وبعد ذلك، يطرح السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بعد أدائنا لأيّة عبادة، وهذا ما ينبغي أن نسأله الآن، ولم يبق سوى القلیل على انقضاء هذا الشهر: ماذا بقي لنا من شهر رمضان؟ أيّ تغيير أو أثر تركه في حياتنا، أو لنقل: أيّ إرث سيتركه فينا بعد أن يغادرنا؟ وهذا السّؤال هو الذي ينبغي أن نطرحه بعد كلّ عبادة، فلا قيمة لأية عبادة إن لم تترك أثراً.
إنّ إرثنا من شهر رمضان، ينبغي أن يكون بأن نحافظ على مكتسباته، وعلى أجوائه الروحية والعبادية والقيم التي زرعها فينا، أن لا نقطع تواصلنا مع القرآن الذي حرصنا في هذا الشهر على أن نختمه مرّات عديدة، أن لا نهجره ولا نلقيه، بل أن نستمرّ، وكما كنا في شهر رمضان، في تلاوته وحفظه وفهمه وتدارسه، وإن لم يكن بالقدر ذاته.
وميراث آخر من شهر رمضان، في أن نحافظ على الأجواء الروحية والإيمانية التي حرصنا عليها في هذا الشهر، بأن نذكر الله في السرّ والعلن، وفي آناء الليل وأطراف النّهار، وفي الدُّعاء وأداء الصّلوات بأوقاتها، والاهتمام بصلاة الليل وأداء النّوافل.
ميراث شهر رمضان، بأن نستمرّ ببسط أيدينا بالعطاء والصّدقات لعباد الله، أن نبحث عنهم، فلا ننتظر أن يأتوا إلينا ليبذلوا ماء وجوههم حتى نغدق عليهم من عطائنا، فمن صام، لابدّ من أن يتعالى عن أنانيّته، ويخرج من شرنقة ذاته، ليصبح عبداً باراً، ولا يوجد برّ بلا تواصل وبلا تراحم.
ويبقى من ميراث شهر رمضان، أن نصوم بعده، لكن ليس الصيام عن الطعام والشراب، بل عن كلّ حرام وقبيح من القول والفعل، وكلّ خلق سيّئ. فبعد شهر رمضان، نعود إلى الطعام والشراب، ليبدأ هذا النّوع من الصيام، وأن نتابع تواصلنا مع أرحامنا ومع جيراننا.
هل كُتِبنا من الصائمين؟!
إذاً، لابدّ من أن نتابع ما بدأناه في هذا الشهر في بقية الشهور، فشهر رمضان لم يرده الله سبحانه أن يكون مجرّد شهر من الشهور، بل هو سيِّد الشهور، وسيِّد الأيام واللّيالي، ولابدّ من أن تنعكس قيمه على بقيّة الشهور والأيام.
وبعد ذلك، أن ندرس مدى انسجامنا مع الهدف الذي من أجله كان رمضان، فشهر رمضان هو شهر التغيير، هو شهر إعادة صياغة شخصيّتنا على الصورة التي يريدها الله سبحانه.
لقد كان القرآن واضحاً في دلالته، عندما بيّن الصورة التي لابدّ من أن نتّصف بها حتى نكتب عند الله من الصائمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). أمّا كيف يعرف الإنسان نفسه؛ هل بلغ درجة التقوى أم لا؟ فهو يتحقّق بطريقتين:
الطريقة الأولى، هي بأن يعرض نفسه على الآيات والأحاديث التي تحدّثت عن المتّقين وبيّنت صفاتهم، للتأكّد من اشتماله على هذه الصّفات. من هذه الآيات الكريمة: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (الذاريات/ 15-19).
ومن الأحاديث الشريفة التي تتحدّث عن صفات المتّقين: «لا يكون العبد مؤمناً، حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشّريك شريكه»، «لا يَكُونُ الرَّجُلُ تَقِيّاً، حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ مُحَاسَبَةَ شَرِيكِهِ، وَحَتَّى يَعْلَمَ مِنْ أَيْنَ مَلْبَسُهُ، وَمَطْعَمُهُ، وَمَشْرَبُهُ». ومن الحديث: «أنّ أهل التّقوى أيسر أهل الدّنيا مؤونةً، وأكثرهم لك معونةً، تذكر فيعينونك، وإن نسيت ذكروك، قوَّالون بأمر الله، قوَّامون على أمر الله، قطعوا محبّتهم بمحبّة ربهم، ووحشوا الدّنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله عزَّ وجلَّ وإلى محبّته بقلوبهم، وعلموا أنّ ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه».
والطريقة الأخرى لتأكيد آثار شهر رمضان في نفوسنا، هي قياس مدى قربنا أو بعدنا عن الصّفة التي تقابل التقوى، أي الفجور، وقد ورد: «فإنَّ الناس اثنان: برٌّ تقيّ، وآخر فاجر شقيّ».
وصفة الفاجر تصدق على من لا يستحي أن يراه الله وهو يعصيه، هو لا يبالي بذلك. والصوم هدفه أن يعزّز فينا الإحساس برقابة الله في كلّ مكان وزمان، وفي السرّ والعلن.
حتى لا تضيع مكتسبات الشهر!
ثم، وبعد أن نحرص على بلوغ الإنجازات، لابدّ من أن نتوقّى أن نضيّع ما كسبناه في هذا الشهر، ونُحرم مما عشناه من حالات التقوى، بغيبة هنا، أو بكذب هناك، أو بظلم إنسان، أو بأكل باطل، أو بإساءة إلى عرض، أو غير ذلك مما يوسوس به الشّيطان أو أنفسنا الأمّارة بالسّوء، أو عصبياتنا أو انفعالاتنا، بحيث يعود الإنسان مفلساً، كالذين تحدّث عنهم الحديث الوارد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين قال: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟»، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، ويكون حاله في ذلك كالتي تحدّث الله سبحانه عنها، أنّها كانت تغزل غزلها وتبقى في ذلك إلى الصباح، وبعد أن يصير كاملاً ويستفاد منه، تعود فتنفضه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً) (النحل/ 92). والكثيرون قد يكونون كذلك، يضيّعون ما كسبوه سريعاً، وهذا هو الخسران المبين.
ويبقى علينا، وفي هذه الأوقات القليلة من هذا الشهر، أن نستدرك تقصيرنا فيه، وأن نطمئنّ إلى أنّ أعمالنا بلغت موقعها عند الله، وأنّه قد قبل عملنا، أن نتوجّه إلى الله لنقول له:
«اللّـهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصيرَنا فيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً، وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ الْمَرْحُومينَ وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْمحْرُومينَ».
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين الذين يستحقّون التهنئة، ولسنا من المحرومين الذين يستحقّون التعزية، كما كان الإمام عليّ (عليه السلام) يخرج في آخر شهر رمضان ليقول: «يا ليت شعري، من هذا المقبول فنهنّيه، ومن هذا المحروم فنعزّيه».مقالات ذات صلة
ارسال التعليق