1- يحدد المجتمع المدى الأخلاقي والحضاري الذي تتحرك فيه طموحات الفرد وتطلعاته، وذلك من خلال تقديم النماذج التفسيرية للمبادئ والقيم التي يؤمن بها المجتمع، ونحن نعرف أن أكثر من (90%) من القيم الاجتماعية متفق عليها بين كلّ الشعوب والأمم، لكن الذي يشكل الفارق بينها هو المكان الذي تحتله القيمة في السُّلّم القيمي، وأيضاً تجسيداتها التطبيقية في الحياة العملية، ولنشرح هذه النقطة بالمثال التالي: بر الوالدين ورعايتهما قيمة عالمية وتطبيقاتها لدى الشعوب تتباين تبايناً كبيراً، وهي في العالم الإسلامي حاضرة بقوة وبصورة مشرِّفة، أما في الغرب فإنّها في حالة مخجلة!.
في مجتمع ما يقوم أبر الناس بوالده بالآتي:
· يقف أمامه بأدب جم.
· يصغي إليه باهتمام، ويسارع إلى تنفيذ ما يطلبه منه.
· لا يرفع صوته أمامه.
· حين يتسلم مرتبه آخر الشهر يضعه بين يديه ليأخذ منه ما شاء.
· يدعو له كثيراً في الصلاة وغيرها.
· لا يكثر من الكلام في مجلسه.
· يزوره يومياً قبل الذهاب إلى عمله.
وأمور أخرى من هذا القبيل... إن سلوك هذا الولد البار يشكل السقف الذي يرسمه المجتمع في مخيلته للابن البار بأبيه، ويقوم المجتمع بطرق مختلفة بشرح ذلك للجيل الجديد، ويحفزه على الاقتداء به. في مجتمع آخر – أوربي مثلاً – يقوم أبر الناس بأبيه بالآتي:
· يتردد الابن على بيت الأب في الشهر مرة.
· إذا احتاج الأب إلى المال فإنّ الابن يقوم بإقراضه من دون فائدة.
· إذا مرض الأب، ودخل المستشفى، فإنّه يقوم بعيادته كلّ ثلاثة أيام.
· يتصل على أبيه عبر الهاتف كلّ عشرة أيام.
· يمكن أن يقضي بعض حوائج أبيه مرة في الأسبوع.
· لا يرفع صوته أمام أبيه إلا إذا غضب.
وأمور أخرى من هذا القبيل.. الناس في ذلك المجتمع ينظرون إلى سلوك هذا الشاب بعين الاحترام، ويحثّون أبناءهم على تقليده، لكن الذين يستجيبون لذلك قليلون، ويبقى السواد الأعظم من الأبناء دون ذلك المستوى، وإن كانت نظرتهم إليه هي أنّه مستوى رفيع ومحترم.
2- يحدد المجتمع السقف الحضاري لما يمكن أن يبلغه الفرد من خلال دلالته على نوعية ردود الأفعال التي عليه أن ينظمها تجاه التحديات والمشكلات التي يواجهه في حياته اليومية؛ ومع أنني أؤكد أن لكل فرد أسلوبه في التعامل مع أحداث الحياة، إلا أنّ المجتمع يحدد السمات العامة لذلك، ويقوم بتحبيذ بعض أساليب المواجهة، وتزهيد الأفراد بأساليب أخرى، وسأضرب مثالين أيضاً لتوضيح هذه المسألة: في مجتمع زراعي ينتمي إلى بلد متقدم علمياً وصناعياً قام أحد المزارعين بزراعة نوع جديد من المحاصيل التي لا يعرفها أهل بلده، وبعد شهور من بذل الجهد والمال والأمل والانتظار تبين أنّ المحصول لا يناسب أرضه ولا المناخ السائد، وكانت النتيجة أنّ النبات الجديد ذبل واضمحل، وذهب معه الحلم الجميل.. كيف يكون حال المزارع وحال مجتمعه حيال تلك التجربة؟
· تعلّم المزارع من مجتمعه أن تجربة أشياء جديدة تعد شيئاً جيداً.
· ينظر المزارع إلى إخفاقه على أنّه كان مصدر تعليم له، فقد اكتشف أن أرضه ذات طبيعة معينة، وينبغي أن يكون ما يزرع فيها ملائماً لتلك الطبيعة.
· لم يلقَ أي لوم من أهل قريته، لأنّ المهم في نظرهم ليس النتائج ولكن المحاولة.
· وجد المزارع مرشداً زراعياً قريباً منه، فسأله عن سبب عدم نجاح المحصول الذي زرعه.
· هناك مكتبة ممتازة وجد فيها كتاباً يرشده إلى محاصيل جيدة تناسب الأرض والمناخ لديه.
· الوضع الاقتصادي له وللمزارعين أمثاله جيد لذلك يتحمل خسارة الموسم الزراعي التي مني بها.
· لم ييأس من النجاح وسوف يكرر محاولة تجريب محاصيل جديدة.
إذا حصلت عين الحادثة مع مزارع في إحدى الدول الفقيرة والنامية، فكيف يكون رد فعله؟ وكيف تكون نظرة المجتمع إلى ذلك؟.
· ينظر إلى تجربته على أنها كانت ورطة، وتشكل خروجاً عن المألوف.
· لا يسأل عن أسباب إخفاق المحصول، ولا يثق بالمهندسين والمرشدين الزراعين إن وجدوا.
· سينظر إليه أهل قريته على أنّه رجل متهور، ويفتقر إلى الحكمة.
· سوف تتراكم عليه الديون لأن وضعه في الأساس كان هشاً.
· سوف يؤنب نفسه على ما فعل، ويضمر التوبة عن العودة إلى مثله.
· سيتحدث عنه أهل قريته طويلا على نحو سلبي، وسوف يحذّرون أي شخص من تجريب زراعة محصول جديد انطلاقاً من الخبرة السلبية لذلك المزارع.
النتيجة لهذا هي الجمود، والحرمان من التطور الزراعي الحادث في محيط أهل تلك القرية أو في المحيط العالمي.
3- يقوم المجتمع بالتحكم بأفراده وتحديد الوضعية العامة التي يمكن أن يصيروا إليها – على سبيل الإجمال – عن طريق درجة صلابة الإرادة التي يقوم بمنحهم إياها، والحقيقة أنّ الناس يميلون بفطرتهم إلى الفوضى وإلى التباطؤ في الإنجاز، وإلى التراخي في مواجهة التحديات؛ والعيش في مجتمع هو الذي يحد من تلك الميول، ويرتقي بمستوى إرادات الناس وعزائمهم وإصرارهم على فعل ما هو أفضل. ومن الواضح أنّ المجتمع كلما كان أكثر تحضراً، وكلما كان أفضل تنظيماً دفع بأبنائه لأن يكونوا أشد صلابة ومثابرة على العمل، كما أن سيطرة الناس فيه على أنفسهم ورغباتهم تصبح أشد وأقوى. في المجتمعات الريفية – مثلاً – تكون تكاليف المعيشة أقل منها في المدن، كما أن من طبيعة اعمال الفلاحة والزراعة أنها لا تتطلب التزاماً يومياً بالإنجاز، فالحصاد يمكن أن يتم اليوم، ويمكن أن يتم غداً، وزراعة المحاصيل يمكن أن تتم هذا الأسبوع القادم، وهكذا فليس هناك ما يدعو إلى الانضباط الذاتي الشديد، وهذا ينسحب على مجمل حياة الناس في القرى. أما في المدن، فإنّ الأمر مختلف حيث يكون التعامل مع الزمان بالدقيقة وليس باليوم أو الساعة، كما أن مستوى الرفاهية المتوفر فيها يتطلب من الناس أن يجهدوا ويكسبوا أكثر حتى يتمكنوا من الإنفاق بأريحية. العلاقات في القرى تكون غير منظَّمة وواسعة جدّاً، ومن ثَمّ فإن كثيراً من الوقت يذهب سدى مع حدوث الكثير من الفوضى، وليس الأمر كذلك في المدن.
· كيف نتعامل مع هذه السنة؟
1- إذا كان تأثير المجتمع في حياتنا على هذه الدرجة من الأهمية فإن من واجبنا أن نستثمر فيه على أوسع نطاق، وذلك من خلال إشاعة الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبناء أكبر عدد ممكن من المؤسسات الخيرية واللاربحية، وإطلاق عدد كبير من المشروعات والمبادرات ذات النفع العام...
2- سيظل في مجتمعاتنا نوع من النقص ونوع من القصور، وسيظل فيها من يركن إلى العادات والتقاليد على حساب الامتثال للعقيدة والمبدأ، ومن ثمّ فإن من واجب الصفوة من المسلمين والنخبة من المثقفين أن يكونوا أمام مجتمعاتهم، وليس في سياقها، إنّهم لا يخضعون للسقف الحضاري الذي تحدده، وإنما يعملون على نحو مستمر على رفع ذلك السقف من أجل الارتقاء بالمعايير والنماذج التي تقدمها للأفراد. ►
المصدر: كتاب هي.. هكذا (كيف نفهم الأشياء من حولنا)/ ثلاثون سُنّة إلهية في الأنفس والمجتمعات
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق