• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الفسحة بين الأفكار

الفسحة بين الأفكار
قصة غاندي أدخلتني امرأةٌ جميلة إلى غرفةٍ هادئة. وكانت نسائم كاليفورنيا الدافئة تدخل من النافذة المفتوحة، فتراقص الستائر وتداعب شعري. كان هنا كرسيٌّ واحدٌ في الغرفة، طلبت منّي الجلوس عليه، وهمست في أذني بضع كلمات. قالت لي: "إنّها المانترا، كلمات خاصّة بكِ ويجب أن تبقى سرّية، ردّديها في ذهنك". ثمّ خرجت وتركتني وحيدةً في الغرفة مع المانترا الخاصّة بي. طالما أحسست بميلٍ لملامسة القوى الغامضة وما اختبأ من أسرار الحياة وسحرها. وها إنّي، بمساعدة هذه السيّدة، سوف أكتشف القوّة الكامنة في داخلي. أغمضت عينيّ وأحسست بالنسائم تلامس وجهي. كانت رائحة البخور المشتعل تصلني، وقد نثرت أوراق الورد في أرض الغرفة حولي. إنّها المرّة الأولى التي أحاول فيها أن أفرض الصمت على أفكاري. في البدء، سخرت من نفسي قليلاً. ها إنّي، مثل كُثُر من نجوم هوليوود، أتبع التقليد الشائع في السبعينيات، وأحاول أن أركب قطار التأمّل المعرفيّ المتفوّق... هس! يجب أن أتوقف عن التفكير. ثمّ عدت إلى المانترا. قالت لي إنّ الأفكار سوف تجول في عقلي، فيجب أن أدعها تذهب من دون أن أعيرها اهتماماً، وأعود إلى المانترا. لم يكن أمراً سهلاً! إنّني أردّد المانترا. ومع ترديدها المستمرّ أحسّ بأن جسدي يسترخي وأنفاسي تهدأ، وقلبي يدقّ بتؤدة فينخفض ضغط الدّم في شراييني. تعود الأفكار إلى عقلي المنشغل: يجب أن أقوم ببعض الاتصالات، وأذهب إلى بعض الأماكن. كنت أترك هذه الأفكار وشأنها، ومحاولةً في كلّ مرّة المتابعة في ترديد المانترا لفترةٍ أطول من دون تقطّع. وفيما كنت أسمع في داخلي تلك كلمات التي كنت أردّدها، وأحسّ بموسيقاها، بدأ يجتاحني شعورٌ مبهم. أحسست بأنّي أغوص في أعماقي، وألتقي ذلك الشيء الذي أعرفه كمعرفتي بصديقٍ قديم، ذلك المكان العميق في داخلي، الثابت والدائم والسعيد والحيّ والخلاّق. إنّه ذلك الجزء العميق منّي الذي يحوي المعرفة... يا له من اتصالٍ رائع! أفعمَنَي فرحاً... أكاد أن أقهقه ضاحكةً. تابعت ترديد المانترا ولم أسمح للأفكار بأن تعكّر عليّ ما أنا بصدده، فتركتها تأتي وتذهب، وأحسست بالهدوء يكبر في نفسي ويملؤها. شعرت بنفسي مثل كيسٍ من الشاي يغطّس في كوبٍ من الماء الساخن ثم يُخرج منه. شعرت بنفسي تمتص ذلك اللاشيء وتكبر فيه. عندما أقول لا شيء، أعني فسحةً من الزمن خاليةً من أيّ تفكير. وفي كلّ مرّة أردّد المانترا، يشتدّ ذلك الشعور ويقوى. وكأنّ كيس الشاي يزداد وزناً ويغوص إلى أعماقٍ أكبر، فتسري خواصّه الطيّبه في الماء وتنتشر. وبعد فترة من الزمن أجهل طولها، يضيع منّي الإحساس بالمكان. أشعر بالخير يعمّ حياتي. وأحسّ باندماجٍ مع ذلك الشيء المألوف جدّاً، الآمن، والذي يلامس محور سعادتي. يملأ نفسي إحساسٌ نقيّ، وضوح لم أشعر به من قبل. ليس هناك من ذاتيّة ولا أنانية، ولا أفكار. أنا موجودة فحسب. لا شيء يهمّ، فإنّني أعود إلى أنقى حالات الوجود، أشعر بسعادة خالية من الدّنس.   - فسحة من الفراغ قد تملأ حياتك! ليس مستغرباً بالنسبة إليّ أن يكون عمق غولدي الرّوحي هو مصدر سعادتها المستمرّة. فمن موقعي كمدرّبة على التأمّل، سبق لي أن لاحظت نتائجه الطيّبة على سعادة العديد من الناس. انتشر علم التأمّل المرتكز على التقاليد الرّوحية الشرقيّة في الغرب خلال السبعينيات من القرن العشرين، لكنّه في الحقيقة يشكّل جزءاً من التقاليد اليهودية – المسيحية ومن طقوس سكّان أميركا الأصليّين منذ آلاف السنين. إنّ اعتماد الفرد النظرَ إلى داخله من أجل الاتصال بالرّوح هو أمرٌ معروفٌ في العالم كلّه، منذ أقدم العصور. يأخذ التأمّل أشكالاً عديدة: التركيز على "المانترا" أو على التنفّس، على صورةٍ من المخيّلة، أو على صوتٍ معيّن. الهدف هو اتّباع الطريقة التي تهّدئ تفكيرك وتساعدك على الاتصال بمنابعك وجوهرك الأعمق، فتلامس حالة الحب والحقيقة والنقاء.   تُعجبني هذه القصّة عن التأمّل: حدّث المعلّم الحكيم تلامذته عن كيفيّة عمل التأمّل: "إنّه يشبه عمليّة ملء المصفاة بالماء". اختلط الأمر على التلامذة وظنّوا أنّ المثل هو إشارة من المعلم إلى صعوبة الأمر، أو إلى عدم دوام تأثيره الحسن لوقتٍ طويل. فتوقّف معظمهم عن التأمّل، ثمّ تقدّم أحدهم منه وسأله مزيداً من الشرح. طلب المعلّم إلى هذا الأخير مرافقته إلى شاطئ البحر. فذهبا، وقال المعلّم: "إملأ المصفاة ماءً". حاول التلميذ فلم يفلح. عندئذٍ، أخذ المعلّم المصفاة وطرحها في الماء فهبطت إلى القعر. ثمّ قال: "المصفاة هي ملأى بالماء الآن، وستبقى هكذا إلى الأبد. والتأمل يعمل بالطريقة نفسها. إنه ليس عمليّة تعبئة وعاءٍ من محيط الرّوح وسكبه في حياتك، بل هو غطسٌ في أعماق الرّوح والامتلاء منها والاندماج بها إلى الأبد".   المصدر: كتاب السعادة من دون عناء

ارسال التعليق

Top