عادة ما يندرج البحث في موضوع التربية والتعليم ضمن بحوث العلوم الاجتماعية، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بالأنظمة التعليميّة والأهداف والأصول والأساليب. ومن هنا، تتّضح أهمية مسألة التربية والتعليم وضرورتها بحسب مستلزمات الحياة المدنيّة وأنماط المعيشة الاجتماعية، في حين أنّ أي توضيح حول ضرورة هذه المسألة يستند بحدّ ذاته إلى نوع من المواقف الفلسفية. فهذه العملية تمثّل جزءاً من الأنثروبولوجيا، بحيث تبقى الدراسات الأنثروبولوجيّة الفلسفية ناقصة من دون أخذها.
وغنيّ عن القول إنّ التربية ليست مجرّد تمظهُر عقلاني في حياتنا، بل هي شرط أساس وضرورة ملحّة لوجودنا وبقائنا. ووفقاً للفلسفة المستندة إلى فكرة أصالة الوجود، يُعتبر الوجود متأصّلاً في جميع الموجودات ومنها الإنسان. أي أنّ الإنسان موجود، ولأنّه موجود فهو يميل إلى الوجود وينفر من العدم. وهو يشترك مع بقيّة الموجودات في ميله إلى الوجود ونفوره من العدم، غير أنّه مع ذلك يختلف عنها في أمر جوهري واحد، فهو يحتلّ مرتبة من الوجود يمتلك فيها علماً حضوريّاً بوجوده، أو كما قال صدر الدين الشيرازي، فإنّ النفس تتساوى مع العلم الحضوري بالنفس. وبناءً على هذا، يدرك كلّ منّا وجوده قبل الآخرين من خلال الشهود، ومن دون أي شاهد أو برهان، وبعيداً عن أيّ شرط أو اقتضاء. وكلّ منّا يعلم أنّه موجود ولا يشكّ في وجوده أبداً. وخلافاً لوجهة نظر ديكارت[1] فإنّ شكّي ليس هو ما يدفعني إلى "إدراك وجودي". فليس من أحد يشكّ في وجوده بأي شكل من الأشكال، وإدراك الفرد لوجوده قبل إدراكه للشكّ واضح وجليّ للجميع. وأما الشك والتردّد فهما حالة من الحالات التي تنتابنا وتكون مسبوقة بحضورنا أو وجودنا، إذاً، فإدراك وجود النفس يمثّل أكثر المدركات الحضورية أصالة. ويؤدي وعي النفس وعلمها الحضوري بوجودها إلى مَيلها الذاتي نحو الوجود وإدراكها له، ثمّ الهروب الذاتي من العدم بعد إدراكه. وفي الحقيقة، إنّ بعض مراتب الوجود المعرّضة للزوال والعدم تميل إلى الوجود لامتلاكها إيّاه، وبسبب تعرّضها للزوال فقد أصبحت تنفر منه. وهذا المَيل نحو الوجود والهروب من العدم هما اللذان يتسبّبان بكلّ تلك الحركة. ويعيش عالم الموجودات حالة من التحرّك الشاملة والعامّة نحو مصادر الوجود والبقاء والابتعاد عن عوامل العدم والفناء. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحركة الشاملة للطبيعة المادية ناجمة عن استبطانها لصفة الفناء والزوال. فقد اقتضت عملية خلق الطبيعة بشكل تدريجي ظهور الموجودات المادية بشكل تدريجي ومؤقّت، إلا أنّ قابلية الفناء الكامنة في هذه الموجودات هي التي تتسبب في حركتها للحصول على البقاء. وتعيش الطبقات المختلفة والمتنوّعة للموجودات الطبيعية حالة ذاتية أو غريزية من السعي والمثابرة المستمرّتين نحو البقاء، فنجدها تنفر من كلّ العوامل التي تحول بينها وبين الوجود وتجتهد لامتلاك المصادر التي تمنحها الوجود. إنّ الإنسان يحتلّ مرتبة خاصة من مراتب الوجود حيث يقع على الحد الفاصل بين العالم المادي الآيل إلى الفناء، وعالم ما وراء المادة السرمدي، وتحتلّ النفس الإنسانية المراتب المادية والمثالية والمجردة معاً. وقد أدّى الكيان الثنائي للنفس (المادي/ المجرد)، أو الكيان الثلاثي (المادي/ المثالي/ المجرّد) أدّى – بحسب الفلسفة الإسلامية – إلى أن تشهد حركة النفس الإنسانية اتّساعاً وتشعّباً غير مسبوق. أما حركة الموجودات الأخرى فهي تتمّ في محيط محدود وضمن إطار مقام معلوم ومعيّن خاصّ بمرتبة وجودها، وهكذا تتفتّح السنبلة عن سنبلة أخرى والحبّة عن حبّة غيرها كما يُقال، بينما تستطيع النفس الإنسانية التحرّك في مراتب الوجود المختلفة، والتنقّل من مرتبة الحيوانات التي تُعتبر أدنى مراتب الوجود، لتصل إلى الإنسان الذي أصبح معلّماً للملائكة ومسجودها[2]. وفي الحقيقة، إنّ حركة النفس الإنسانية – بالنظر إلى مجالها الواسع – منبثقة من وعيها نزوعها الذاتي نحو الوجود الذي لا يزول ولا يفنى. فهي تُدرك بطريق الشهود حيثيّتها المادية الآيلة إلى الزوال وحيثيّتها الخالدة المجردة التي لا تموت، وهي تنزع بشدة نحو الخلود، ولذلك تبذل الجهود عن وعي منها للوصول إلى ذلك الهدف. ومن خلال علمها بالوجود السرمدي الخالد للمراتب العليا، تكون هذه النفس راغبة في الوصول إلى المراتب المتعالية والخالدة في الوجود، وهاربة من الوجود المؤقّت الفاني للطبيعة المادية. وعلى هذا، فإنّ النفس الإنسانية تمتلك وضعاً خاصاً بها؛ فهي، من جهة، تكون واعية ومدركة لوجودها من دون أيّة واسطة، وبذلك تحصل على مراتبها أو حيثيّاتها المتعددة والمختلفة من خلال الشهود، وتعلم كذلك أنّ بعض مراتب وجودها قابل للفناء والزوال، بينما يكون البعض الآخر سرمديّاً وخالداً. ومن جهة أخرى فإنّ مراتب النفس المتعدّدة قد منحتها إمكانيّة الحركة ضمن نطاق واسع فاستطاعت بذلك من توسيع دائرة وجودها والوصول إلى الوجود ميزتيْن ذاتيّتيْن أساسيّتيْن – الحرية والوعي – تسعى للحصول على المصادر التي تمنحها الوجود والوصول إلى الوجود الخالد الكامل التامّ، والهروب من كل العوامل التي تمنعها من ذلك وتحول بينها وبين وصولها إلى تلك المصادر. في ضوء ذلك نقول إنّ الوضع الخاصّ الذي يتوفّر عليه الإنسان باعتباره يحتلّ مرتبة من مراتب الوجود المشتملة على الحيثيّات المادية والمجردة، يتيح له أسباب ودواعي حركته، وتوسيع مجال تغييرات النفس، لا بل يحدّد قابليّة تعيّن التغييرات المذكورة والتنبّؤ بها كذلك. بعبارة أوضح، إنّ الحيثيّة المادية – المجردة للإنسان هي التي تؤدي بحركة النفس لتكون، في بعض المراتب، حركة متعيّنة قابلة للتنبّؤ، وأن لا تكون كذلك في المراتب الأخرى. واستناداً إلى الرأي القائل بأنّ الوجود الإنساني هو أقوى الوجودات في العالم الجسماني وأكثرها اشتداداً، فإنّ حركة الإنسان التي تهدف إلى توسيع دائرة وجوده تشبه إلى حدّ كبير حركة الموجودات الأخرى في العالم الجسماني. ففي هذا العالم تكون الموجودات الطبيعية قابلة للفناء، وهي تسعى وتتحرّك نحو اجتذاب المصادر التي تمنحها الوجود، والهروب من العوامل التي تسلب منها ذلك بشكل مستمرّ ومن دون تغيير، وفقاً لبرنامج أو مخطّط مُسبق. وكذلك خصائص الحركة الإنسانية في المراتب السفلى للنفس – ونقصد بذلك مرتبة النفس الحيوانية والنفس النباتية الخاصة بالجسم – فهي خصائص محدّدة مسبقاً. وتتشابه مصادر الوجود والعوامل المانعة له التي تكون معيّنة مسبقاً بحسب الخصائص التي تتميّز بها كل مرتبة من مراتب النفس، تتشابه هذه المصادر كثيراً مع مثيلاتها من العوامل في النباتات والحيوانات في مراتب النفس الحيوانية والنباتية. ويكون المخطّط الذي ينظّم حركة تلك المراتب معيّناً ومعلوماً مسبقاً أيضاً. وبذلك فإنّ برنامج تنمية الوجو الإنساني في الجسد الذي يشتمل على مراتب النفس النباتية والحيوانية معاً، هو برنامج موضوع ومعلوم مسبقاً. ويمثّل تطور جسدنا وسلامته نموذجاً راقياً لبرنامج التطور والسلامة الخاص بالموجودات الطبيعية، إلا أن مرتبة النفس الناطقة التي تسمو على بقية مراتب النفس، تختلف بشكل كبير عن تلك المراتب. فالنفس الحيوانية والنفس النباتية المتجلّيتان في أجسادنا تتبعان نموذجاً خاصاً من التغييرات المعيّنة، حيث تتغيّر وفقاً للتأثيرات الناجمة عن عوامل وعلل تغيير خاصة، وهي عوامل وعلل محدّدة مسبقاً، بعضها مكشوف لنا، بينما يظلّ معظمها غامضاً ومحجوباً عنّا. فإنّ اجسادنا، مثلما هو الحال مع قسم من الطبيعة، خاضعة لله تعالى، وليست تحت إرادتنا أو سيطرتنا، وهي تسير وفقاً لقوانين الطبيعة باعتراها جزءاً منها. وغاية ما نستطيع القيام به هو معرفة العوامل وتحديد القوانين الطبيعيّة التي تؤثّر في أجسادنا، لنتمكّن، إلى حدّ ما، من إدارة شؤوننا، لكنّ ما الذي يحقّق حقيقتنا الإنسانية الحرة هي مرتبتنا الإنسانية العليا المعروفة في لغة الفلسفة باسم (النّفس الناطقة). وترتبط تغييرات النفس الناطقة إلى حدّ بعيدة بحريّتنا ووعينا، وأساساً، تُعتبر هذه الحركة نوعاً من الحركة العلميّة وفقاً لنظرية الوجود الذهني والقيام الصدوري التي قال بها صدر الدين الشيرازي، ومن هذا الجانب تعتبر غير متعيّنة. باختصار، إنّ حركة النفس الناطقة تختلف عن حركة مراتب النفس الإنسانية الأخرى في عدة نواحٍ، منها: أ- اختلاف عوامل الحركة في النفس الناطقة التي تشمل المصادر الواهبة للوجود، والعوامل المانعة له مع مراتب النفس السابقة، أي النفس النباتية والنفس الحيوانيّة. ب- إنّ مدركات النفس الناطقة تابعة لحركتها من أجل الحصول على المعاني من عوالم ما وراء المادّة، وبالنظر إلى اتّساع تلك العوالم فإنّ هذه المدركات تتّصف بالتنوّع والاختلاف الكبيريْن. ت- يتمّ إدراك الخلود – الذي يُعتبر ميزة الأمور المجرّدة – في مرتبة النفس الناطقة. ث- بإمكان النفس الناطقة التي تمتلك الفاعلية في المدركات والتخيّلات، عدم اتّباع البرنامج المذكور والمُحدّد بشكل إجباريّ. ج- ماهيّة حركة النفس الناطقة للهروب من العوامل المانعة للوجود، والوصول إلى المصادر المانحة له، تكون مرهونة بالحركة العلميّة. على هذا، فإنّ الاختلاف الأساسي بين الإنسان من جهة، وبقيّة الموجودات المادية الأخرى القابلة للفناء من جهة ثانية، من حيث الحفاظ على وجوده وتوسيع دائرته، يكمن في أنّ الحركة المانحة للوجود لدى جميع الموجودات في العالم الطبيعي تسير وفق برنامج ومخطّط موضوعين مسبقاً بكلّ حدودهما وشروطهما وبشكل إجباري، بينما يبحث الإنسان عن الوجود المتعالي والسرمدي باختياره ووعيه. بمعنى إنّه على الرغم من شيوع مسألة البحث عن البقاء بين جميع الموجودات الطبيعيّة من حيث إنّها موجودة، إلا أنّ الطلب المتعالي والرغبة في الوجود المتعالي والسرمدي، هما من مميزات الإنسان وحده. وحيث إنّ الإنسان يدرك طبيعته المادية القابلة للفناء فهو يرغب في البقاء، شأنه في ذلك شأن أيّ موجود طبيعي مادي آخر. ولكن، بحسب ما يحمله من إدراك حول الأمور المجرّدة والوجودات المتعالي، فإنّه يصر على طلب التعالي. وبناءً على ذلك، تظهر حركته الاستعلائيّة من خلال النفس الناطقة، وأمّا مقدار شدّة تلك الحركة (الاستعلائيّة) وتنوّعها فمرهون بمدركات النفس الناطقة. لهذا السبب نلاحظ أوّلاً أنّ رغبات أي فرد أو فعاليّاته أو مخاوفه – وخاصة أُمنياته – تقوم بإزاحة الستار عن فهمه ومدركاته، ويمكن أن يكون ذلك مقدّمة للإنسان للتنبّؤ بمستقبله. ثانياً، إنّ مسألة التربية والتعليم يصبحان ضرورةً أكثر من أجل أن تحصل النفس الناطقة على مدركات أوسع وأنسب. ولا ريب في أنّ عدم تعيّن حركة النفس الناطقة وميزتها في الحدوث الطبيعي والحاسم من دون أيّ إلزام أو إجبار، وكذلك من دون برنامج مسبق لها، خلافاً للمراتب السابقة، هو أكبر شاهد على ضرورة التربية والتعليم. بعبارة أخرى: إنّ المرتبة الوجودية المتميّزة الخاصّة بالإنسان وخصائص نفسه الناطقة هي التي تجعل عملية التربية والتعليم أمراً ضرورياً، وكذلك تجعل العملية المذكورة شرطاً أساسيّاً لا مفرّ منه للتعرف على المصادر المانحة للوجود والعوامل المانعة له، واكتشاف السُبُل الكفيلة بتوسيع رقعة الوجود. في الحقيقة، إنّ مسألة توسيع نطاق الوجود المتعالي والسرمدي تمثّل مطلباً أصيلاً من مطالب ذواتنا الإنسانية، وهو أمر تعلّمناه وأدركناه بأنفسنا. فكلّ واحد منّا يشعر في داخله ومن خلال إدراكه الشهودي بخوفه وهروبه من العدم والعوامل المانعة للوجود، ويحسّ برغبته الشديدة نحو الوجود والمصادر المانحة له. ولا شكّ في أنّ راحة كل منّا وطمأنينته ولذّته مرتبطة بمدى استغلاله واستثماره للمصادر الواهبة للوجود، وتوسيع دائرة وجوده وبقائه. وكلّ منّا يشعر في أعماقه برغبة ملحّة للحصول على الخلود والراحة الأبديّة الكاملة، ويبذل جهوده لاكتشاف الطرق التي تضمن له ذلك، ولا يفتأ يفكّر في إيجاد سبيل لتوسيع وجوده. على هذا الأساس نقول إنّ الخشية من العدم والهروب من العوامل التي تحول بين الإنسان وبين الوجود، إضافة إلى حبّه للوجود وسعيه من أجل الوصول إلى المصادر التي تمنحه ذلك الوجود، إنما هي ميزة ذاتية موجودة داخل كلّ واحد منّا حيث شعرنا بها وأدركناها من خلال الشهود. لكنّ هذه الحاجة تظهر بأشكال متنوّعة وصور مختلفة، وكذلك العوامل الكفيلة بتلبية تلك الحاجة، هي كثيرة ومتشعّبة. ولذلك فقد تعدّدت الأساليب والأنماط التي تحتاج إلى تجويز وتعليم لغرض معرفتها والاستفادة منها. وتنقسم جميع الأساليب والأنماط التي تضمن للإنسان حصوله على الراحة الأبديّة – مع وجود الاختلافات بينها – إلى نظامين: النظام الخاص بالحصول على المصادر الواهبة للوجود، والنظام المتعلّق بتجنّب العوامل المانعة للوجود. وبحسب طبيعة المعرفة المتوفّرة بشأن المصادر الواهبة للوجود وتلك المانعة له، فقد ظهر العديد من الأنماط والنماذج التي تتضمّن مبادئ مختلفة وأساليب متنوّعة. وعلى الرغم من أن هذا التنوّع في الأنماط والتعدّد في النماذج والأساليب الخاصة بالوصول إلى الراحة الأبديّة ناجم عن تعدّد وتنوّع كل من المصادر الواهبة للوجود والمانعة له، إلا أنّها تعود، في الوقت نفسه، إلى المظاهر المتعدّدة لحاجاتنا الفطرية ومطالبنا الطبيعيّة للوجود. في هذا الإطار، تُعتبر المدنيّة والعلوم والفنون والتقنيات وغيرها من أهم النماذج التي عرفها الإنسان للوصول إلى المصادر الواهبة للوجود، والهروب من العوامل المانعة له. فهو يحاول الحصول على العيش الرغيد والراحة الأبدية عبر تسخير أسباب العلم، وتوظيف التقنيّات واستثمار الحياة الاجتماعية، والاعتماد على الحضارة والمدنيّة، إلا أنّ تلك النماذج بحدّ ذاتها تبقى رهينة المعرفة التي حصل عليها في الوقت الحاضر من خلال المصادر الواهبة للوجود، ومن العوامل التي تحول بينه وبين الوجود، فضلاً عن الطرق والأساليب الخاصة بتوسيع دائرة الوجود الخالد والأبدي. ولا شكّ في أنّ كلّ واحد منّا بحاجة إلى التربية والتعليم للوصول إلى مثل تلك المعرفة وذلك لتنوّع سُبُل الهروب من الفناء التي ما زلنا نجهل الكثير منها، والتقدّم نحو الوجود، على الرغم من كون الخوف من الفناء واللّجوء إلى الوجود يدخلان ضمن مدركاتنا الشهودية. وتندرج سلسلة معارفنا حول المصادر الواهبة للوجود والعوامل المانعة له، إضافة إلى سُبُل توسيع نطاق الوجود الخالد، تندرج ضمن منظومة من العلوم والتقنيّات التي تنتقل من جيل إلى آخر. ويبقى الهدف الرئيسي من ظهور العلم والتقنيات هو اكتشاف الموارد الطبيعية واستغلال طاقات الطبيعة، والسيطرة عليها وتحويلها، وإعادة خزن مصادرها، وإعادة استغلالها وتحويلها واستهلاكها بالشكل الذي يضمن حصول الإنسان على العيش الرغيد والحياة الهانئة. ويُعدّ تشكيل المجتمع ونشوؤه وقيام الحياة المدنيّة كذلك سبباً للتواصل من أجل بلوغ الراحة المنشودة والطمأنينة الدائمة. - جوهر العمليّة التربويّة: بالنظر إلى حياته المؤقّتة، يحاول الإنسان استغلال عملية التكاثر والتناسل بهدف توسيع دائرة حياته واستمرارها، من خلال الفرد أو الأفراد الآخرين الذين يشبهونه، أو قد يكونون أفضل منه. فالرغبة في امتلاك الأبناء، وغريزة استمرار الحياة في إطار هذه الحياة الأسرية، هما مسألة عامّة وذاتية عند أفراد البشر حيث تتبلور داخل كل واحد منهم بشكل شهودي، فيسعى إلى تحقيق هذه الرغبة ويبذل كلّ ما في وسعه من أجلها. ولا تقتصر عملية التكاثر على الاتّصال الجنسي بين أفراد الجنس البشري بل تشمل كذلك العملية التربوية للأجيال، ولهذا يتمّ تشكيل الأسرة وإيجاد المجتمعات من أجل التكاثر واستمرار الحياة الإنسانية. وبإمكان المجتمع أن يكون مفيداً من خلال التعامل للحفاظ على حياة أفراده، وضمان استمرارية حياتهم وبقائها عبر الأجيال القادمة. فالمجتمع الذي يتألّف من عدد من الأُسَر يعمل على طرح أنظمة خاصّة لإيجاد الأجيال الجديدة والمحافظة عليها، ووضع الآليّات المتعلّقة بالأنظمة التي تصون كلّ تلك الإنجازات، وبالتالي فإنّ المجتمع سواء على المقياس الجزئي (ونعني بذلك الأسرة) أم على المقياس الكلي، يسعى عبر إقامة نظام التربية والتعليم إلى إنتاج أفراد شبيهين بوالديهم أو ربّما أحسن منهما، مانحاً بذلك إيّاهم الخلود. ومن هنا تتّضح لنا أهميّة عمليّة التربية والتعليم وضرورتها وذلك من خلال أمرين اثنين، هما: أ- ضرورة التربية والتعليم لجهة الكشف عن المصادر التي تمنحنا الوجود، واستخدام الأساليب الخاصة المؤدّية إلى تلك المصادر، إضافة إلى تحديد العوامل المانعة للوجود، واتّباع الطرق والحلول الكفيلة بتجنّبها، إلى جانب معرفة واستغلال الأنماط والتقنيّات التي تعمل على توسيع دائرة الوجود لحياتنا الإنسانية. ب- ضرورة عملية التربية والتعليم وأهميتها في إيجاد ونشر النماذج التي تضمن بقاء صور مستنسخة عن الأفراد داخل المجتمع، وإدامة حياتهم، وبالتالي جعل استمرار الحياة الإنسانية أمراً ممكناً. وفي الواقع، إنّ العملية التربوية تمثّل جزءاً من دورة الخلق، فهي التي توفّر أسباب وعوامل استمرارية الحياة الإنسانية، وهذا الأمر بالذات – أي ضرورة التربية والتعليم من أجل الوصول إلى الوجود المتعالي والخالد – هو الذي يرفع من شأن العمليّة التربوية ومنزلتها إلى حدّ بناء المجتمع. ولا تُعتبر هذه العملية مجرّد واحدة من العمليات الحياتية الاجتماعية وحسب، بل إنّ النظام التربوي يُعدّ واحداً من عدة مؤسّسات اجتماعية، وهو يوازي في أهميته المؤسّسات السياسية والاقتصادية والحقوقية وغيرها. فالعملية التربوية تمثل أساس تشكيل الأسرة وأحد مبادئ تأسيس المجتمع؛ من هنا فهي تلعب دوراً مهمّاً ومؤثّراً للغاية على سائر المؤسّسات الاجتماعية الأخرى، إضافة إلى دوره الحاسم في الجوانب المختلفة والعمليّات المتعدّدة من الحياة الاجتماعية. ولئن حظيت التربية بأهمية كبيرة باعتبارها الرسالة الأساسية للأنبياء والمسؤوليّة الرئيسية للأديان[3]، فذاك يتطلّب بعض المستلزمات وتترتّب عليه بعض النتائج الخطيرة، وهو ما يجعل التربية تتبوّأ أعلى المراتب في الأنظمة الاجتماعية. وفي الحقيقة، هي تشكل محور الانضباط الاجتماعي وفلسفة الأحكام المدنيّة، وهذا يعني أنّها مقدَّمة على الإنضباط الاجتماعي ومبادئ التقنين ومحور البُنى والمؤسّسات الاجتماعية برمّتها. والعملية التربوية هي التي تضمن بقاء المجتمع وتحافظ على سلامته، علماً بأنّ المحافظة على المجتمع هي بمثابة مقدّمة لتحقيق الهداية. وعلى هذا، فإنّ مكانة التربية تسمو على كونها مجرّد مؤسّسة اجتماعية إنّها ليست مؤسّسة أو تيّاراً أو حدثاً اجتماعياً بل هي فلسفة تشكيل المجتمع ومحور جميع الأحداث والمُجريات الاجتماعية. وفي هذه الحالة، لا يمكن درج التربية تحت عنوان المؤسّسة السياسية أو الاقتصادية، لأنّها تلعب دوراً تتحكّم من خلاله بمصير تلك المؤسّسات، وتحدّد ملامحها. ولا شك في أنّ هذه المكانة الاجتماعية التي تحتلها التربية وهذا التصور الرائع عن الدور الاجتماعي الذي تمارسه، يرفع من شأنها لتصبح المحور الأساسي لإنشاء وتوسّع المجتمعات، والهدف المصيري للنظم الاجتماعي، بطبيعة الحال، إنّ جذور كلّ ذلك تمتدّ في طبيعة الإنسان ورغبته في البقاء والاستمرار. هذا ولا يمكن الحفاظ على الوجود الشخصي وتطويره إلا من خلال بقاء النوع الذي يتطلب التكاثر وتشكيل الأسرة وتكوين المجتمع، لأنّ الهدف الرئيس من تأسيس المجتمع هو بقاء الجنس البشري، ولا يتسنّى ذلك إلا في ظل عمليّة التربية. إذن، تحقيق التربية يحتلّ الأولوية بالنسبة إلى النظام الاجتماعي. والغاية الرئيسية من تشكيل المؤسّسات المتعدّدة في المجتمع كالمؤسسة السياسية والاقتصادية والقوانين والحقوق، بل وحتى العلوم والتقنيّات، هو تحقيق العملية التربوية التي عليها المُعوّل في تحديد وجهة كل واحدة من تلك المؤسّسات. بناءً على ذلك، يعرّف القرآن الكريم الهداية على أنّها قاعدة تشكيل المجتمع وإصلاحه. فمن جهة نراه يعزو هبوط الإنسان على الأرض والحياة الهادئة والسعيدة إلى مبدأ الهداية بقوله تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة/ 38)، ومن جهة ثانية يربط بين مسألة فساد المجتمعات وصلاحها وبين مقدار الاهتمام بالمراكز التربوية والنظام الإرشادي قائلاً: (.. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا...) (الحج/ 40)، ومن جهة ثالثة يعتبر أنّ القيمة النهائية لتشكيل المدينة الفاضلة (Virtuous City) تكمن في بلوغ الهداية وإقامة أسس التوحيد. ومن هنا يتّضح لنا أنّ التربية ليست حقيقة اجتماعية بل هي أساس الأنظمة الاجتماعية بأسرها. باختصار، واستناداً إلى الحكمة المتعالية التي تتمحور حول أصالة الوجود في جميع الموجودات بما فيها الإنسان، فإنّ جميع مساعي الإنسان وجهوده ضمن نظام الوجود الواحد تدخل في منظومة الحركة الاستعلائية من أجل تشديد الوجود؛ أي، بشكل عامّ تكون حركاته وجهوده منصبّة دائماً للهروب من العوامل المانعة للوجود، والحصول على المصادر المانحة للوجود، إضافة إلى التعالي على مراتب الوجود القابلة للفناء والوصول إلى مراتبه الخالدة. وعلى هذا، فإنّ تشكيل الأسرة، وإقامة دعائم المجتمع، وإيجاد الحياة المدنية، فضلاً عن تأسيس وتوسيع دائرة العلوم والفنون والتقنيّات، وبالتالي إنتاج المصنوعات، كلّ ذلك يصبّ في بوتقة الحصول على المصادر المانحة للوجود، وتجنّب عوامل الفناء للإنسان. وفي هذا الإطار تُعتبر التربية والتعليم كذلك محاولة في إطار الابتعاد قدر الإمكان عن العدم والفناء وتوسيع نطاق الوجود، حتى الوصول إلى الوجود الخالد الأبدي. وبهذا تبرز أهميتها وضرورتهما من ضرورة ووجوب الوجود، بمعنى أنّ وجوب التربية بالنسبة إلينا ناتج من وجودنا الخاص. فلأنّنا موجودون ونمتلك وجوداً خاصّاً، فنحن بحاجة إلى التربية والتعليم، وذلك لأنّهما يلعبان دوراً فريداً ومتميّزاً في توسيع الذخائر العلمية للإنسان في ما يتعلّق بالمصادر المانحة للوجود والعوامل المسالبة له. إضافة إلى ذلك، فإنّه يتمّ نقل تلك الذخائر التي تضمّ العلوم والمعارف إلى الأفراد الجُدد والأجيال القادمة ممّا يساعد على تكاثرنا وإنتاج أشباه لنا في هذا العالم، ومن هذا المنطلق تشكّل عملية التربية والتعليم مسألة ضرورية للغاية. وعلى الرغم من أنّ النزوع إلى توسيع دائرة الوجود والهروب من العدم موجود لدى جميع أفراد البشر بشكل متساوٍ، وأنّ التربية والتعليم عملية فريدة لتعميق وتعزيز علومنا ومعارفنا بالنسبة إلى العوامل المانحة للوجود وتلك السالبة له، إلا أنّه لا يوجد تعريف موحّد وثابت لها. وبما أنّ كلّاً منّا يتعاطى مع الوجود بنحوٍ مختلف، ونلحظ مظهراً من مظاهر الوجود بوصفه تامّاً بذاته، لذلك كلّه، فقد تعدّدت مطالبنا وتباينت. من هذه الزاوية نقدّم قائمة خاصّة بمصادر الوجود وموانعه، ليصبح ذلك في ما بعد أساس تعريفنا للتربية والتعليم. والحقيقة، أنّنا بعد ولادتنا نصادف الكثير من الموجودات التي يمثّل كلّ واحد منها درجة معيّنة من المظاهر المختلفة للوجود، ثمّ نتوصّل بعدها إلى إدراك تلك المظاهر عبر مدركاتنا الانتزاعيّة، وسرعان ما نتوق إلى تلك المظاهر، وننشدها لنقوم بعدها بالبحث عن طرق لتوسيع وجودنا على أساس المظاهر، المذكورة. ولهذا، يكون تعريف التربية والتعليم مصطبغاً بصبغة علم وجودية (أنطولوجيّة)، ما يضطرّنا إلى تحديد ماهيّتهما وطبيعتهما وفقاً لعلم الوجود الإسلامي. والواضح إنّ جميع الموجودات في العالم – استناداً إلى النظرة الإسلامية – وكلّ ما موجود منها في السماوات والأرض ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة تؤلّف ذات الحقيقة وكلّ الحقيقة، وما العالم وكلّ ما يشتمل عليه سوى رموز وآيات متنوّعة ومظاهر متعدّدة لتلك الحقيقة الواحدة، وهي جميعاً لا تعني شيئاً خارج الإطار المذكور. إذاً فكلّ ما موجود له ظاهر يُستدَلّ به على الباطن، وهذا الباطن هو عالم لا يرمز سوى إلى التوحيد. وبصورة عامّة، تندرج التعاريف تحت عنوان الغاية الخاصّة أو المبدأ الخاص؛ بمعنى أنّ تعريف ماهية أي شيء يستند إلى مبدأ وغاية ذلك الشيء، بل ولا يمكن تعريف أيّة حادثة أو واقعة إلا من خلال علل وأسباب حدوثها ووقوعها، أو عبر وصفها وشرحها وفقاً لغايتها ومنتهاها. أمّا التعريفات المطروحة حول التربية والتعليم فعادة ما تكون مستندة إلى مقاصد العملية التربوية وأهدافها. وطبقاً للرؤية الإسلامية فإنّ تعريف التربية والتعليم يتّسم بخصوصية معيّنة تتمثّل في كون ذلك التعريف لا يخرج عن إطار الحقيقة الواحدة سواء أكان مستنداً إلى الغاية أم إلى المبدأ. فبداية التربية والتعليم هي حقيقة واحدة تنبجس منها جميع المخلوقات، وأمّا هدفها وشعارها فهو معرفة تلك الحقيقة الواحدة وبيان تفاصيلها. فهذه العملية تبدأ من التوحيد (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق/ 4-5)، وتنتهي بقوله تعالى: (يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا) (النور/ 55). وعلى الرغم من التصوّر الساذج الشائع، فإنّ دراسة النصوص الدينية تدلّ على أنّ التوحيد يعدّ بمثابة حقيقة عالم الوجود بأكمله، وحقيقة الدين برمّته، وليس مجرّد مبدأ من مبادئ الدين أو أحد أصوله. وما الدين الإسلامي سوى بيان التوحيد وتفصيله سواء بمفهومه العام المشتمل على جميع الأديان الإبراهيمية، أم بمفهومه المصطلحيّ من حيث أنّه يضمّ مجموعة من التعاليم التي جاء بها آخر الأنبياء وخاتم المرسلين وخلفائه من بعده. ومن هنا، فإنّ التوحيد الذي يُعتبر، بحسب النظرية الإسلامية في التربية والتعليم، المبدأ والغاية لنشوء العالم وتشريع الدين، يمثّل كذلك بداية ونهاية التربية والتعليم. إنّ التوحيد الذي هو جوهر الحقيقة، وتشهد له بذلك جميع الموجودات في عالم الوجود، بدأ يدخل دائرة الإثبات بالتدريج – بعدما كان في دائرة الثبوت – مع ظهور الإنسان كموجود حرّ ومخيّر ونزّاع إلى الشك والارتياب، وأصبح (أي التوحيد) يمتلك ماهيّتيْن اثنتين: الماهية الثبوتية والماهية الإثباتية. وفي الوقت الذي لا تود فيه أيّ علاقة بين التوحيد الثبوتي والإنسان، فإنّ التوحيد الإثباتي يستند بالأساس إلى فهم الإنسان وعمله، وبينما يتناول جزء من ذلك الفهم والعمل وصف وشرح التوحيد المتحقّق في العالم، فإنّ الجزء الآخر يتعلّق بتجويز أصول الدخول إلى التوحيد وأساليبه. وبإلقاء نظرة على التوحيد من خلال ماهيته الوصفيّة والتجويزية، يمكن وصف عملية التربية والتعليم بأنّها تيّار من تيارات التوحيد الوصفي السائر باتجاه التوحيد التجويزي. الهوامش:[3]- (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 129).
المصدر: كتاب النظرية الإسلامية في التربية والتعليم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق