• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

المنهج القرآني وفهم المجتمع

أسرة البلاغ

المنهج القرآني وفهم المجتمع

◄إنّ المرور السريع على بيانات القرآن وعرضه للظواهر وتعريفه بالمجتمع والإنسان الاجتماعي بصيغته التطبيقية، يتأكد لنا أنّ منهج القرآن، هو المنهج الاستقرائي الميداني في التعريف بالظاهرة، واكتشاف القوانين الاجتماعية، ومن ثمّ تعميم الحكم.. لذا نجده قد سجل الظواهر المتكررة، وسمّاها وأرّخ لها عبر مسار المجتمع البشري ليجعل من العقل الإنساني عقلاً عملياً يتعامل مع الوقائع والحقائق.. وذلك المنهج يوصلنا إلى أنّ منهج استقراء الظواهر الاجتماعية عن طريق الملاحظة ووصفها وتحليلها، هو المنهج العملي لاكتشاف الأسباب والعلل الكامنة خلفها، تمهيداً لتعميمها على المماثل المستقبلي..

وهكذا يسير المنهج القرآني من تتبع الجزئيات عن طريق ملاحظتها وتسجيلها لمعرفة السبب الكلي، والخروج بقانون وقاعدة عامة أوّلاً، وهذا هو الاستقراء، ثمّ الانتقال إلى القياس ثانياً، أي إلى تطبيق القانون على الحالات المتماثلة التي لم تدخل في الاستقراء، أي إنّ التكرار سيستمر في المستقبل، كما هو في الماضي لوجود المشترك العلِّي.. فالمنهج يتكوّن من مراحل:

1-    مرحلة الاستقراء: وهو تتبع الظواهر المتماثلة عن طريق الملاحظة.

2-     مرحلة الاستنباط: وهو اكتشاف القانون الكلي المشترك.

3-    مرحلة القياس: وهو تعميم القانون الكلي وتطبيقه على المصاديق المماثلة..

وينبغي أن نوضح هنا أنّ منهج البحث الاجتماعي يتفق مع منهج بحث العلوم الطبيعية في الآلية.. وربما أنّ هناك فارقاً كبيراً بين موضوعي العلمين: الطبيعي والإنساني.. ففي البحث الاجتماعي يكون التعامل مع الإنسان.. وهو يملك الوعي والإرادة والاختيار، والقدرة الذاتية على التغيير، بينما في مجال العلوم الطبيعية يتعامل الباحث مع المادّة الجامدة المجرَّدة من الاختيار والخاضعة للحتمية القانونية بصورة قسرية، فهي لا تملك إلّا الخضوع والحركة وفق القانون المحدد لها..

وبذا يبرز الفارق بعد الحصول على النتائج الاستقرائية والانتقال إلى المرحلة القياسية.. مرحلة تطبيق القانون على الوحدات المماثلة التي لم تخضع للاستقراء، والتنبؤ بما يكون عليه مستقبلها.. ففي الطبيعيات نستطيع بشكل قطعي أن نتنبأ بنتائج القياس.. أمّا في المجال الاجتماعي فليس بوسعنا التنبؤ بالنتائج، قياساً على الوحدات المماثلة التي تم استقراؤها، إلّا في حال الاستمرار بنفس الإرادة والاختيار الذي تحقق استقراء ظواهره، فإنّ النتائج ستكون مماثلة للتي حصلنا عليها في الوحدات التي تمّ استقراؤها..

وذلك ما وضّحه القرآن عندما يتحدّث عن السنن والقوانين العامة.. بل جعل من السنن والقوانين العامّة قانون وسُنة تغير الوضع بتغير الذات.. فقال: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ) (الرعد/ 11).

وتغيير الذات مسألة إرادية واختيارية.. والقرآن يوضح ذلك، ويؤكد حرِّية الإرادة والاختيار عند الإنسان.. لذا دعاه إلى أن يحرر إرادته واختياره من الموروث الاجتماعي المتخلف، ويتعامل بوعي وبصيرة مع الخطاب والحدث الجديد.. ولذا أيضاً وصفه بقوله: (بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) (القيامة/ 14-15).

(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 7-10).

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن)[1] (البلد/ 10).

وكم خاض الأئمة والعلماء والفلاسفة الإسلاميون من حوارات حول الجبر والاختيار الإنساني.. وكم من النظريات والآراء والمذاهب التي تكوّنت حول هذه المسألة الخطيرة.. وإن أخطر ما ظهر في هذه الجدليات النظرية، هو الخروج على الرؤية القرآنية والقول بالجبرية المباشرة، أو التسلسلية التي تفسر سلوك الإنسان بمجموعة من العلل المتتابعة، لتنهيها إلى الجبرية، وتحكُّم تلك العلل في الإرادة.. ومن الواضح أنّ الاستقراء الاجتماعي، هو من الاستقراء الناقص.. ذلك لأنّه يشمل بعض العينات.. غير إنّ تلك العينات تكون مثالاً للكلّ المماثل، لأنّها تشترك معه في الذات والسبب المنتج للظاهرة.. وإذاً فمنهج الاستقراء في العلوم الاجتماعية يتكون من الخطوات الآتية:

1-     استقراء عينات من الظواهر الاجتماعية عن طريق الملاحظة أو الفحص التجريبي.. كالتي عرضها القرآن.

2-    وعلى أساس قانون السببية، أي إنّ تكرار الظاهرة يمثل نتيجة لسبب واحد، يتم اكتشاف القانون.

3-    استنباط القانون والسُّنة المشتركة مما توصل إليه تلك الجزئيات المتماثلة..

4-    الانتقال إلى القياس، وذلك يعني تطبيق القانون الكلي المكتشف على مصاديقه المماثلة.

5-    والغرض من ذلك القياس هو التنبؤ بحدوث الظواهر والحالات الاجتماعية ذاتها، (تكرارها)، مع توفر كامل الظروف والشروط والأسباب التي تمّ استقراء الوحدات المماثلة ضمنها..

6-    تقييم النتيجة، وتحديد الموقف منها.. الإقرار أو التعديل، أو التغيير وإحلال البديل..

7-    إنّ الإرادة والاختيار والوعي عناصر قادرة على الانتقال من وضع قانوني اجتماعي إلى وضع آخر.. أي قادرة على التغيير الذاتي.. فهي تختار وضع الذات فتضعها ضمن هذه السنّة وذلك القانون أو ذاك ليجري عليها..

يتأثر الباحث الاجتماعي بالأوليات التي ينطلق منها في بحثه كالأوليات الفلسفية والعقيدية والتبنيات العلمية، كنظريات علم النفس والإجرام والأخلاق والرؤية التحليلية.. ولذا يختلف علم الاجتماع باختلاف المذاهب الفلسفية والعقيدية والنظريات والأُسس العلمية التي ينطلق منها الباحث.. وعالم الاجتماع الإسلامي يبدأ افتراقه مع غيره من أصحاب النظريات الاجتماعية ابتداءً من مرحلة التحليل ثمّ التفسير والتعليل، ثمّ التقييم، ثمّ الموقف..

ويلتقي مع نظريات علم الاجتماع الأخرى في طريقة البحث والتسليم بوجود قوانين عامّة تقف خلف الظواهر الاجتماعية، ولكن الاختلاف يقع في تفسير طبيعة هذه القوانين أو العلل والأسباب.. فقد يتفق مع الآخرين، وقد يختلف معهم في بعض المواقع..

إنّ المنهج الإسلامي يحلل المجتمع وفق فهمه ونظرته التي ينطلق منها لفهم الكون والإنسان والوجود.. فهو ينطلق من عقيدة الإيمان بالله والرسالات الإلهية.. وعلاقة الإنسان بالله سبحانه.. لذا فعلم الاجتماع الإسلامي يدرس بنية المجتمع على أساس علاقة الإنسان بالله وبالطبيعة وبأخيه الإنسان.. وما ينتج عن ذلك من علاقات اجتماعية..

وينطلق من أنّ العقل والرسالات الإلهية هي الأسس التي تنظم بناء المجتمع السليم وفق تكوين الإنسان النفسي والعقلي والبايولوجي، وقدرته على التفاعل مع الآخرين ومع الطبيعة، وأنّ تحليل المجتمع وتشخيص قوانينه الاجتماعية العامّة، وتقييم الوضع والسلوك الاجتماعي يقوم على أساس تطابق أنشطة الإنسان الاجتماعية مع مقاييس العقل وطبيعة علاقة الإنسان بخالق الوجود والرسالة الإلهية.. ذلك لأنّ خالق الوجود قد خلق الإنسان وفق تكوين جسدي وعقلي ونفسي.. ووضع الشريعة كمنهاج مناسب لتنظيم حياة هذا الكائن الاجتماعي.. كما خلق عالم المادة وجعل له القوانين والأنظمة الطبيعية التي تسيّر وجودها ضمن المنظومة المادّية المترابطة معها..

وإنّ مشكلة الإنسان في حياته الاجتماعية من وجهة نظر علم الاجتماع الإسلامي هي خروجه على قوانين التكوين والتشريع التي نظمها خالق الوجود والتي يشخص العقل والتجربة البشرية ذات الطبيعة العلمية المحضة الكثير من حقائقها.[2]

لقد استخدم القرآن المنهج التأريخي حين تحدث عن الشعوب والأُمم والحضارات، وسجّل عينات تأريخية من تلك الوقائع الماضية، وربط بينها وبين الحاضر المماثل، كما استخدم منهج الملاحظة عندما قام بتشخيص الواقع الاجتماعي المخاطب، ودعا إلى السير في الأرض والتأمل فيما يحيط بالإنسان.

(قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (الأنعام/ 11).

(وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ) (إبراهيم/ 45).

ولنأخذ مثلاً للاختلافات والتلاقي في دراسات علم الاجتماع حسب اتّجاه الباحث ونظريته..

لنأخذ مثالاً على ذلك الجريمة: كالانتحار والسرقة والقتل والاغتصاب الجنسي والبغاء والحِرابة: أي قطع الطرق ونشر الخوف والرعب والإرهاب.. فالباحث وفق المنهج الإسلامي وغيره عندما يريد دراسة هذه الظاهرات الاجتماعية يقوم بتتبعها وإحصائها، ويدرس أسبابها من خلال شخصيات الجُناة، ومعرفة ظروفهم الاجتماعية، كالفقر وفقدان الأمن والحرمان العاطفي، ونمط الثقافة ومستواها، والتكوين العضوي، كاختلال الغدد الصماء والتخلّف العقلي، أو الشعور بالنقص، والمحاكاة للآخرين والتأثر بهم.. إلخ.

ولكن لا يقف البحث عند هذا المشترك لدى الباحث المسلم بل سيفترق عن الآخرين.. إنّ الباحث الإسلامي يسلّم بأنّ لكلّ هذه الأسباب دورها في دفع المجرم نحو الجريمة.. ولكنها ليست أسباباً حتمية لديه.. لذا فهو يبحث في ما هو أبعد من ذلك ليكشف عن السبب الأساس في وقوع مثل هذه الجرائم، وهو في تحليله سينتهي إلى أنّ السبب الأساس، هو فقد الإيمان الصادق بالله، وبعالم الآخرة، والجزاء الأخروي..

فالذي يؤمن بالله حقّاً، ويخشى العقاب الأخروي، وإن توفرت بعض تلك الدواعي أو جميعها، فهو يتورّع عن ارتكاب مثل تلك الجرائم، كما يصوّر القرآن ذلك بقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) (الإسراء/ 57).

(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران/ 135).

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45).

وبذا يخرج بقانون إنّ غياب الإيمان الصادق يقود إلى الجريمة.. حتى وإن عولجت تلك الأسباب.. بل إنّ بعضها لا يمكن أن يعالج إلّا بالإيمان بالله وبعالم الآخرة، بشكل قانون حتمي، والفهم الإسلامي مع إيمانه بهذه الحقيقة لا يقلل من أهمية الأسباب البايولوجية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية.. إلخ في ارتكاب الجريمة، لذا يعمل على إزالتها، وتوفير الظروف والأوضاع التي تقطع الطريق على الجريمة..

وهو ما يعبّر عنه باللطف في مصطلح علماء الكلام.. ويعنون به كلّ ما يقرّب من الطاعة ويبعد عن المعصية.. إنّ الغرض من وجود الرسالات الإلهية والسلطة الشرعية (الإمامة) هو توفير ظروف وأجواء الطاعة لله تعالى (الاستقامة السلوكية) وإبعاد الإنسان عن المعصية (الانحراف السلوكي).. وذلك هو اللطف.

 

-          الغاية والسببية:

وكما وضح لدينا أنّ حركة المجتمع والتأريخ تسير وفق قوانين وسُنن وليس سيراً عشوائياً، ولا حركة فوضوية.. وذلك يعني وجود (غاية) لحركة المجتمع.. فحركة المجتمع تقوم على أساس (السببية والغائية)، وقد بحث علماء العقيدة الإسلامية هذه المسألة بحثاً مفصلاً، وأكّدوا أنّ أفعال الله تعالى (الطبيعية والاجتماعية) أفعال مغيّاة، أي لها غاية.. فلا يفعل الله شيئاً إلّا لحكمة وغاية تعود على الخلق..

ويؤكد القرآن ترابط السُّنن والقوانين المحركة للتأريخ والمجتمعات ترابطاً موضوعياً، غير أنّ هذا الترابط ليس منفصلاً عن إرادة الله تعالى.. فحركة التأريخ والمجتمع لا تحدث عن طريق مباشرة الغيب، بل من خلال سُنن وقوانين، شاء الله سبحانه أن تسير الموجودات الطبيعية والاجتماعية وفقها..

ويتحدّث المفكر الإسلامي الكبير الشهيد الصدر (رحمه الله) عن الغائية في العمل الاجتماعي، وعلاقته بالسببية فيقول: «فالعلاقة التي يتميز بها العمل التأريخي، العمل الذي تحكمه سُنن التأريخ هو أنّه عمل هادف، عمل يرتبط بعلة غائية، سواء أكانت هذه العلة صالحة أو طالحة، نظيفة أو غير نظيفة..»[3].

ويقول: «لكن ينبغي هنا أيضاً أنّه ليس كلّ عمل له غاية فهو عمل تأريخي، هو عمل تجري عليه سُنن التأريخ، بل يوجد بعد ثالث لابدّ أن يتوفر لهذا لعمل لكي يكون عملاً تأريخياً، أي عملاً تحكمه سُنن التأريخ».

البُعد الأوّل كان هو «السبب».

والبُعد الثاني كان هو «الغاية».

«لابدّ من بُعد ثالث لكي يكون هذا العمل داخلاً في نطاق سُنن التأريخ، هذا البُعد الثالث هو أن يكون لهذا العمل أرضية تتجاوز ذات العامل، أن تكون أرضية العمل هي عبارة عن المجتمع، العمل الذي يخلق موجاً، هذا الموج يتعدى الفاعل نفسه، يكون أرضيته الجماعة التي يكون هذا الفرد جزءاً منها..».[4] ►

 


الهوامش:

[1] - نجدي: الخير والشر، فهو قادر على أن يختار أحد النجدين.

[2] - في حين تشاهد علم الاجتماع الماركسي يفسر المجتمع والبيئة الاجتماعية بالعامل الاقتصادي، ويردّ الظواهر الاجتماعية بأسرها.. الأخلاق والأُسرة والجريمة والمؤسسات، بل الدين والدولة للعامل الاقتصادي.. في حين يتّجه علم الاجتماع البرجوازي والرأسمالي متأثراً بفلسفته الخاصّة ويقوم بتفسير الظواهر وفق نظرياته.

[3] - المدرسة القرآنية، السُّنن التأريخية في القرآن الكريم، ص91-92.

[4] - المصدر السابق.

ارسال التعليق

Top