• ٢٧ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٥ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مؤسسة الدولة إحساس أخلاقي

مؤسسة الدولة إحساس أخلاقي
◄إنّ من أبرز مصاديق الواجب الكفائي وارتباطه بالأخلاق هو مؤسسة الدولة، فالدولة تمثل أرقى تنظيم اجتماعي يملك سلطة وصلاحية الزام الآخرين، فهي ترتبط بالأخلاق في نشأتها كما ترتبط بالأخلاق في عملها ومسؤولياتها، فهي تنشأ كما توضح لنا الدراسات الإسلامية بدوافع أخلاقية إلى جنب الدوافع العقيدية. وقد وضح العلماء دور العنصر الأخلاقي والقيمة الأخلاقية في نشأة الدولة.

فالرسالة الإسلامية اعتبرت قيام الدولة واجباً كفائياً، فأوجبت على الهيئة الاجتماعية إقامة الدولة بشكل عام. وحين يتصدى العدد الكافي لإقامتها تسقط عن الباقين. وهذا التصدي من قبل الجماعة دون غيرهم دافعه في الشريعة الإسلامية مرضاة الله سبحانه، ويغذيه الإحساس الذاتي بالمسؤولية، والحرص على مصالح الأُمّة، وهو إحساس أخلاقي. فالشعور بالواجب والمسؤولية والحرص على مصالح الآخرين وهو من أوضح القيم والممارسات الأخلاقية السامية.

ويتضح دور الأخلاق في أداء هذه المسؤولية ليس في المبادرة من بين الآخرين المخاطبين بالتكليف فحسب، بل وفي الرضا بما يلاقيه هؤلاء من معاناة وسجون وتشريد وقتل وحرمان.. إلخ. من أجل إقامتها. إنّ الاقدام على تحمل المسؤولية والرضا بها مع ما تحمل من مخاطر وتبعات، دون أن ينتظر القائمون بهذا العمل الاجتماعي العام جزاءً مادياً من أحد من الناس الذين يُضحى من أجل مصالحهم، لهو قمة العمل الأخلاقي.

ويوضح علماء العقيدة الإسلامية موقع الدافع الأخلاقي في مشروع إقامة الدولة في بحوث الإمامة – أي رئاسة الدولة – بنصوص عديدة، منها ما تحدّث به العلامة الحلي، وهو من أعاظم علماء الإسلام في القرن السابع. قال: "إنّ اللطف كما علمت هو ما يُقرّب العبد من الطاعة ويبعده عن المعصية، وهذا المعنى حاصل في الإمامة. وبيان ذلك إنّ من عرف عوايد الدهماء، وجرّب قواعد السياسة، علم ضرورة أنّ الناس إذا كان لهم رئيس مطاع، مرشح فيما بينهم، يردع الظالم عن ظلمه، والباغي عن بغيه، وينتصف للمظلوم عن ظلمه، ومع ذلك يحملهم على القواعد العقلية، والوظائف الدينية، ويردعهم عن المفاسد الموجبة لاختلال النظام في أمور معاشهم، وعن القبائح الموجبة للوبال في معادهم، بحيث يخاف كلّ مؤاخذاته على ذلك، كانوا مع ذلك إلى الصلاح أقرب، ومن الفساد أبعد، ولا نعني باللطف إلّا ذلك، فتكون الإمامه لطفاً وهو المطلوب"[1].

ثمّ أوضح في موقع آخر الداعي لإقامة الدولة في الإسلام بقوله: "قد بينا أنّ العلة المحوجة إلى الإمام هي ردع الظالم، والإنتصاف للمظلوم منه، وحمل الرعية على ما فيه مصالحهم، وردعهم عما فيه مفاسدهم.."[2].

وهكذا يوضح الفكر الإسلامي أنّ أهم موجبات إقامة الدولة هو الدافع الأخلاقي، وهو إنقاذ الإنسانية من الظلم والفساد بشتى ألوانه. وهو دافع أخلاقي – أي مبعثه – الاهتمام بمصالح الآخرين ولو عن طريق الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جانب الدافع العقيدي. ويتمثل الدافع الأخلاقي بأجلى صوره في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – الإصلاح الاجتماعي – فإنّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يهمه إصلاح الآخرين، وإبعاد الفساد عن المجتمع، وتحقيق مصالح الجماعة، في مجالاتها المختلفة، الفكرية، والسياسية والاقتصادية والسلوكية الفردية.. إلخ فدافع الإحساس الذاتي بالمسؤولية، وهو مرتكز أساس من مرتكزات القاعدة الأخلاقية، وحب الآخرين، والحرص على مصالحهم، هو المحرك والباعث له على القيام بهذه المهمة دون أن يطلب مقابلاً مادياً أو معنوياً من الناس الآخرين، وهذه الصفة، وهي أعلى صفة أخلاقية تحدّث عنها القرآن حين وصف الرسول الكريم محمد (ص) بقوله: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).

وكم يتحمل صابراً الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من أذى ومعاناة من الطغاة والمنحرفين لاسيّما من الحكام الظلمة من أجل إنقاذ الآخرين، بل وكثير منهم من الذين يؤذونه.

ثمّ كثيراً ما يحتاج الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في المجال الاجتماعي إلى التعاون مع الآخرين وتشكيل مؤسسات خدمية، أو منظمات اجتماعية، أو تنظيمات سياسية للقيام بهذه المهمة في مجالها الخدمي والاقتصادي والسياسي، وعندئذ يشكل العمل الجماعي هذا دافعاً أخلاقياً آخر بالإضافة إلى الدوافع السالفة الذكر.

وليس هذا فحسب، بل وأنّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مدعو إلى التحلي بالأخلاق الحسنة واختيار الإسلوب المؤثر، ليحقق أهداف هذه المسؤولية.

وعند تحليل هذه السلوكية الملتزمة نكتشف بعداً أخلاقياً آخر خلف هذه الأخلاقية، وهو دافع أخلاقي أيضاً وهو الحب والحرص على الإصلاح.

وهكذا تتجلى أهمية الأخلاق في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. في الإنطلاق بها، وفي أهدافها، وعند ممارستها.

أما الجهاد والشهادة فتتجلى فيهما أسمى آيات الحب والإخلاص والحرص على مصالح الجماعة، وهي من الصفات الأخلاقية الرفيعة في حياة الإنسان. فالمجاهد يضحي بنفسه من أجل أن يدفع الشر والخطر والظلم والاضطهاد عن المستضعفين والمظلومين، ويتسامى نحو المطلق سبحانه بحب وفناء ذاتي منقطع النظير.

ولنعد إلى القرآن وهو يوضح الدافع الأخلاقي بأسمى درجات الوضوح فنقرأ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة/ 216).

إنّ الخطاب الإلهي يكشف لنا في هذا البيان عن قيمة الجهاد، وأنّه تحمل للمشقة، ولما يكره الإنسان، دون مقابل مادي، بل لمصلحة اجتماعية تعود على الآخرين في دنياهم أكثر مما تعود عليه، غير أنّ لها ثوابها العظيم وعطاءها الكبير عند الله سبحانه.

وهكذا يتجلى الدافع الأخلاقي في هذا العمل التضحوي الشاق. ونقرأ في نص قرآني آخر الدعوة الأخلاقية للإنسان، وحثه الأخلاقي وإيقاظه للحس الأخلاقي قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا...) (النساء/ 75).

ويتسامى الموقف الأخلاقي في الجهاد ليصل إلى مرحلة حب الشهادة الذي ينتهي بفناء الذات في حب المطلق الأبدي من أجل انقاذ المستضعفين والمظلومين من الظلم والاضطهاد، وإحقاق الحقّ والهدى فيتعالى على كلِّ موقف أخلاقي على هذه الأرض.

الهامش:


[1]- العلامة الحلّي، الباب الحادي عشر، ص67-69.

[2]- العلامة الحلّي، الباب الحادي عشر، ص67-69.

ارسال التعليق

Top