يقدِّم الكاتب من خلال هذا النص كيفية معالجة فلاسفة الغرب لموضوعة الإيمان، وهو قد أخذ الفيلسوفين كريكغارد وفيتغنشتاين كأمثلة من تلك البيئة الثقافية واختيار الكاتب لم يكن عشوائياً إذ أن أحدهما قد عرف بإيمانه وتأسيسه للوجودية بينما إنّ الآخر عرف بنزعتها اللادينية ومساهمته في تأسيس الوضعية المنطقية.
غالباً، لم يكن المراد بالبراهين التقليدية على وجود الله تلك الأدلة المستخدمة لاقناع الملحدين بوجود الخالق، وإنما كان ينظر إليها بصفتها جزءاً من منظومة شاملة سمّاها القديس توما الأكويني: "الإيمان الباحث عن الفهم". ومع تصاعد اعتراضات أنصار "أصالة الشواهد"، طرحت هذه البراهين كشواهد إيجابية لوجود الله يمكن الإتكاء عليها. ولمّا كان الدليل القياسي غير معتبر إلا إذا أضمرت مقدماته المعلومات الموجودة في نتائجه، فقد زعم الكثير من الفلاسفة أنّ هذه البراهين لا يصحّ أن تُعد شواهد وقرائن على وجود الله. لأن وجود الله مفترض الصحة مسبقاً في مقدمات هذه البراهين. وحتى لو فرضنا أنّ البراهين التقليدية عاجزة عن أن تمثل شواهد وافية لاقناع الملاحدة العقليين بوجود الله. حينئذ لن نعدم أدوات دفاعية لصالح المعتقدات الدينية يمكن استخدامها للردّ على اتباع أصالة الشواهد.
ومن هذه الردود التي تبوّأت موقعاً مهماً في الولايات المتحدة الأمريكية خلال السنوات الأخيرة ما أطلقه "بلانتينجا" و"آلستون". هؤلاء يجارون اتباع مدرسة الشواهد في اعتراضاتهم، ويسعون في الوقت ذاته إلى إثبات تهافت الأنماط التقليدية للنزعة المبنائية، وإلى إثبات إمكانية تسويغ الأفكار التوحيدية بمعونة تجارب دينية مألوفة تماماً في إطار مبنائية مشذّبة، أو القول إنّ هذه الأفكار عقلانية؛ لأنّه بالإمكان اعتبار المشاهدات الدينية محوراً وأساساً في المنظومات العقيدية. وكنت قد أشرنا في مناسبات سابقة إلى أنّ هذه المقاربات رغم جدارتها بالبحث والدراسة نظراً لما توفره لنا من رؤى ابستيمية قيمة، بيد أنّها عاجزة عن مناهضة اتباع أصالة الشواهد.
الردود الأخرى التي جوبهت بها أصالة الشواهد تضم استخدام شواهد ناجمة عن تجارب دينية مثيرة، وشواهد ناتجة عن معاجز، وأطروحات تسويغية للبراغماتيين والإيمانيين.
الموضوع الذي اخترناه لدراستنا الحالية نمط من النزعة الإيمانية لعلها الأشهر بين المتكلمين وفلاسفة الدين في أمريكا.
الواقع أنّ "الإيمانية" ليست على الإطلاق سعياً لمواجهة أصالة الشواهد، وإنما هي دحض لرؤية الشواهديين حيال التفكير الديني. الإيمانيون يوافقون الشواهديين في أنّ الدعاوى والأفكار الدينية لا تكون عقلانية إلا إذا اندرجت بنحوٍ ما ضمن الاطار الابستيمي للمبنائيين. ولكن في مرحلة لاحقة، وبدل التدليل على محوريّة الدعاوى الدينية، أو كونها مسوّغة استناداً إلى دعاوى تجريبية أخرى، أو أنها ثابتة بصورة ما تقدم، يذعن الإيمانيون صرفاً بأنّ الدعاوى التوحيدية ليست عقلانية. نعلم أنّ المبنائيين الكلاسيكيين من قبيل: جون لوك يحاولون تكريس أن كل ما ليس عقلانياً فهو مرفوض وباطل. يزعم لوك أنّ الاعتقاد بحكم غير عقلاني علامة وهن وانحطاط. هنا ينتفض الإيمانيون مؤكدين أنّ ثمة معايير أعلى من معايير العقل يجب استخدامها لتقييم الأحكام، وهي كفيلة بالافصاح عن قيمة التعاليم الدينية حتى لو تعارضت والمعايير العقلية.
هناك نمطان من النزعة الإيمانية تغلب باقي الأنماط لدى فلاسفة الدين الأمريكيين اليوم. نمط يستخلص من مؤلفات سورين كيركغارد Kierkegaared (1813-1855)، وآخر يُستمد من أفكار لودفيك فيتغنشتاين Wittgenstein (1889-1951). ولنعرض أوّلاً لأفكار الدنماركي كريكغارد وتضاعيفها.
- طروحات كيركغارد:
يرى القديس توما الأكويني أنّ للإيمان منزلة شامخة، إلا أنها دون منزلة العقل، وتعاليم الكنيسة التي لا يمكن إثبات صدقها بالعقل. يجب أن تؤخذ على أساس الإيمان تعبّداً، فهو يعتقد أن على الإنسان استخدام عقله ما أمكنه ذلك، وإذا لم يجد دليلاً عقلياً، له أن يعتمد الإيمان. بينما يذهب كريكغارد إلى خطأ ترجيح العقل على الإيمان، فهو يرى أنّ الإيمان أسمى الفضائل، وما يكّرس إنسانية الإنسان هو الإيمان دون العقل. ويتمادى في نظرته هذه إلى درجة انتقاصه من المعرفة الماورائية وإدانتها، بذريعة أنها عقبة في طريق السعي، والجهد المقترن بعدم الاطمئنان، والضروري جدّاً للتكامل الروحي.
تتشعب ردود كريكغارد على الشواهديين ومعارضتهم للبراهين التوحيدية إلى قسمين:
أوّلاً: هو ينكر إمكانية الرد عليهم بلغتهم، ومفرداتهم ومفاهيمهم. فمن وجهة نظره، لا يمكن برهنة المعتقدات الدينية بالميكانيزمات (الآليات) العقلية.
وثانياً: حتى لو أمكن ذلك، فالأفضل صيانة المعتقدات الدينية بواسطة الإيمان، وبدون الاستعانة بالعقل. وفق هذه الرؤية لا يكون الإيمان أرقى درجة من العقل وحسب، وإنما يتبدّى في مواجهة حقيقية مع العقل. يرى كريكغارد أنّ الإيمان ليس أسمى من العقل فقط، بل إنّ العقل يمنع التجلي التام للإيمان وممارسة نشاطه.
الإيمان واليقين غير متلائمين في فلسفة كريكغارد. ولمّا كان سبيل النجاة والفلاح متمثلاً بالإيمان الانفعالي المطلق، لذا ينبغي اجتناب اليقين حتى لو أمكن حصوله. فحينما تتوفر الأدلة الكافية لاتخاذ قرار حول موضوع ما، لا تعود ثمة حاجة إلى العزم والإرادة. بينما الالتزام المنفعل لا يتأتّى إلا باستخدام الإرادة؛ ولهذا بالذات يقتضي عدم كفاية الشواهد. إنّ تعريف كيركغارد للحقيقة، - والذي كثيراً ما يذكر ويتداول –، هو؛ عدم يقين آفاقي نلتصق به أثناء عملية القبض على أعنف أنواع السير الباطني وأكثرها انفعالاً وحرارة. وفي أحيان أخرى يشير كريكغارد إلى هذه النقطة بلهجة أكثر تطرفاً فيقول: "ليس الدين عدم يقين آفاقي وحسب، بل ويجب أن يكون عدم يقين لا معقولاً. عندما تتجلّى لا معقولية الدين بوضوح أكثر، يلزم الإنسان أعنف الجهود لكي يؤمن. ويربط كريكغارد بين بذل هذه الجهود السامية من قبل الإرادة للتوافر على الإيمان، وبين الانفعال، والحرارة اللامتناهية الضرورية للفلاح.
يقدم كريكغارد أدلته على الاعتقاد بأنّ الانفعال الديني يقتضي أن لا يكون معقولاً من الناحية الآفاقية، ولا مبرر له موضوعياً، ونذكر من هذه الأدلة ثلاثة: المخاطرة، والثمن، والإرادة.
يؤكد هذا الفيلسوف الدنماركي أنّه لا إيمان من دون تقبّل أخطار. وبالمستطاع إجلاء أهمية هذه الفكرة عن طريق مثال: افتراض أن حبيبتك على وشك الموت، لكنك إذا أهديتها إحدى كليتيك سيرتفع احتمال بقائها على قيد الحياة 50%؛ فإذا أهديتها كليتك برهنت بذلك على حبّك لها. ولكن لنفترض أنك حتى لو أهديتها إحدى كليتيك، فلن يزيد احتمال بقائها على قيد الحياة عن 50%، ففي هذه الحالة إذا منحتها كليتك، برهنت على درجة عالية جدّاً من حبك لها. كلما كانت أخطار النتيجة أكبر، اقتضت انفعالاً وحباً أكبر لاقحام الذات في لجج الأخطار. تدل هذه الحالة على أنّ الإنسان إذا بلغ مرتبة رفيعة جدّاً من الحب، سيكون مستعدّاً لاقتحام الأخطار المهولة. بيد أن كيركغارد لا يرى الانفعال والشوق ضرورياً لتقبّل الخطر وحسب، وإنما يرى تقبّل الأخطار بدوره ضرورياً للانفعال والعاطفة. ولا ندري بالضبط لماذا يعتقد كريكغارد بضرورة الأخطار للانفعال. ربما شعر أن أعلى درجات الانفعال الحقيقي، لا تكون واقعية إلا إذا تجلّت، وتجلي أعظم الانفعالات والعواطف يستلزم تقبل أعظم الأخطار.
- الدليل الثاني على لامعقولية العاطفة الدينية، هو دفع أثمان باهظة لأشياء تبدو بسيطة جدّاً، أو قل التضحية أو الصبر على الألم والعذاب. فالتحمّس للصبر على ألم أعتى، دليل عاطفة، وانفعال أشد. وهنا أيضاً يبدو كريكغارد منشدّاً إلى فكرة أنّ العاطفة والانفعال إذا كان واقعيين، فلابدّ أن يتمظهرا في الصبر على آلام أشد. فالألم الذي يحتمله الإنسان في سيره وسلوكه الديني يتضاعف عندما تكون غايات هذا السلوك غير محتملة، أو قل إنها غير معقولة. يُسْتَشَفّ من هذا أن فيلسوفنا الوجودي، نظر بمنتهى الجدية لفكرة أن كل ما يستحصل بثمن بخس، لابدّ أن تكون قيمته ضئيلة. ويستنتج من هذا؛ بما أنّ الدين يتطلب أعظم احترام وتبجيل لذا ينبغي اكتسابه بأبهظ الأثمان وأضخمها. وهو يكتب قائلاً: "الفتاة الشابّة التي يأسرها الحب حقاً، لا يخطر ببالها أنها أصابت سعادتها بثمن باهظ، وإنما تفكّر أنها لم تصبها بالثمن الكافي".
النتيجة المنطقية لهذا الأسلوب من التفكير هو الرياضة المفرطة. كلما تحمّل المرء آلاماً أعسر في حياته الدينية، يكون قد أفصح عن كمّ أوفر من انفعالاته وعواطفه. وإذا ازداد احتمال أن لا يتقبل الله هذا السلوك إزداد الخطر وتضاعف الانفعال.
يرفض كريكغارد حياة الرهبنة بكل صراحة. والظاهر أن سبب رفضه هو شعوره أنّ الانهماك في الطقوس والشعائر يبعد المخلوق عن الخالق. ومع ذلك لا نجد في تصورات كريكغارد الدينية ما يدين الرياضة الجزافية. بل هي مباركة في نسقه الفكري باعتبارها مظهراً للانفعال، والحرارة الدينية.
- أما الدليل الثالث: فهو الإرادة، والتي يرسم لها وظيفتين:
- الأولى: على الإنسان الذي يرى سعادته الأبدية خيره الأعلى، أن يستخدم إرادته لتخفيف حدّة الملذات الدنيوية إلى الحد الذي يستطيع معه غض النظر عنها من أجل سعادته الأبدية. بعبارة أخرى؛ على الإنسان أن يستعدّ للتضحية والإيثار.
- أما الوظيفة الثانية والأهم للإرادة: فهي أن معتقدات الإنسان وقناعاته يجب أن تكون ممارسات إرادية بحد ذاتها.
من المبررات التي جعلت كريكغارد يعتبر اللامعقولية (أو اللايقينية الآفاقية على الأقل) ضرورية للاعتقاد الديني، هو أنّه لو توفرت شواهد كافية لصالح معتقد ديني فسيعتقد به الإنسان تلقائياً. ولن يحتاج إلى استعمال الإرادة. فالإرادة لا تستخدم إلا للانتصار على ميل طبيعي من أجل الإيمان لا توجد لصالحه إلا شواهد قليلة جدّاً.
إنّ الانشداد العاطفي إلى العقيدة لا يحصل إلا بالعزم والإرادة. فإذا تكوّن الاعتقاد بصورة طبيعية، لن يتسنى الإيمان به بانفعال وحرارة عاطفية، أو أن رؤية كريكغارد تبدو هكذا على أقل تقدير.
يتبع...
المصدر: مجلة المحجّة/ العدد الخامس لسنة 2002م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق