• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

رسالة الشهر المبارك

رسالة الشهر المبارك
◄شهر رمضان المبارك يطل علينا بالبركة والخير في كلّ عام، ليحمل إلينا الكثير من العبادات الروحانية، والمناسبات التي عاشها المسلمون، بنزول القرآن الكريم، وانتصاراتهم المجيدة في غزوة بدر وغزوة الخندق، وفتح مكة، وليحيا المسلمون فيه حياة تربوية طيبة.

فشهر رمضان ليس مجرد شهر فرض الله صيامه على المسلمين، ليكون فترة الترهل والخمول، فيعذبوا أنفسهم بالكسل والحرمان نهاراً، وينتقموا لبطونهم وغرائزهم ليلاً، فيرفهوا عنها بالإسراف في التسلية والسهر، والطعام والشراب حتى مطلع الفجر، منصرفين عن فقه رمضان، وأهدافه السامية الرشيدة.

وانّما الصوم فرصة صحية تسبب تنشيط القوى الفكرية، وإرهاف الذكاء من الكسل والخمول، وتريح جميع الأنسجة والخلايا والغدد من الانهماك في العمل المتواصل، الذي يؤدي إلى الضعف والاحتقان، كما يستعمل علاجاً لكثير من الأمراض الناجمة عن التخمة والبدانة.

وبعد ذلك فشهر رمضان شهر التربية والنضوج، ولئن كان لكلّ واحد من العبادات رسالة معينة، فلشهر الصيام رسالة خاصة، وهي تربية النفس والإرادة والضمير، ورسالة جامعة هي أنها موسم لجميع العبادات، ومجال خصب للنشاط الروحي، والاعتكاف والاستجمام والتفكير والتدبير في آيات الله، وتلاوة القرآن المجيد، الذي هو جزء من كيان المسلم، ورصيده الزاخر، الذي يمده بالغذاء المناسب كلما ألح بالجوع.

وللصيام رسالة جامعة أيضاً، تطهير الروح والأخلاق وتزكية الاقتصاد والاجتماع.

فالإنسان عندما يتمرد على منهاج التغذية الجسمية الرتيب، ويصوم بطنه وقلبه وجوارحه، ويقضي أياماً متواليات، دون أن يستجيب لرغبات البطن أو الغريزة، يتخلص من الصراع الدائب بين شهوات الجسم ونوازع الروح، وتتاح له فرصة السمو والارتفاع فتسمو نفسه، وتتأهب لتلقي الفضائل والكمالات، ليشعر بتضائل القوى المادية، التي اندحرت أمام إرادة واحدة من أوامر الله.

كما أنّ في الصيام تربية الإرادة وترويض النفس على الهدوء والاتزان، والحصانة من القلق والتخاذل، وتحريرها من عبودية النزوات. فالفرد الذي يقدر على تطوير برامج حياته، وتأجيل وجبات الطعام إلى غير أحيانه المقررة، ثمّ يشعر بثورة الجوع تهصر أمعائه، ويبقى مصراً على إضرابه حتى عن حبة الطعام وقطرة الماء ما بين طلوع الفجر حتى المغرب ثلاثين يوماً يتمتع بعدد من الإرادة القاهرة، التي تسبغ عليه البطولة مع نفسه ومع الحياة، فلا يخشع ولا يستكين.

والصوم يفرغ على الإنسان طاقة الاحتمال والثبات، ويطور إيمانه الفكري المجرد، إلى الإيمان الواقعي الذي يتحول إلى عادة وركيزة معرقة في حنايا النفس، فتزكو من الرواسب الدخيلة، وتتأهب للتقوى والقبول.

وفي الصوم ترويض للبطن، الذي أصبح العقل العملي على الأرض وشعاراً للمساواة العادلة، التي تعزل الأموال، ليجمع الفقراء وأصحاب الملايين شعور واحد وحس مشترك، تحت إرادة الله معلناً: أنّ الحياة الفاضلة لا تكون على أتمها، إلا حينما يتساوى الناس في الجوع والشبع لا حينما يتفاضلون بالأموال. وعندما يشعر الغني بقسوة الجوع تمزق في أحشائه، ويتذوق ألم الحرمان يحز في أعماقه، تنبعث في نفسه الرحمة، وتوحي بعاطفة الكرم، فيكثر التواصل والإيثار، وتحد كبرياء الغني، وتطمئن فورة الفقير، ويتعايش الناس رحماء متفاهمين.

وقد ألفت الرسول الأكرم (ص) إلى فلسفة الصيام، ورسالة رمضان، حتى يكون صيامهم عملاً يعبر عن وعي وعقيدة، لا جوعاً وعطشاً فارغين، وذلك بخطبته القاصعة، التي رواها أمير المؤمنين (ع) فقال: إنّ رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم فقال:

"يا أيها الناس انّه قد أقبل إليكم شهر الله، بالبركة والرحمة والمغفرة، شهر هو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيّام، ولياليه أفضل الليالي، وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله، وجعلتم من أهل الكرامة، أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب، فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة، وقلوب طاهرة: أن يوفقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، فإنّ الشقي مَن حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقروا كباركم، وارحموا صغاركم، وصلوا أرحامكم، واحفظوا ألسنتكم، وغضوا عما لا يحصل النظر إليه أبصاركم، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم، وتحننوا على أيتام الناس يتحنن على أيتامكم، وتوبوا إلى الله من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل الساعات، ينظر الله فيها إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه. أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم، ففكوها باستغفاركم، وظهوركم ثقيلة من أوزاركم، فخففوا عنها بطول سجودكم، واعلموا: أنّ الله أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين، وأن لا يروعهم بالنار، يوم يقوم الناس لرب العالمين، أيّها الناس من فطر منكم صائماً مؤمناً في هذا الشهر، كان له بذلك عند الله عتق نسمة، ومغفرة لما مضى من ذنوبه".

فقيل: يا رسول الله! فليس كلنا نقدر على ذلك! فقال (ص):

"أيها الناس: مَن أحسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الأقدام، ومَن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عليه حسابه، ومَن كف فيه شره كف الله عنه غضبه يوم يلقاه. ومَن أكرم فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه، ومَن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومَن قطع رحمه، قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه، ومَن تطوع فيه بصلاة كتب الله له براءة من النار، ومَن أدّى فيه فرضاً كان له ثواب مَن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور، ومَن أكثر فيه من الصلاة عليّ ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين، ومَن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر مَن ختم القرآن في غيره من الشهور. أيها الناس انّ أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة، فاسألوا ربكم أن لا يغلقها عليكم، وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم أن لا يفتحها عليكم، والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم أن لا يسلطها عليكم".

قال أمير المؤمنين (ع) فقمت فقلت: يا رسول الله: ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال يا أبا الحسن:

"أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله".►

ارسال التعليق

Top