• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب

الحضارة والأخلاق ودورنا المطلوب

شهد العالم خلال القرون الثلاثة الأخيرة، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، تقدماً حضارياً كبيراً شمل جميع مرافق الحياة، ورقياً فكرياً مذهلاً استطاع به الإنسان أن يسبر أعماق البحار، ويضع قدمه على جبين الأقمار وتغيرت، تبعاً لذلك، أوضاع المجتمعات ونظم الحياة، بعضها بحكم القوانين التي شرعت لتجعلهما ملائمة للتطورات الحضارية الجديدة، وبعضها بتأثير المخترعات والاكتشافات التي ظهرت واستلزمت من الإنسان أن يتكيف معها، ويتخذ من الترتيبات ما يناسبها، بما في ذلك مسكنه ومأكله وملبسه وتربية أبنائه وعلاقته بأهله وسلوكه إزاء محيطه، وحتى حيال المجتمعات البعيدة عنه، مما يجعل أسلوب معيشته يختلف كثيراً عن أسلوب معيشة آبائه الأولين.
وليس من شك في أنّ الإنسانية استفادت كثيراً من الخطوات الإيجابية التي تحققت في الميدان الحضاري، وهي خطوات عملاقة، وأنّ كثيراً من العقبات ذللت أمام مسيرها فأصبحت الحياة أكثر يسراً ومتعها متوافرة والرغبة في البقاء فيها تزداد، ومن نافلة القول أن يشير الإنسان إلى الفوارق بين راكبي الدواب في الأسفار قديماً، وبين راكبي الطائرات التي تسبق الصوت حديثاً، أو بين المستشفى بالكيِّ والحجامة وتعليق الرقى والتمائم، وبين المعالج بأشعة الليزر وزرع الأعضاء وبالونات الأوكسجين، أو بين المستصبح بفتيل القنديل وبين المستضيء بالنور المتولد من الكهرباء أو المقتبس من طاقة الشمس، إنّها قدرات العقل البشري ومكاسبه، وفتوحات العلم المتوالية المتلاحقة التي تؤكد ما خصّ الله به الجنس البشري من تفضيل وتكريم وسخّر له من الكائنات ناطقها والساكت، متحركها والجامد: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/70).
إنّ الحضارة المعاصرة ـ وإن كانت ذات طابع متميز يكاد يجعلها منقطعة الجذور ـ ليست إلا امتداداً لحضارات سبقتها، استقت من روافدها وعالجتها بمخصبات لم تعرف من قبل حتى أينعت وأثمرت وأصبحت سامقة الفروع وريفة الظلال، إذ ما زال الخف يستمد من السلف معارفه ويحسنها بالصقل والتصحيح، وما فتئ الآخر يستفيد من تجارب الأول ويضيف إليها ما استجد من التجارب وأفاد من الممارسات، وليس أحد بقادر على أن ينكر ما بلغته أمم قديمة من معارف وتجارب كانت هي حجر الأساس للمعارف العصرية والتجارب الآنية، كقدماء المصريين واليونان والرومان والفرس والصينيين، وعندما يقرأ المرء كتب التاريخ وهي تصف مظاهر الحياة الراقية التي عاشتها بعض الشعوب منذ آلاف السنين، أو يقف في المتاحف أمام الآثار العجيبة والصناعات الدقيقة الراجعة إلى عصور قديمة سحيقة ليدركه العجب مما اهتدى إليه الأقدمون من أسرار الطبيعة واكتشفوا من خفايا الكون ونواميسه ويقول إنّ المتأخرين ليسوا إلا تلامذة للمتقدمين، ولكن الحضارات تُصاب ـ ككل الكائنات ـ بالقبض بعد البسط، ويخلف بعضها بعضاً، فيترك الهَرِمُ المعمّر منها مكانه للناشئ الفتي، والحضارة الإسلامية هي واحدة من الحضارات السالفة التي استفادت منها الحضارة الحديثة واستمدت، لقد كانت تلك الحضارة مِلء الأسماع والأبصار طيلة قرون، وفي مملكة الإسلام الفسيحة الممتدة من أرض الصين شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، وبفضلها حفظت علوم الأقدمين وتجاربهم وأضيفت إليها معارف المسلمين وتجاربهم قبل أن تنقل إلى البلاد الغربية لتصير المنطلق الذي خطت منه الحضارة الحديثة خطواتها المتواصلة، ويرجع الفضل في شموخ بنيان الحضارة الإسلامية إلى الدين الإسلامي نفسه الذي فكّ العقل من عقال الجمود، وأمر معتنقيه بالتفقه والتعلم، وحثهم على السير في الأرض والتأمل في ملكوتها وملكوت السماوات، وأهاب بهم إلى النظر فيما حولهم وفوقهم وتحتهم ليدركوا نواميس الكون وسنن الله في الخلق، وفضل العالم على العابد، ورفع الذين أوتوا العلم درجات على الذين لم يؤتوه، وحضّ على التماس المعرفة ولو تناءت مواطن التماسها وأمكنة طلبها، فبفضل سماحة الإسلام وتعاليمه التقدمية تمكن المسلمون، لا من بسط حكمهم على أوسع مملكة فقط، ولكن تمكنوا أيضاً من أن ينشئوا فيها مجتمعات متحضرة يزينها العدل والرفق، ويدعمها العلم والمعرفة وحسن التنظيم، ونشطت بفضل الإسلام في هذه المجتمعات الحركة العلمية، وأقبل العلماء على دراسة مختلف العلوم والفنون، إضافة إلى العلوم الدينية واللغوية، فما من باب من أبواب العلم إلا طرقوه، وما من درب من دروب الفن إلا سلكوه، وآثارهم في الهندسة والفلك، والطب والصيدلة، والجغرافية والموسيقى، والفلسفة والمنطق وغيرها، تشهد بذلك، كما أنّ حواضرهم بما اشتملت عليه من قصور فخمة، وحدائق أنيقة، ومساجد مزخرفة، ومدارس منمقة، ومستشفيات متطورة، وأسواق نافقة، ومهن مرتبة، ومراكب تغدو بالبضائع والمسافرين وتروح، كانت الشموس المضيئة والأقمار المنيرة في عصر ألقى الظلام بسجفه على غيرها من البلاد التي لا يدين أهلها بدين الإسلام. وهل يجهل أحد عظمة ما بلغته من حضارة رفيعة دمشق وبغداد، وبخارى واصفهان، والقاهرة وتونس والقيروان، وبجاية وتلمسان، وفاس ومراكش وقرطبة وإشبيلية؟ وهل يجحد جاحد فتوح العلم وكشوف المعرفة التي تحققت على أيدي العلماء المسلمين كابن سينا والبيروني والفارابي وابن الهيثم وابن النفيس في شرق البلاد الإسلامية، وابن الجزار وابن البنا وابن طفيل وابن رشد وبني زهر في غربها؟ كلا لا يستطيع.
ومما امتازت به الحضارة الإسلامية طابعها الإنساني والأخلاقي، لقد كان يواكب مظاهرها المادية ـ المتمثلة في الرقي العمراني والإبداع الفني والتقدم العلمي ـ مظاهر أخرى تتمثل في التحلي بمحامد الأخلاق ومكارم الشيم التي وصّى الله بها عباده المؤمنين، وحث رسوله الكريم على الاتصاف بها من دخل في دينه من المسلمين، كاحترام كرامة الإنسان وتمتيعه بحقوقه، والحكم بالعدل، والتشاور في المصالح العمومية، ورفق القوي بالضعيف، ورد الغني من ماله على الفقير، وسؤال الراعي عن رعيته، وتحريم أكل الأموال بالباطل والإدلاء بها إلى الحكام، إنّ الإسلام أمر بالعدل والإحسان وأداء الأمانة، والجنوح إلى السلم وإفشاء السلام، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، نهى حتى عن قهر اليتيم ونهر السائل وتعذيب الحيوان، ألم يخبر الرسول أنّ إمرأة دخلت الجنة في قطة وأخرى دخلت النار فيها؟ ألم يقل إنّ في كل ذي كبد حرّى صدقة؟ ألم يجعل إماطة الأدنى عن الطريق من شعب الإيمان؟
إنّ الحضارة الإسلامية تهدف إلى إسعاد الناس مادياً ومعنوياً، وإلى توفير الراحة البدنية لهم بنشر العلم وتنظيم العمارة وترقية الصناعة وتحسين الفلاحة لتأمين الغذاء اللازم لمعيشتهم، كما تهدف إلى توفير الطمأنينة النفسية لهم ولمن يساكنهم، ولو كانوا على غير ملتهم، بصيانة كرامتهم وضمان حقوقهم، وتجنيبهم كل ضيم أو ضرر يلحق دماءهم وأموالهم وأعراضهم من أيٍّ كان، وإنا لَواجدون في الآثار المختلفة عن المسلمين أيام كانت حضارتهم الحضارة السائدة شواهد تدل على سمو تفكيرهم في الكائنات وبذلهم المال والمتاع لحفظها ابتغاء مرضاة الله، إنّ في المغرب ـ مثلاً ـ أوقافاً حبسها المحسنون لتجهيز اليتيمة والفقيرة إلى بيت بعلها كما تجهزُ ذات الأهل والمال، وأخرى لشراء الأواني التي قد تنكسرُ في الطريق بين أيدي الأطفال المتعلمين وهم ينقلون فيها أطعمة إلى معلميهم الصناع من البيوت، بل إنّ عندنا في المغرب أوقافاً يصرف ريعها على الطيور لجبر سيقانها وأجنحتها إذا انكسرت، وأخرى لإسماع الحمقى والمجانين نغمات الموسيقى الراقية مرة في كل أسبوع تهدئة لأعصابهم وتسكيناً لهياجهم، ومثل هذا ـ ولا شك ـ في سائر البلاد الإسلامية كثير.
بيد أنّ هذه الحضارة التي وفرت للمجتمعات الإسلامية طيلة قرون تقدماً مادياً وسمواً أخلاقياً، أصابها ما أصاب الحضارات التي سبقتها من تدهور، بفعل استبداد الحكام وجورهم، وتحجر أفكار بعض العلماء والفقهاء ومداهنتهم للولاة وسوء فهمهم وتأويلهم لأحكام الشريعة ومقاصدها، مما جرّأ عليهم عدوهم وأطمعه في امتلاك أوطانهم واستعباد رقابهم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد/11).

- الإيجاب والسلب في الحضارة السائدة:
يجد المسلمون اليوم أنفسهم أمام حضارة حديثة وطيدة الأركان شامخة البنيان تطرح أمامهم تحديات عليهم أن يواجهوها ثم يرفعوها، وهي الحضارة السائدة في العالم، المتغلبة على ما عداها من الحضارات، وليس لأحد مهرب منها بسبب تقارب الأبعاد وسهولة الاتصالات وتلاقح الثقافات، بل يرغب كل ذي لب في أن يحياها ويستمتع بها ويسهم في تطويرها وتوسيع آفاقها بحظ من الحظوظ، وتبذل الحكومات والشعوب التي خلعت نير الاستعمار، السائرة في طريق النمو جهداً وتنفق مالاً للاستفادة منها في أوطانها والحذو حذو صانعيها فيما يخططون لبلدانهم ويحققون، وتأخذهم غيرة مشروعة عندما يرون الأمم الراقية وقد أمسكت بناصية المعرفة وطوعت التكنولوجيا لصنع مخترعات جديدة أو تحسين ما سبق صنعه منها كبيراً كان أو صغيراً، من إبرة الخياطة وعود الثقاب إلى الحواسيب الدقيقة والصواريخ العابرة للقارات والأقمار الاصطناعية ولكن الشعوب الإسلامية ـ وسائر شعوب العالم الثالث ـ تعوقها عن تحقق مطامحها في التقدم العلمي والرقي الحضاري معوقات كثيرة، بعضها موروث عن الماضي، وبعضها من مخلفات الحكم الاستعماري الراحل أو من السياسات المقررة من القوى الكبرى في حقها، كانتشار الأمية وقلة المال وضعف الإنفاق على البحث العلمي وإغلاق باب الاجتهاد والفوضى الفكرية وانعدام الاستقرار في الميدان السياسي، وما من أحد بقادر على أن يقلل من أهمية الخطوات التي خطتها شعوب إسلامية في مجال التعلم والتمدن والتصنيع، ولكن ما من أحد بقادر أيضاً على أن ينكر ما لهذه الشعوب لو نعمت بالاستقرار السياسي وتمتعت بحكم عادل يعبر عن إرادتها، ورشدت أموالها وثرواتها الطبيعية، وأنفقت بسخاء على البحث العلمي في الجامعات والمصانع، وتجاوزت مخلفات الماضي التي لم تبق صالحة للحاضر لضاقت مسافة الخلف المنفرجة بينها وبين الشعوب المتقدمة، ولأدركت ما تطمح إليه وتبتغيه.
على أنّ هناك جوانب سلبية في الحضارة الحديثة تقترن بجوانبها الإيجابية ويصعب التفريق بينها إن لم يكن التفريق مستحيلاً، لأنّها كل لا يتجزأ، ولأنّ بعضها نتيجة حتمية لبعض، وهذا ما يجعل الشعوب الإسلامية أو النخبة المفكرة فيها تقف من الحضارة الحديثة موقف المتردد المحتار، لا تدري كيف تأخذ الصالح منها وحده وتترك الفاسد، الحضارة الحديثة بمعناها الشمولي فيها أفكار مادية وممارسات منحرفة تتنافى مع ما جاء به الإسلام من حميد الشيم وكريم الأخلاق، بل تتنافى مع جميع ما دعا إليه المصلحون قديماً وحديثاً من صفاء الروح وطهارة الجسد وحسن التعامل بين الناس وأن يحب المرء لغيره ما يحب لنفسه، هي حضارة مادية متنكرة للأديان مستخفة بالقيم الخلقية التي لا تستقيم بدونها مجتمعات، صانعوها لا يفكرون إلا في المكاسب المادية والمتع البدنية ولو أضرت بالآخرين، يستوي في ذلك أفرادهم وجماعاتهم والحكومات، إنّها تمتاز بحسنات كثيرة وسيئات عديدة، تمتاز بتطور الفكر وتقدم العلم اللذين نتج عنهما تحسن في المأكل والملبس وتطور العمران، وخفت بهما حدة الأوبئة والأمراض وسهلت المواصلات وانتشرت الثقافات، وحقق إنسان العصر الحديث ما لم يحققه إنسان العصر القديم من غوص في الماء وطيران في الفضاء وتصرف في الاليكترون والكهرباء وتسخير للمادة وتطويعها كيف يشاء، وبهما وبما واكبهما من تخل عن العقائد السليمة فسدت أخلاق الناس وتحركت نوازعهم الشيطانية وغرائزهم البهيمية، فجروا وراء الملذات وتسابقوا إلى جمع الأموال وكنز الثروات، وتفننوا في صنع آلات التدمير الكامل والإهلاك الشامل، ونظروا إلى الخلق بمنظارين وكالوهم بمكيالين، الحضارة الحديثة يهددها اليوم، بسبب تكرها للدين ونبذها للقيم، العديد من الأخطار وتتعرض لكثير من المحاذير، كانتشار المخدرات وتفشي الدعارة وترويج أفلام الفسق والعنف وظهور أمراض مستجدة كالإيدز، الذي يقدر الإحصائيون عدد مرضاه في نهاية القرن العشرين بأربعين مليوناً. يهددها التلوث البيئي والتمييز العنصري وغش الأقوياء للضعفاء وتعريضهم لأخطار محققة ببيع الأغذية والأدوية الفاسدة لهم، ودفن النفايات المشعة المضرة بأرضهم، وحظر تصدير التكنولوجيا والآلات المتطورة إليهم، وحرمان طلبتهم من تلقي العلم في كلياتهم ومعاهدهم، وإيصاد أبواب بلدانهم في وجوههم، والتضييق على مَن سبقت لهم الإقامة فيها بمختلف أنواع التضييق، تهددها اللامساواة في التعامل على الساحة الدولية، فدولة يباح لها أن تقيم المصانع لإنتاج السلاح النووي والجرثومي دون أن تخضع مصانعها لأية رقابة، ودولة تقام من حولها الضجات لأنّها أنشأت مصنعاً لإنتاج المواد الصيدلية أو مساحيق التجميل، هبات مالية كبرى تعطى لدولة واحدة صغيرة ويعطى أقل منها لشعوب أخرى مجتمعة أكثر سكاناً وأشد احتياجاً، وشرعية دولية تطبق بقوة الحديد والنار على شعب، وشرعية دولية تقرر في حق شعب آخر ثم يتناساها مقرروها غداة تقريرها، ومناحات تقام في كل مكان حزناً على طائر تلوث جناحه بنفط سفينة جنحت للشاطئ وأصوات خافتة تستنكر ـ نفاقاً ـ كسر سواعد أطفال بالحجارة وقتل صبيان واغتصاب نساء وذبح رجال وتهجير شعب بأكمله من دياره، انّه الظلم المؤدي إلى خراب العمران المشار إليه في الآية الكريمة: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف/59)، والترف الطاغي المفضي إلى تدمير الحضارة المعبر عنه بقوله سبحانه وتعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء/16).
ما كان للجوانب السيئة من الحضارة الحديثة أن تزهدنا فيها أو تصرفنا عنها، إنّ فيها محاسن شتى ضرورية ولا غنى عنها، وقد أخذنا منها بنصيب، وقطعنا فيها مراحل وأشواطاً. ولابد من مواصلة السير فيها واكتساب القوة من خلال التحكم فيها، إذ لا حياة اليوم ـ مثل الأمس ـ لقاعدة في ركن بيته أو ضعيف، علينا أن نعي كل الوعي جميع الأسباب والوسائل التي أدرك بها صانعو الحضارة الحديثة ما أدركوا من قوة ورخاء وسيطرة على الطاقات وتسخير للكائنات، فنعمل بها ما عملوا، ونحقق بها مثل الذي حققوا أو فوق الذي حققوا، ونضفي على الحضارة الحديثة ـ على الأقل في بلادنا الإسلامية ـ طابعاً إسلامياً لتصير حضارة فضلى تزدان بالحق والعدل، وتتحلى بالرفق والمساواة وكل خلق كريم فيستفيد من خيراتها جميع البشر دون تمييز، لا فرق بين الناس من أجل اللون أو اللغة أو الدين، وفي طليعة ما يسهل علينا اختصار المسافات لنلحق بسرعة الركب الحضاري المنطلق، العمل لتوطيد الاستقرار السياسي والتخلي عن العنف الديني والطائفي لاستكمال التحرر السياسي والاقتصادي لبلادنا الإسلامية، والتمسك بالثوابت الإسلامية والنظر من ضوئها في قضايا العصر ومشاكله المستجدة لإيجاد الحلول لها دون التقيد بالآراء والاجتهادات التي حلّ بها المتقدمون قضايا عصرهم ومشاكله، فإذا نحن فعلنا ذلك بتعقل وسماحة نفس، وأخذنا بالوسائل الحديثة انفتحت أمامنا أبواب الرقي، ووضحت السبل لتطوير الحضارة الحديثة من حضارة مادية طاغية إلى حضارة إسلامية وسط، تضمن راحة البدن والروح، وتكفل لشطر غير ضئيل من المجموعة البشرية الهناء والاستقرار، وتحقق فينا ولنا الوعد الذي وعد به الله سبحانه وتعالى المؤمنين الصالحين من عباده: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا) (النّور/55).

ارسال التعليق

Top