بعد أن اهتم العجوز بأرضه الخصبة، لبّى نداء ربّه ليودّع هذه الحياة الفانية وزينتها، لم يمتلك من الدُّنيا سوى وَلدين، لذلك قسما بينهما الأرض إلى نصفين وبدءا يتبعان مسيرة ذلك العجوز الذي تعب وكدّ، لكي يأكل من المال الحلال، ولكن كان هذا ظاهر الأمر فقط...
كانا يبدءان زراعة بذور القمح والشعير ابتداءً من شهر نوفمبر ويهتما بالزرع إلى أن يحصدا زرعهما، ولكن كان هناك أمراً يثير الدهشة، حيث أنّ الأرض كانت نفس الأرض من حيث الكيفية والمناخ الملائم، وكان الاثنان يبدءان العمل معاً وينتظران المحصول معاً، أمّا في وقت الحصاد فكان يحصل أحدهما على قمح كثير ويظل الآخر يترقب فساد قمحه، ويحزن لما حدث له، وهكذا الحال يبقى على ما هو عليه في السنوات المتتالية.
بعد ذلك طلب صاحب الأرض التي كانت تخسر محصولها على الدوام وليس له نصيب منها سوى الدمار من أخيه صاحب الأرض المثمرة، أن يبدلا أرضيهما كي يحصل هو الآخر على نصيبه من الدنيا، فقد تعب من هذا الدمار، ووافق الأخ صاحب الأرض المنتجة، وتبادلا أرضيهما، ولكن رغم ذلك لم يتغير أي شيء، فمرّة أُخرى كان حصيلة الأخ المحظوظ ككلّ عام مضى، وبقي نصيب الأخ الآخر مع كلّ التغييرات لا شيء سوى آهات تفلت من أعماق صدره.
وعند بدء الزرع في السنة القادمة كان الأخ الخسران واقفاً جنب أخيه ويترقب خطواته، ولكن لم يلاحظ أي فعل خارق أو خارج عن المعتاد، بل كان يفعل كما يفعل هو بالضبط ويزرع كما يزرع هو ويتبع نفس الخطوات، ظل حائراً يترقب ولكن أخاه قال له:
عندما أبدأ عملية زرع بذور القمح أقول في نفسي حبذا تأكل الطيور الجائعة من هذه البذور كي لا تموت من الجوع، وأتمنى أن تكون حصيلتك أكثر مني، هنا أدرك الأخ سرّ نجاح أخيه حيث كان يلعن الطيور، ويطلب موتها عندما كانت تقترب من أرضه، وكان يتمنى أن تكون حصيلته أكثر من أخيه دائماً ويدعو أن يكون هو الأفضل.
لقد عرف الأخ الخاسر أنّ الإنسان يأكل من ثمار نيّته، وليس من ثمار عضلاته وقدرته فقط، وربّما حدث مثل هذا الأمر لكثير منّا، حيث أُصبنا بالدهشة لمّا رأينا شخصاً قد ارتفع مستواه على الرغم من الناس لا يهتمون بأمره أو شخصه، ولكن مع ذلك وصل إلى النجوم بين ليلة وضحاها، لا أتكلم عن نجوم هولي وود أو غيرهم من الذين قد يكون هناك وسائط قد أوصلتهم إلى القمة، أمّا كلامي فهو عن أُولئك البسطاء الذين تغيّرت أحوالهم إلى أفضل حال، وربّما بعد قراءة هذه القصّة ندرك سبب نجاح بعض الناس ونفهم سبب تأخّر البعض الآخر، وربّما تستوي الأعمال في الظاهر، ولكن اختلاف النوايا ستُحدِث فارقاً كبيراً في الأمر.
عن الإمام الصادق (ع) في تفسير قوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود/ 7)، قال (ع): «ليس يعني أكثركم عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنّما الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة والحسنة».
ثمّ قال (ع): «الإبقاء على العمل حتى يخلص أشدّ من العمل والعمل الخالص: الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلّا الله عزّوجلّ، والنيّة أفضل من العمل، ثمّ تلا قوله عزّوجلّ: (كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء/ 84) بمعنى على نيّته».
يقول واين داير: إذا كنتم تنوون فهم النيّة وقوّة النيّة فهذا يعني وقف غروركم (الأنا الخاصّة بكم)، هذا الجزء منكم (جزئكم) الذي يعتقد بأنّكم مفضّلون، وهذا منبع كلّ مشاكلنا وكلّ نزاعاتنا وخلافاتنا، صعوبتنا، حتى مرضنا، فالنيّة مصدر الرخاء، وكلّ شيء ينبثق من هذا المصدر، ينبثق من حقل الرخاء، عندما تجد في قلبك طريقة لإعادة الاتصال بهذا المصدر، حقل الطاقة هذا يصدأ فقط لأنّنا (نحمل) نشتمل على شيء يفصلنا عن المصدر وهذا يدعى الغرور (الأنا) والغرور الأنا لا شيء أكثر من فكرة نحملها معاً، إنّها فعلاً مصدر كلّ مشاكلنا والصعوبة الوحيدة إنّه لا يمكنك فحصها في مستشفى، فمثلاً إذا كان لديك التهاب في الزائدة الدودية فيمكنك فحص الزائدة الدودية، ولكن ليس هناك مكان يمكن أن نفحص فيه التهاب (الغرور) الأنا «أو يمكن أن يفحص فيه التهاب (النيّة)» هذا سيكون لطيف ولكن ما عليك فعله هو اكتشاف سبيل التخلُّص من هذه الفكرة، والتي هي ما أكون عليه وما تكون عليه.
وعندما تعاود الاتّصال بمصدرك وتعيش في تناغم معه، فأنت تتصل مع حقل النيّة وعندما تكون مع حقل النيّة هذا، فحقل النيّة هذا يستطيع أن يفعل كلّ شيء والذي انبثق منه العالم المادّي، فقد بدأنا نؤمن بأنّنا ذلك الشيء الذي نفعله، وما نقوم به وأنا ما أملكه وأنا منفصل عن أي شخص آخر، وأنا سمعتي، وأنا منفصل عما هو مفقود في حياتي.
بعض الأشخاص يزعم بأنّ الإنسان هو وحده مصدر كلّ شيء في هذا الكون، ولكن هناك مصدر قوّة جبّارة وهو الله وقد ودع كلّ شيء في نفس الإنسان، كي يختار بدقّة ومع التوكل عليه أن يسمو إلى أعلى المراتب، فالنيّة ذلك الحقل الذي يخرج منه الجمال والطمأنينة بذكر الله والتوكل عليه.
كلّما كانت النيّة أصدق، تكون حياة الإنسان أفضل، وتصل المساعدات الغيبيَّة بشكل أعجب، فالإنسان لا يأكل من ثمار عضلاته وقدرته، وإنّما يأكل من ثمار نيّته.... والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الغيب، وخائنة الأعيُن وما تخفي الصدور، ربّما لا يوجد مكان يفحص نيّة الإنسان ولكن هناك ربّ يعرف ما يفكّر به عبده وما يسعى له ويعطي لكلّ شخص على حسب نيّته.
يوماً ما سيموت الجميع ويختفي كلّ شيء وسيبقى طهر النيّة مثبتاً في قلوب الأنقياء، وفاضحاً ما تكنّه الصدور وما تخفيه، فعلى نيّاتكم يا عبادي تُرزقون.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق