• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

علم اسمه «فن الأبوة»

علم اسمه «فن الأبوة»

من المعروف أن الرجل فور أن يتزوج وتنجب زوجته فإنّه يتحول إلى أب. ولكن هل هو مهيأ - من الناحية النفسية والاجتماعية والتربوية - لأن يقوم بدور الأب على خير وجه؟ وهل الأبوة تكتسب بالفطرة؟ أم أنها فن يحتاج إلى معرفة؟

 بداية المشكلة: جمعني لقاء مع بعض من أصدقاء الطفولة والدراسة، وقد ذكر أكثر من شخص منهم -وبطريقة عرضية- أنه يعاني من مشكلة أو أكثر في تربية أولاده، وقد تركزت هذه الشكاوى أو المشكلات في النقاط الآتية:

- رغم توافر كل الإمكانات إلا أن «الأولاد» لا يحققون نفس ما كنا نحققه من تقدم في الدراسة «رغم قلة إمكانيات أسرتنا حينذاك»؟ 

- أعطي أبني مصروفاً يومياً ثم اكتشف أنه يعطيه لبعض زملائه في المدرسة اتقاء لشرهم.

- اكتشفت فجأة أن أبني -الذي التحق حديثاً بالصف الأول الإعدادي- يدخن، بل وحين استفسرت منه اعترف لي أنه قد جرب- مع بعض أصدقائه- البانجو، وبعض الحبوب المنومة والمهلوسة.

وبعد أن أفاضوا واستفاضوا في ذكرياتهم وتشخيصهم اعترفوا بأنهم فاشلون في تربية أبنائهم، أما أسباب ذلك الفشل فقد أرجعته المناقشات إلى مجموعة من العوامل مثل:

- هدفي كأب أن أوفر لأولادي المال، (وهذا هو الأساس وما عداه يعد شأناً فرعياً).

- أترك مسألة التربية والتعليم إلى الأم والمدرسة.

- لا أحاول أن أرفض لأبنائي «أي طلب».

 أما ردود الأفعال حيال اكتشاف الآباء لتصرف خاطئ لأولادهم فقد تراوح ما بين العنف (أو الإساءة للطفل أو المراهق) والعنف أيضاً للأم - أو أي شخص من الأسرة. حين تحاول - أو يحاول التدخل ما بين الأب والابن، وأحياناً تتراوح ردود الأفعال ما بين التجاهل للمشكلة أو رد فعل مبالغ فيه.

الآباء والتربية

حتمت مجموعة من الظروف والعوامل ضرورة التصدي لمشكلة دور الآباء في التربية وخاصة أن هذه القضية قد ظهرت في الغرب من خلال الإجابة عن هذه التساؤلات:

 - هل جميع الآباء يتقنون فن علم الأبوة؟

- هل جميع الآباء قادرون على تربية وتنشئة أولادهم بالصورة الصحية السوية؟

- وهل نحن كآباء نرى أطفالنا على نسق الصورة التي رُبينا عليها (من قبل آبائنا) أم نقوم بتربيتهم وفق النموذج «المثالي» الذي كنا نريده إبان طفولتنا ولم يقدمه لنا الآباء كمشروع طُرح حينذاك؟

واقع الأمر أن الحاجة إلى «علم فن الأبوة»

قد ظهر بداية في الولايات المتحدة الأمريكية عام  1800م نتيجة للعديد من الحالات التي أساء الآباء فيها إلى الأطفال (إلى درجة موت بعضهم، أو تشويههم أو إصابتهم بعجز أو عاهة مستديمة) مما أدى إلى طرح قضية دور الأب، وهل دوره يقتصر على منح أطفاله الاسم، وتوفير المسكن والطعام فقط؟ أم أن دوره أهم وأكبر من ذلك بكثير؟

وهنا اقترح مجموعة من الأشخاص تنظيم محاضرات ومناقشات (أشبه بجلسات العلاج النفسي أو الإرشاد النفسي)، وقد بدأت هذه المحاضرات بالأشخاص المقبلين على الزواج، ثم اتسعت الدائرة لتشمل الأشخاص الذين تزوجوا حديثاً وليس لديهم أطفال، ثم اتسعت الدائرة لتشمل الآباء الذين يعانون في الواقع الفعلي من مشكلات حياتية مع أولادهم، وقد ركزت المناقشات في البداية على ضرورة تفعيل دور الدين وإقامة الصلاة على أساس أن الجانب الديني والخلقي له أعظم الأثر الإيجابي في نفسية الشخص ويقود إلى تحسن في العلاقة بين الزوجين مما ينعكس بدوره في علاقاتهم مع أولادهم.

أدوار أخرى لهذه الجمعيات

ولم تكتف هذه الجمعيات بالمناقشات بل ظهرت بعض المطبوعات التي واكبت فكرة الاستفادة القصوى من مثل هذه الخدمة التثقيفية والتعليمية والتي تزيد من وعي واستبصار الآباء بدورهم التربوي والنفسي والاجتماعي والأمني لأولادهم، فظهرت العديد من المجلات مثل: مجلة الآباء عام 1850م، ومجلة الأمهات عام ١٨٤١م، وغيرها، ثم واكب ذلك خطوة عملية تمثلت في إنشاء دور الحضانة ورياض الأطفال التي كانت النواة الحقيقية لتقديم خدمات فعلية وتحويل الأطر النظرية إلى أطر عملية تفيد بطريق مباشر في كيفية التعامل النفسي (الصحي والنفسي) مع الطفل للعمل على رفع مستواه النفسي والفكري والاجتماعي.

على أن تعليم الآباء لم يظهر بشكل منظم وضرورة حتمية لوجود فكرة خلاصتها: إن دور الأم مهم جداً في مراحل الطفولة الأولى، إلا أن العديد من الملاحظات قد أثبتت خطأ هذه الفكرة، وأن مجرد «وجود الأب في حيز شعور الطفل» يعمل على استمرار اتزانه النفسي، بل ويمهد بطريقة سوية. لجعل هذا الأب. قدوة للطفل في قابل أيامه (خاصة إذا كان من نفس نوع جنس الأب)، ولذا فقد تم تشكيل «المؤتمر الوطني العام للآباء والمعلمين»

في ولاية شيكاغو بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٩٧م الذي جاء تلبية للإجابة عن عديد من التساؤلات أهمها: ضرورة العمل على تدريب الآباء على كيفية التعامل مع الأبناء، وكذلك تدريب المعلمين، بل وخلق حالة من الوعي بمطالب واحتياجات الأبناء في كل مرحلة من مراحل نموهم، وكيف نتعامل مع مشكلات أولادنا -سواء كنا آباء أو معلمين- بطريقة عقلانية بعيدة عن الانفعالات، والأهم كيف نشكل أولويات أو آليات «تعمل على استمرار التفاهم وحل خلافات الآباء بعيداً عن حيز الأطفال، وأخيراً كيف يبدو الأب والمعلم قدوة أمام الطفل في سلوكه وتصرفاته.

وقد بدأت الحكومة الفيدرالية بين عامي ۱۹۰۰ – ۱۹۲۰م في مساعدة مشروع «تعليم الآباء»، فأصدر الكونجرس الأمريكي قراراً بإنشاء «مكتب الأطفال العام» الذي أخذ على عاتقه مهمة تحقيق أو تفعيل أمرين:

الأول: تنظيم المشروعات والخدمات التي تقدم للآباء والتي تهدف في النهاية إلى خلق وعي صحي ونفسي في تربية الأبناء.

الثاني: لكي يتم تفعيل الهدف السابق لابد من إصدار العديد من النشرات والكتيبات التي تهدف إلى تقديم نموذج «سوي» في التعامل مع مشكلات وأزمات الأبناء.

وفي عام ١٩١٧م توالت القوانين المنظمة لهذه العملية التعليمية المقصودة، ومع ازدياد الوعي بقضية «علم فن الأبوة وضرورة إتقان هذا العلم» تم التوسع في إنشاء العديد من الجمعيات والمؤسسات لنشر خدمة جديدة تمثلت في " مشروع حلقات للتدريب على اقتصادات المنازل"، أي كيف تدبر الأسرة احتياجاتها المختلفة وفقاً لطبيعة الدخل حتى تتجنب الأسرة الحاجة إلى اللجوء إلى الاستدانة، أو أخذ أجهزة وأشياء أخرى بالتقسيط ... الخ.

وحين أثمر هذا الهدف غايته، تم تشكيل آلية جديدة لمشروع جديد تمثل في "مشروع حلقات للتدريب على التغذية" من حيث: السعرات الحرارية والفيتامينات، والغذاء كعلاج وكوقاية من العديد من الأمراض، ولاشك أن هذا البعد التثقيفي مهم جداً لأن «سوء التغذية» أو «الإفراط في التغذية» يقود، كما نعلم. إلى العديد من الأمراض والاضطرابات.

وفي عام 1918م أخذت وزارة الصحة على عاتقها مهمة تدريب الأب على قضايا الرعاية الصحية للأسرة والأبناء من خلال فهم الأب لأنواع الأدوية التي يجب أن تشملها «صيدلية المنزل»، وكيف يقنع «ابنه» بأخذ الدواء، بل كيف يتنبأ بإمكان إصابة طفله بمرض معين من خلال ملاحظته -هو أو الأم- لوجود بعض الأعراض أو التغيرات في جسد الطفل.

ولم تكن الجامعات والمؤسسات العلمية بعيدة عما يحدث إذ أدلت بدلوها في الموضوع، وتم تشكيل العديد من اللجان هدفها وضع البرامج الخاصة بتعليم الآباء من خلال معلومات موثقة،

 بل والعمل على أن يتبني الآباء -حتى قبل أن يتزوجوا ويصبحوا بدورهم آباء-

 ضرورة إجراء «الفحوص» قبل الزواج «له ولمن يريد الاقتران بها» وغيرها من القضايا الحياتية التي سيواجهها حتماً بعد الزواج والإنجاب ومواجهته للعديد من القضايا والمشكلات التي سيواجهها حتماً من خلال تعامله مع الأبناء.

وما بين عامي ١٩٢٠و ۱۹۳۰م قامت الهيئات الأهلية والجمعيات والجامعات وإدارات التعليم بالمساهمة في هذا الميدان فظهرت عيادات الأطفال الإرشادية، وعيادات الزواج ومشكلاته ولا شك أن علاج مثل هذه "المشكلات - الأزمات" قد أدى إلى تلاشي العديد من الاضطرابات لدى الآباء والتي انعكست بدورها إيجابياً في خلق حالة من «الصحة والسواء» لدى الأبناء.

وكلنا يذكر المثل القائل: «أسوا الناس حالاً من لا يثق بأحد لسوء ظنه، ولا يثق به أحد لسوء فعله».

»واستمرت التطورات في برامج تثقيف وتدريب الآباء على "علم فن الأبوة" حتى تم تشكيل «اللجنة الوطنية لتعليم الآباء» والتي أصبحت جزءا أساسياً من "اللجنة الوطنية للعلاقات الأسرية" والتي تهتم بكل أفراد وكيانات الأسرة.

علم فن الأبوة ومسئولية الأب

على الرغم من أن العديد من الدراسات الخاصة بعلم النفس قد أشارت إلى عدم وجود غريزة تسمى "غريزة الأبوة" لدى الرجل (عكس الحال في الاعتراف بغريزة الأمومة) إلا أن علاقة الأب مع ابنه تحمل بعداً ثقافياً ودينياً وأخلاقياً، وأن دور الأب يتعاظم مع حدوث العديد من المتغيرات على مستوى العالم وإزاحة دور العمات والجدات والخالات والأقارب الذين كانوا يلعبون الدور الأكبر في تربية الطفل، وأن دور الأم  في القديم وفي الأسر الممتدة كان يقتصر فقط على الرضاعة، لكن للعديد من الظروف أصبح الزوجان فقط يعيشان تحت سقف (منزل مغلق عليهما) مما يحتم قيام الأب بدور أكبر في مساعدة الأم في عملية التنشئة للطفل ووجوده في حيز شعور الطفل، وهذا هو الوضع الطبيعي لأي أسرة «أب – أم – طفل أو أطفال».

مسئوليات الأب:

1- العمل على أن يشعر الصغير بحبه له وعنايته به منذ وقت مبكر في حياته

2- أن يهيئ نفسه «لدور الأب» من خلال اشتراكه مع الأم -كلما سنحت الظروف- في إعداد غذاء الصغير والعناية بحاجاته اليومية.

۳- تخصيص وقت معلوم يومياً يقضيه مع أبنائه حتى يشعرهم بأنه على اتصال دائم معهم، وذلك بعد أن ثبت أن استمرار العناية والتواصل من الأمور المهمة جداً الباعثة على استقرار الصغار وأمنهم النفسي.

4- العمل على أن يكون المناخ السائد في الأسرة يسوده الوفاق، الهدوء، التسامح، شرح أي «سلوکیات» يقوم بها... ألخ.

 5- العمل -بقدر الإمكان- على أن يتفق الرجل مع زوجته على طريقة في معاملتهما لأبنائهما، لأنه ليس أخطر على تنشئة الصغار من اختلاف الأبوين في طريقة المعاملة، وأن يكون ذلك معروضاً على شاشة أو مسرح الطفل.

6-أن يكون الأب قدوة لأولاده في أقواله وأفعاله، وأن يضع في اعتباره أن هذا الابن -رغم صغر سنه- إلا أنه "يخزن ويحتفظ في ذاكرته بكل تفاصيل سلوكيات وأقوال والده، وسوف يأتي اليوم القريب (في المراهقة غالباً) الذي سوف يواجه والده بما كان يفعله من تناقضات في سابق أيامه".

وأخيراً..

للدلالة على دور وأهمية الأب في أي طفـل نتذكر ما كتبه الأديب المسرحي الإنجليزي الكبير "صمويل بيكت" مخاطباً أباه قائلاً:

"إذا لم تحبني فلن يحبني أحد في الدنيا بأسرها، وإذا لم أحبك فلن أحب أحداً أبداً"، كما أن هناك قصة روسية تحكي عن طفل مات والده ويعيش مع أمه ويؤرقه هذا السؤال القاسي: لماذا لا يكون لي أب مثل الأطفال أنتظره وينهاني وأشعر معه بالأمان؟

وفي يوم اشتد الحنين به إلى ذلك (الأب) الحاضر الغائب في حياته، وفي يوم كان يتنزه بمفرده فلمح في أحد المحال «مانيكان» على هيئة رجل يعرض بذلة للرجال، فدخل بكل شوق إلى المحل وسأل البائع هذا السؤال «القاسي والمعبر عن احتياجاته ورغباته»، كم يتكلف شراء هذا الرجل المعروض في واجهة المحل؟! أليس كل ما سبق يؤكد لنا على ضرورة تثقيف الشباب قبل زواجهم؟

أليس كل ما سبق يؤكد ضرورة الإلمام بالقدر اللازم من المعلومات للقيام «بدور الأب» خير قيام؟

وألا يؤكد ذلك ضرورة "تأسيس علم فن الأبوة" وأن يقدم «معلومات وبيانات وقضايا واستشكالات» هذا العلم من خلال دورات تقوم بها العديد من مؤسسات وهيئات ووسائل إعلام في تثقيف المجتمع؟

إن التربية الحقة هي التي تبعد عن العشوائية، وأن تكون مقصودة، وعلمية، وموضوعية، ولن يتم ذلك إلا باستخدام نتائج العلوم الإنسانية (المختلفة) لأنّ العلم معرفة وفض لغموض الأشياء.

ارسال التعليق

Top