• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

منزلة الفن الإسلامي المعنوية

منزلة الفن الإسلامي المعنوية

لا نستطيع التحدّث عن الجمال دون أن نُعطيَه مساحة ليشمل الفن الإسلامي ومنزلته الدينية والمعنوية، وبما أنّ الدين الإسلامي دين يشمل جميع أبعاد الحياة فلابدّ أنّه مثلما جاء بشريعة أن يأتي بفن خاص بها، فالشريعة لها ارتباط بالعمل، فيما يرتبط الفن الإسلامي بالأصول والبرامج والأساليب الخاصّة بتصميم الأشياء.

إنّ كلاً من الشريعة والفن يعودان إلى القرآن والسُّنة النبويّة، وإنْ كان كلّ واحد منهما له أسلوبه وطريقته الخاصّة به، فالشريعة تستند على أساس الأبعاد الفقهية للوحي، والمعنى اللفظي الظاهري للقرآن والسُّنة، بينما يستند الفن الإسلامي على حقيقة هذين المصدرين. بعبارة أخرى، إنّ الشريعة مستمدّة من الجنبة الظاهرية للمصدرين (القرآن والسُّنة)، في حين يستند الفن الإسلامي على البُعد الباطني لهما.

إنّ الفن المقدّس في الإسلام أيضاً كبقية الأديان الكبيرة (المسيحية والبوذية) له علاقة بقلب الدين وروحه، وحتى نفهم ما هي المسيحية يجب أن ندخل كنيسة (شارتر) لنرى كيف أُحيطت بالرسوم والنقوش الجميلة والمقدّسة التي تأسرُ الناظر.

ولا يوجد أوضح من المعبد الذهبي مثالاً لذلك في الديانة البوذية في اليابان.

ذات يوم سأل الغربي (تيتوس بوركهارد) نفسه - وهو أكثر الغربيين معرفة بالفن الإسلامي ومنزلته المعنوية - عن الإسلام، فأجاب نفسه: "اذهب إلى مسجد ابن طولون في القاهرة وانظر إليه"، وهو أيضاً يستطيع بهذا الكلام أن يشير إلى الآثار المعمارية الإسلامية الأخرى، كمسجد (أمزكوتيا) في قرطبة، ومسجد القيروان في تونس، والمسجد الأقصى في القدس، ومسجد الشاه في أصفهان، ومسجد السلطان أحمد في إسطنبول.

في الحقيقة، إنّ الفن الإسلامي أفضل أداة لمعرفة قلب الإسلام لدى الغربيين المختصين بالفن، والسؤال هنا: كيف تؤدي مثل هذه الأشياء المادّية (البورق والجص والطابوق) هذا النوع من الدور في حكايتها عن الحضارة والأشياء المعنوية؟ ويكفي جواباً على ذلك أن نرجع إلى القول المعروف لـ(هرمتيك Hermetic)، إذ قال: "إنّ أحطَّ الأشياء تمثّل وتعبّر عن أسمى الأشياء".

وعلى ذلك، إنّ فنون النحت والرسم والموسيقى، ورغم أنّها تمثّل أدنى وأسفل مراتب الحقيقة، لكنّها تعبر عن أسمى وأرفع حقيقة (الساحة اللاهوتية). والفن الإسلامي ليس عنواناً هامشياً، بل هو مركز تجليات الإسلام، بحيث لا تقتصر أهميته على صُنع حياة المسلمين فقط، بل هو نافذة يتمُّ من خلالها إدراك وفهمُ أبعاد الإسلام، ليس لمن يسعى وراء الظاهر لإشباع إحساسه ووجدانه، بل لأولئك الذين ينشدون واقع الإسلام وحقيقته.

ويُستفاد في اللغة العربية من كلمة (فن) و(صناعة) للتعبير عن الفن، الصناعة Techne في اليونانية، وArs في اللاتينية تعني الصنع والإبداع على أساس الأصول الصحيحة، والفن يعني المهارة في صنع الشيء مع مراعاة الأصول الصحيحة واقترانها بالحكمة والعقل.

إنّ الفن لم يكن شيئاً منفصلاً عن حياة الناس، ولم يكن نشاطاً خاصاً في المجتمع الإسلامي، بل كان المجتمع يتمتع بكافة النشاطات من الشعر والموسيقى والخياطة والطبخ وغير ذلك، يقول (أي كي كوماراسواميA. K Coomaraswamy ) المتخصص الهندي الكبير - في القرن العشرين - في ما يرتبط بعلوم ما بعد الطبيعة والفن القديم: "في المجتمع الحديث يختصُّ بالفن فردٌ معيّن، بينما يمتاز كلّ فرد بفن خاص في المجتمع القديم".

إنّ هذه النظرية تنطبق تماماً على المجتمع الإسلامي الذي لا فرقُ فيه بين الفنون الدينية، وغير الدينية، فكلّ شيء يصبّ في الإطار الروحي للإسلام. نعم إنّ لكلّ حضارة سلسلةَ مراتب فنية خاصّة بها تتشكل على أساس البناء الديني الظاهري لتلك الحضارة. على سبيل المثال، إنّ الرسم أفضل أنواع الفن في الغرب، وهذا ناشئ من محورية الصورة المقدسة في المسيحية، على العكس مما هو في الإسلام واليهودية اللذين منَعا أيَّ نوع من أنواع التصوير والرسم والتجسيم لله عزّوجلّ.

والفن الإسلامي المقدّس ليس في الصور والرسوم، وإنّما أفضل أنواع الفن في الإسلام هو المرتبط بكلمة الله، كما في المسيحية، ولكنّ هذه الكلمة في الإسلام لا تعني ما تعنيه في المسيحية. الكلمة في الإسلام تتعلق بالقرآن الكريم، إنّما هو الكتاب المعروف، وعلى هذا إنّ فن الخط في القرآن وكتابته وتلاوته بصوت ولحن جميل، تُعدُّ على رأس الفنون الإسلامية ذات المنزلة الرفيعة والدرجة العليا.

ويأتي فن المعمارية بعد ذلك في الأهمية، وخاصّة في بناء المساجد وإعمارها، وغير ذلك، وتأتي أهمية الخياطة بعد ذلك سواء المختصة منها بالرجال أو النساء، لأنّ أقرب شيء إلى الإنسان بعد بدنِه لباسُه، ويقوم فن الخياطة عند المسلمين على أساس التعاليم القرآنية، بحيث يتميز اللباس الإسلامي بأنّه لباس حياء كما أمر القرآن، ويقوم على الفطرة الإلهية والحيثية القدسية لهذا العالم القائمة على تكامل الرجل والمرأة، ثم تصل النوبة إلى ما يسمّى بـ(فنون أدوات المنزل)، أو كما يعبرون بالفنون المهاراتية، والتي من جملتها صناعة السجاد والأقمشة والحاجات المنزلية، وتؤثّر تلك الفنون على النفس والروح أكثر من الرسوم والصور التي تعلّق على جدران القصور والمتاحف.

وأمّا الفن الآخر، فهو الفن المرتبط بالكتاب الذي يشمل النقوش المعروفة بـ(مينياتور)، وقد كان هذا الفن يتعلق بالمتون العلمية كالأدب والتاريخ، وصار في ما بعد علماً مهاراتياً تختص به إيران، وصل إلى كماله ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين.

وقد أفضى الـ(مينياتور) الإيراني وبمرور الزمن إلى مدارس النقوش العثمانية والمغولية.

وتُعَدّ بعض النحوت والنقوش الإيرانية من الآثار العالمية العظيمة، وعموماً إنّ الرسوم الإسلامية تتمتع بمنزلة عالية لدى الغرب، إلّا أنّ فن الرسم لم يجد تلك المنزلة في الفنون الإسلامية، مثلما وجدها في الغرب، وهذا لا يعني أنّ جميع أنواع الرسوم قد حرّمت ومنعت في الإسلام، نعم حرّم تصوير الله والنبيّ (ص) وتجسيمهما.

وعلاوةً على ذلك، إنّ الإسلام يمنع أولئك الذين يسعَون إلى محاكاة الخالق في رسم الطبيعة، وهم لا يستطيعون منح الحياة والروح لها، وهذا السبب الذي أدى إلى عدم وجود أيّ أثر للنصب والمجسَّمات في الإسلام، إلّا في بعض تماثل الأُسود، وبقية الحيوانات في الحدائق والبساتين.

إنّ الورَع الإسلامي لا يقبل أيَّ تصوير يمكن أن يحلَّ محلَّ الأصنام، ويؤثر سلباً على القوّة التخيلية للمسلمين، وهذا هو السبب الذي يجعلك لا تجد تصويراً أو رسوماً في المساجد والأماكن العبادية، وكذلك، فإنّ القرآن الكريم، وكُتُب الأحاديث الشريفة لم تضمَّ أيّ تصوير أو رسم.

ومن ناحية تاريخية، إنّ منع الرسوم (غير المأخوذة من الطبيعة) كان على أشدِّه بين العرب، وكانت مانعيته أكثر من أيّ نوع من أنواع الرسوم والتصوير عندهم. ذلك لأنّ العرب الساميين كانوا أكثرَ المجموعات القومية التي تحذّر من اختلاط ذلك بأصنامهم.

ولم يكن المنع بهذه الشدّة عند الإيرانيين والترك والهنود والمالاويين ومسلمي إفريقيا.

أمّا في المرحلة الراهنة، فإنّ فن الرسم موجود في كلّ مكان، حتى في العالم العربي، لكنّ أحدث الرسوم للفنانين المسلمين، وإن كانت ذات مضامين إسلامية، إلّا أنّها في الواقع ليست من الفن الإسلامي بشيء، بل هي فنون اقتُبست من الغرب.

الآن لابدّ أن نشير إلى الموسيقى والشعر اللذين يُعَدّان من الفنون الصوتية ولا يمكن عدُّهما من الفنون التي ذكرناها سابقاً.

إنّ القرآن، وإن كان يمكن عدُّه شعراً في أعلى مستويات كماله وفصاحته، لكنّهم لم يسمّوه شعراً أبداً بالمعنى الاصطلاحي للفظ، نقرأ في سورة الشعراء: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) (الشعراء/ 224).

إلّا أنّ هذا لا يشمل جميع أنواع الشعر والشعراء، بل هو ناظر إلى شعراء مكة في العصر الجاهلي الذين ادّعوا الإخبار عن الغيب، والذين يمدحون كلّ فرد من دون النظر إلى الواقع، هذا، وإن كان شعرهم على درجة عالية من النظم.

في الحقيقة إنّ الشعر في الإسلام، وببركة تأثير القرآن، أصبح له مكانة عالية في الفنون الإسلامية، حيث ظهرت إثرَ ذلك منظومات شعرية باللغات العربية والفارسية والتركية، ولغات أخرى، يُعتبر البعض منها من الآثار الأدبية العظيمة في العالم. فالمسلمون، وفي أيّ مكان وضعوا أقدامهم فيه فتحوا باباً للشعر، وإلى الآن تقريباً يمثِّل الشعر رصيداً ثقافياً وكنزاً أدبياً عظيماً وحيّاً في كلّ مجتمع.

وقد كان للشعر دَورٌ مهمٌّ في المجتمعات الإسلامية على المستوى الثقافي والديني والاجتماعي تميّزَ عن دوره اليوم في أمريكا وأكثر الدول الأوروبية.

إنّ الكثيرين من الغربيين سمعوا أنّ الموسيقى حرام في الإسلام، وهذا ما نسمعه أيضاً بعض الفِرَق الإسلامية، مع هذا، إنّ تلاوة القرآن من الفنون الموسيقية العالية والمقدّسة في الإسلام، وحتى الأذان الذي يُرفع أثناء الصلاة، فإنّه يؤدّى بطريقة موسيقية وفنية.

وفي الدول الإسلامية، نسمع المقطوعاتِ الموسيقية يومياً في وسائل الإعلام (الراديو)، إنّ مسألة مشروعية الموسيقى في الإسلام، مسألة معقّدة، ولم توجد أحكام صريحة خاصّة بها في القرآن الكريم. مع ذلك، فإنّ السياق العام للتعاليم القرآنية وسنّة النبيّ (ص)، جعل الموسيقى في العالم الإسلامي تختلف عمّا هو موجود في الغرب.

أوّلاً: لأنّ القرآن الكريم والمراسم العبادية الأخرى لم يُستعمل فيها ما يسمى بالاصطلاح الغربي موسيقى، وهو الاصطلاح اليوناني المأخوذ من كلمة Music الأنجليزية، وكذلك، إنّ القرآن يُقرأ من دون استعمال أيّة آلة موسيقية، بل إنّ استعمال تلك الآلات الموسيقية في المساجد حرام، وفي تاريخ المسيحية الأوّل كان استعمال الآلات الموسيقية في الأناشيد المقدسة ممنوعاً كما في نشيد (چريچوري).

ثانياً: إنّ الرسول (ص) أجاز الموسيقى في الأعراس - بشروط - وفي الأناشيد العسكرية، وفي الواقع إنّ ظهور أوّل مجموعة موسيقية عسكرية في الغرب كان تقليداً للعثمانيين، الذين كانوا السبّاقين إلى ذلك. ونحن مازلنا نحتفظ بالقطعة الموسيقية المعروفة بـ(الوكب التركي) من موزارت.

أمّا بقية أنواع الموسيقى التي تقود إلى الأعمال غير الأخلاقية، وتحرّك الإنسان نحو الفاحشة، فهي حرام في الإسلام. وفي ما يخص الموسيقى المعنوية التي نشأت على يد الصوفية فمازال الباب فيها مفتوحاً، ويقول العالم العارف المعروف بـ(الغزالي): "الموسيقى تثير رغباتِ وميول روح الإنسان بشدة، فإن كانت هذه الرغبة باتّجاه الله، فإنّ الموسيقى تقوي هذا النمط من الرغبة وتؤجج نار العشق الإلهي، وإذا كان تعلّق الروح ورغبتها بالدنيا فإنّ الموسيقى تزيد من تلك الرغبة والانغماس في الدنيا".

ولقد وقف الإسلام على تلك الحقيقة تماماً، وسعى لتوظيف الموسيقى الظاهرية وتحديدها لصالح الموسيقى الباطنية، لأنّها السبيل إلى حبّ الله والوسيلة لتصوّر حقائق الجنّة، وهي أشبه بالأمواج التي تشدّ الروح وتساعدها على الطيران إلى عشّها الملكوتي الأوّل.

وتُعدّ الأساليب والطرق الموسيقية في العالم الإسلامي من أغنى النماذج في المعمورة، ولم يقف دور تلك الأساليب على إغناء حياة المسلمين والدور الذي تلعبه في تعاليم الصوفية، بل أثّرت على الموسيقى الغربية من جهات عديدة، فإنّنا إذا سمعنا موسيقى (فلاميتيكو) نتذكر الموسيقى العربية والإيرانية الكلاسيكية، وكذلك إنّ آلة (اللوت) في الموسيقى الغربية قد أُخذت من لفظة (عُود) العربية، ولفظة الچيتار أُخذت من لفظة (تار) اللفظة الإيرانية.

واليوم يعيش الغرب حالةً من التعلّق والانشداد إلى الموسيقى الإسلامية، هذه الموسيقى التي تحكي عن أعمق الحقائق الإسلامية من دون اللجوء إلى المقولات الكلامية الغربية.

وإذا كنّا سمعنا في السنوات الأخيرة أنّ طالبان قد حرّمت الموسيقى في أفغانستان، البلد الذي كان كنزاً لأنواع الموسيقى الكلاسيكية في العالم الإسلامي، إلّا أنّ هذا التحريم لم يكن قاعدةً عامّة في العالم الإسلامي، بل هو يشبه ما يحدث من جانب بعض المتعصّبين البروتستانت في الغرب الذين قاموا بتحريم بعض الفنون، والتي من جملتها الموسيقى.

إنّ صدى النشيد الروحي المصري، وصوت المزمار (الناي) بأشعار مولوي في تركيا، والتار والسناتور الإيرانيَّين، والجَوْق الأندلسي في مراكش، والقوالي في باكستان - إذ نقلها إلى الغرب نصرت فاتح علي خان - ووقع الطبل في أفريقيا السمراء، تلك الأمور كلّها كانت ومازالت تحظى بشهرة كبيرة، بالإضافة إلى أنواع أخرى من الأنغام المعنوية الحزينة المندمجة بحياة المسلمين.

إنّ الموسيقى ليست شيئاً غير خارج عن دائرة الإسلام فقط، بل هي من أقوى وأشمل الأدوات التي تكشف عن الحالة التي أُدغمت وغرست في قلب الإسلام، وهي إدراك جمال وجه الله، والتسليم للحقّ والحقيقة المتضمنة للجمال والسلام والرحمة والوداد.

إنّ لجميع الفنون الإسلامية أهميةً عظيمة في فهمِ جوهر الإسلام، وهي الوسيلة لإيصال رسالة هذا الدين إلى العالم، ونحن، حتى ندرك الإسلام، لابدّ أن نخرج عن دائرة المَشاهد اليومية للحروب ونزيف الدماء والسِّجالات والجدالات التلفزيونية، وننظر إلى دائرة أوسع، وهي الفنون الإسلامية، والنقوش الموجودة على المساجد، ومشاهدة البساتين وأطراف المدن، والخطوط الإسلامية، وإلى الأشعار التي تتضمن الحبَّ الإلهي المنقوش على جميع الخَلق.

إنّ الأنغام والأصوات التي نسمعها هي صدى لذلك الشيء الذي شاهدناه في صبح الأزل، قبل الخلق، وقبل هبوطنا إلى هذه الدنيا، واليوم وأكثر من أيّ زمان مضى أصبح الفن الإسلامي وسيلةً ضرورية وأداةً مهمّة لفهم الإسلام، وخاصّة لأولئك يتذوَّقون الفن والجمال للنظام الملكوتي - الذي نشأ منه الفن الإسلامي - وكذلك الأصول العقلية التي تحكي عنها تلك الفنون.

 

المصدر: كتاب قلب الإسلام (قيم خالدة من أجل الإنسانية)

ارسال التعليق

Top