوءة بالتكبير والتهليل والتحميد والتسبيح والصلاة على الرسول 6 وأهل بيته :، وكلّ حاجات الإنسان في حياته وفي الواقع الداخلي لنفسه، وفي الواقع الخارجي لحياته، مما يُحقِّق له السعادة في الدنيا والآخرة من خلال الله سبحانه.

 

- وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -


[1]- أفضتم: رفعتم أنفسكم بكثرة وسرتم، انصرفتم منها بعد انقضاء الموقف.

[2]- حاولنا أن ننحت أو نصوغ من معاني (عرفة) و(المعرفة) و(العرفان) و(التعارف) تعريفاً جامعاً لا يقف عند حدود معرفة كلمة (عرفة) في اللغة، بل بكل مشتقاتها وأخواتها والمتفرِّعات عنها ليتحلّى معناها أكثر من التقاطه من مفردته القاموسية.

[3]- انظر: الموسوعة الإسلامية الميسرة، ج8، ص1641، مادة (عرفة - عرفات).

[4]- قوله تعالى: ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ (هود/ 118)، دالٌّ دلالة قطعية على أنّ الاختلاف هو الأصل وهو السرّ وراء الدعوة إلى (التعارف).

[5]- خيرَ مَنْ عبّر عن هذه الفكرة أو النظرة الإمام جعفر بن محمّد الصادق 7 حيث يقول: «الإمامة هي المفترق للطرق وعندها اجتماع ذلك الافتراق، وأمّا السلطة فهي مكان اجتماع يمضي إلى افتراق»!!

[6]- بحار الأنوار، 75/162.

[7]- غرر الحكم، 3126.

[8]- غرر الحكم، 3260/451/2.

[9]- الإمام الصادق 7 والمذاهب الأربعة، ج4.

[10]- الضفيرة: كلّ خصلة تُضفَرُ على حدة، جعلت شعرها ضفيراً: منسوجاً، مضفوراً، الحائط يبنى في وجه الماء.

[11]- كتاب مفاتيح الجنان، دعاء الأسحار لشهر رمضان (دعاء أبي حمزة الثمالي)، ص372-389.

[12]- المصدر نفسه، أدعية وزيارات (أعمال شهر رمضان)، ص349.

[13]- الصحيفة السجادية، دعاء الإمام الحسين 7 يوم عرفة، دعاء 47.

[14]- أصول الكافي، ج2، ص72.

[15]- نور الثقلين، ج4، ص544.

[16]- مشكاة الأنوار/ 35.

[17]- سنن أبي داود/ 4993.

[18]- غرر الحكم/ 8840.

[19]- إنما قال ذلك لأنّ ربيعة كانت تحرّم رمضان وتسِّميه رجباً، فنبّه 6 إنّه رجب مضر لا رجب ربيعة.

[20]- رواه أحمد في مسنده: 5/211.

[21]- نحيل القارئ الكريم إلى مصدرين على (النت) لاستكمال الفائدة من معرفة مضامين الدعاء وأسراره الباطنية. الأوّل: (شرح دعاء عرفة للشيخ مرتضى فرج)، والثاني: سلسلة أحاديث الشيخ (حبيب الكاظمي) في الأسرار الباطنية للدعاء.

ارسال التعليق

Top