◄إنّ أوَّل ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العصبية ذلك النموذج البغيض الذي عرفه الناس في الجاهلية. فقد كان للعصبية الجاهلية آثارها المؤذية في مظاهر الحياة العربية قبل الإسلام. فقد أغلقت عليهم عصبيتهم منافذ العقل والوعي فعاشوا في حدود القبيلة ومن وراء جدرانها لا يعرفون معنى الأُمّة، وينظرون إلى العالم حولهم من خلال كوة صغيرة يسمعون بأذن القبيلة ويفكرون بمنطقها فعاشوا متفرقين لا يجتمعون على هوى واحد، ومن ثمّ كان الشعور العدواني مصاحباً لهذا التفكك القبلي لم يسلم منه فرد ولا رهط ولا عشيرة ولا قبيلة حتى أكلت الحروب الأخضر واليابس من حياة القبائل المتنازعة. وهذا أمر طبيعي حين تكون العصبية البغيضة هي القانون المسيطر على الحياة، لأنّ هذا النوع من العصبيات يجعل صاحبه متبلد الحس جامداً في فكره ووعيه مستعبداً بنوازع العصبية فلا يقيم وزناً لأي معنى يمثل في حياة الناس قيمة. ثمّ جاء الإسلام فاتجهت عنايته إلى محاربة المعنى الجاهلي البغيض للعصبية كما أعلن الحرب على آثارها المدمرة ولكن الإسلام لم يتعامل مع العصبية على أنها آفة يجب القضاء عليها في كل الأحوال، بل تعامل معها على أنّها مظهر نفسي وإجتماعي إذا تهيأت له الأسباب كانت له آثاره الطيبة في حياة الفرد والجماعة ومن ثمّ تحول مفهومها في الإسلام إلى تنافس مثمر شريف يحرص عليه كل مسلم وفاءً لدينه وعقيدته لشعوره بأنّه لم يعد فرداً في قبيلة وإنما صار عضواً في أمة قال الله فيها: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 92)، وفي إطار هذا المعنى تخلصت العصبية من كل مفهوم بغيض بل تحولت من طاقة مدمرة إلى طاقة فعالة مثمرة.. حدث هذا تدريجيّاً بطبيعة الحال وفي أثناء ذلك كان الإسلام يأخذ بيد الناس أخذاً رفيقاً من هياج العصبية الجاهلية للنسب أو القبيلة إلى الانتماء المطلق لعقيدة التوحيد ومن ثمّ كانت عصبية الإنسان لعقيدته مقدمة على عصبيته لنسبه وعشيرته، بل كانت عقيدة المسلم موجهة لحركة حياته كلها سلماً وحرباً فنسبه وعشيرته في خدمة العقيدة.
كلُّ إنتماء يتم في إطار العقيدة موجهاً بها هو إنتماء شريف مطلوب كإنتماء الإنسان إلى أمته وإنتمائه إلى نسبه وعشيرته وإنتمائه إلى وطنه، ومادام الإنتماء بعيداً عن بواثه وآثاره الجاهلية فهو إنتماء كريم يجب الإعتزاز به ومن أجل هذا حذرنا الإسلام من أن نفرط في إنتماءاتنا فنهى أن يدعى الرجل إلى غير أبيه في النسب، كما حذر من التخاذل في حق الأُمّة والوطن ولهذا لم يطلب الإسلام من الذين إعتنقوه من أبناء الشعوب أن يتخلوا عن نسبتهم إلى الأوطان التي خرجوا منها ونشأوا في أحضانها. ولكن المشكلة التي يحاربها الإسلام هي أن تكون العصبية المحرك الأوّل لسلوك الإنسان في علاقاته وسائر معاملاته. فإذا رأيت من يؤثر الباطل على الحق الواضح تعصباً لقريب أو إنتصاراً لأنسابه وذوي أرحامه فاعلم أن فيه بقية من آثار العصبية الجاهلية البغيضة، وقد تجد فينا اليوم من يزين لك صورة الإنسان الخامل السلبي ويشوه صورة الإنسان المتفاعل الإيجابي بدافع العصبية، والأسوأ من هذا أن تكون العصبية معياراً للتفاضل بين المتقدمين لشغل وظيفة في أي موقع من مواقع العمل. فقد يترتب على هذا السلوك السلبي الغريب أن تحرم الهيئات من ذوي الكفاءات والمهارات ليشغل مكانهم ذوو الأرحام والقرابات ممن لا يجيدون عملاً ولا نتاجاً ولا يحسنون صنعاً. وأحياناً تدخل العصبية بأنيابها الحادة في قضية الزواج فتكره البنت على الزواج من إبن عمها أو إبن خالها أو خالتها وليس بينهما شابكة من فكر أو خلق أو سلوك، والحجة في كل الأحوال انّه أولى بها وأحق من الغريب وهي حجة العصبية التي لا ترمي عن حكمة (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) (البقرة/ 220).►
*أستاذ بجامعة الأزهر ووكيل كلية اللغة العربية الأسبق
المصدر: كتاب (القرآن وقضايا العصر)
ارسال التعليق