الخلاصة: يعتبر الإسلام أنّ الإنسان مخلوق اجتماعي يتيسر تكامله على ضوء حياة جماعية، ومن هنا فإنّه يدعو الأفراد والمجتمعات إلى التضامن والوحدة المبنية على "التوحيد" ويربي الروح الجماعية حتى عن طريق عبادات مثل صلاة الجماعة والجمعة والحج، وعلى المستويات المختلفة الشعبية والعالمية. ويهتم بوضع برامج محسوبة على المستويات الثقافية والسياسية والاقتصادية لتدبير وإدارة المجتمع، ويبشر بتشكيل حكومة إسلامية عالمية واحدة. وقد طرح الإسلام أيضاً حدوداً وشروطاً وأصولاً وضوابط من أجل العلاقات والتعامل الاجتماعي.
ومع الالتفات إلى هذه الأصول والضوابط المطروحة في الآيات والروايات ننظر إلى محور العلاقات وأقسامها ضمن عدة عناوين: محور العلاقات في الإسلام، العلاقات الإنسانية، العلاقات الإيمانية وموارد قطع العلاقة.
أ) محور العلاقات في الإسلام:
إنّ العلاقات الإنسانية في المذاهب التربوية الأخلاقية السائدة – خاصة في الثقافة الغربية – مبتنية على تبادل المنافع، وتتضمن رعاية حقوق الإنسان طالما أنّ هناك مجال للربح المتبادل، وهكذا فلسفة لا قيمة لها في الإسلام.
إنّ النظام التربوي الإسلامي، مبتن على أساس التقرب من الله والحصول على رضاه على قاعدة العلاقات الإنسانية، ولكنه لا يتدخل في الربح المتبادل والعرق واللون واللغة والجنسية.
روي عن الإمام الصادق (ع): "عاشر الخلق لله تعالى ولا تعاشرهم لنصيبك لأمر الدنيا ولطلب الجاه والرياء والسمعة".
يدور أيضاً في هذا المحور الحب والبغض والتولي والتبري، فقد روي عن الإمام الصادق (ع) أيضاً: "إنّ من أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله وتعطي في الله وتمنع في الله".
وبتعبير آخر فإنّ العلاقات الإنسانية في الإسلام "الكون مع الله في وسط الخلق، لا بدون الله مع الخلق" أو كما يقول الفلاسفة: "سفر إلى الخلق من الحقّ" وبعبارة أخرى: فإنّ الحياة الاجتماعية ليست الهدف بل وسيلة، والمجتمع الهادف ذلك الذي يعبد فيه الله.
الاستفادة من الضمير: إضافة إلى عنصر الإيمان الذي هو المحور الأصلي للعلاقات، يمكن أيضاً الاستعانة بالضمير في تحسين العلاقات الإنسانية. وقد اهتمت الروايات إلى حد ما بهذا المطلب.
يكتب عليّ (ع) في رسالته لولده الإمام الحسن (ع): "يا بني؛ إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لها؛ ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك".
الاعتماد على الضمير في التربية الإسلامية يتفاوت تفاوتاً أصولياً عما يطرح في المذاهب التربوية في الغرب، فالضمير الأخلاقي يطرح في المذاهب التربوية الغربية على أنّه الأصل الأساسي والأقوى للاعتماد عليه، في حال أنّ الضمير بدون إيمان وقاعدة اعتقاد لا ضمانة إجرائية له.
أما في التربية الإسلامية فإنّ العامل الأصلي والأساسي للتربية هو الإيمان بالله، وأما الضمير فيستفاد منه على أساس أنّه عامل ثاني؛ لهذا فلا يمكن له بدون جذور اعتقادية أن يكون قاعدة محكمة في التربية والأخلاق. وعلى هذا الترتيب فإنّ ما اعتمد على أنّه القمة في التربية الغربية، هو في التربية الإسلامية في الحقيقة نقطة الحضيض.
ويحتاج كلّ مذهب وكلّ نمط فكري اجتماعي إلى سلسلة من الأفكار المعنوية، ولهذا نقول: إنّ الأيديولوجية تحتاج إلى قيم ما فوق المادية، وهذه القيم يجب أن تكون قوية ومقتدرة بحيث تملك نوعاً من التقديس، وعلامة قدسية شيء ما هي أن يعتبره الإنسان مستحقاً لأن يفتديه بنفسه.
ب) العلاقات الإنسانية:
المقصود من العلاقات الإنسانية هو نوع من العلاقات يقوم بين أحد المسلمين وبين أبناء نوعه على أساس الحقوق وبلحاظ إنساني، بغض النظر عن اشتراكهم في العقيدة. وأصول هذه العلاقات عبارة عن:
1- حب الإنسان: إنّ حب الإنسانية مخفي في جهر الأديان الإلهية، وحب الإنسان هو أساس التربية الاجتماعية في الإسلام. إنّ من خصائص التربية الإسلامية أنّ الإنسان من حيث أنّه إنسان، وفي ضوء المحبة الإلهية ومن دون أيّة خصوصية أخرى يعتبر أنّ الهدف هو الخير والهداية والتربية. ويوجد في قانونه العملي سعادة الإنسان بشكل عام.
بهذا اللحاظ يمكن القول إنّ الله يعتبر أنّ الناس بدون استثناء لائقون لكرامته وأمانته، وقد أرسل الأنبياء ليسعوا لهدايتهم، وهم أمام الله سواء ولا يميز أحدهم عن الآخر سوى مقدار اعتقادهم وعملهم إن كان حسناً أو سيئاً باختيارهم: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13)، وملاك الحب والبغض هو عمل الإنسان الحسن أو السيئ. بالالتفات إلى هذا الأصل فقد شبه الرسول (ص) الناس بأسنان المشط وأنهم متساوون أمام الحقّ تعالى: "الناس كأسنان المشط والمرء كثير بأخيه".
ينقل الإمام الصادق (ع) عن الرسول الأكرم (ص) قوله: قال الله عزّ وجل: "الخلق عيالي فأحبهم إلي ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم".
السيرة العملية لأهل بيت النبيّ (ص) تظهر أيضاً أنّهم بترحمهم على المساكين وإيثاره على أنفسهم تجاوزا حد الاعتقاد، حتى أنّهم كانوا يتفقدون غير المسلمين، ومن الشواهد على ذلك سورة الدهر.
2- الهداية: إنّ المحبة للإنسان هي المحرك الأوسع، والعطف الإسلامي في إطار الهداية شمل كلّ فرد من البشر. فقد أرسل الله تعالى محمّداً (ص) رحمة للعالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، وكانت هذه الرحمة والرأفة عميقة إلى حد أنّ ضلال الناس كان يعذبه (ص) فيدعوه الله تعالى إلى تمالك نفسه ويقول: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى) (طه/ 1-2). من هنا أخذت رسالة الإسلام بعداً عالمياً، ووجب على المسلمين أن يسعوا إلى هداية وتربية كلّ الناس (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/ 110).
إنّ الأصل التوجيه والتربية دور أساسي في العلاقات الدولية والحرب والصلح أيضاً، حيث يريد الإسلام من فتح البلاد أن يعرفهم على الله وأن يربي الإنسان تربية إلهية وإنسانية. والهداية هي أعلى خدمة للإنسان، فهي سعي لإحيائه حياة معنوية أفضل بمراتب من الحياة المادية.
3- العدل العمومي: العدل والإنصاف من جملة أصول العلاقات الإنسانية التي تحتضن كلّ أفراد البشر، تقول الآية الكريمة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (النحل/ 90)، فهي تدعو بإطلاق وكلية إلى القانون والعدل وتحذر من الفحشاء والمنكر والعصيان والظلم. وكذلك الآية الكريمة: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8)، فإنّها تنبّه إلى أن لا تكون العداوة مع فريق بحيث تجعل المسلمين يخرجون عن العدل والإنصاف، فالعدالة شرط للتقوى والورع.
روي عن عليّ (ع) "جعل الله العدل قواماً للأنام، وتنزيهاً عن المظالم والآثام، وتسنية للإسلام"، وقال في عهده (ع) لمالك الأشتر: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم فإنّهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق".
والسيرة العملية لأمير المؤمنين (ع) شاهد صادق على تجسيم العدالة في نظام قيادته حتى أنّ غير المسلمين أطلقوا عليه (صوت العدالة الإنسانية).
4- الحقوق الإنسانية الخاصة: إضافة إلى الحقوق العامة التي أشير إليها، هناك أيضاً مجموعة من الحقوق الإنسانية الخاصة، مثل حقّ الأب والأُم، حقّ الأقارب، حقّ الضيف، حقّ المعلم، حقّ المتعلم، وعن أبي عبد الله (ع) "أوصيك بتقوى الله وحسن الصحابة لمن صحبت"، وقد تم الاهتمام بذلك في المصادر الإسلامية ويوجد نماذج منها في سيرة القادة الدينيين.
يوصي الله تعالى في القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين حتى لو كانا غير مسلمين (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) (العنكبوت/ 8)، (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان/ 15).
ولحقّ الأُم أهمية أكثر، فقد روي أنّ الإمام الصادق (ع) أوصى شاباً نصرانياً كان قد أسلم بالاهتمام بأُمّه المريضة والضريرة، فكانت نتيجة معاملة ابنها المحبة لها أنّها قد أسلمت وهي على فراش الموت.
ويوجد روايات كثيرة أيضاً في حقّ المعلم والمتعلم من جملتها ما روي عن رسول الله (ص): "احترموا من تتعلموا منه وتعلموه". وقد تحدث الإمام عليّ بن الحسين (ع) في رسالته في الحقوق بتفصيل في بيان حقّ المعلم والمتعلم.
ويروى أنّ أمير المؤمنين (ع) صاحب رجلاً ذمياً فقال له الذميّ: أين تريد يا عبد الله؟ فقال أريد الكوفة؛ فلما عدل الطريق عدل معه أمير المؤمنين (ع)، فقال له الذمي: ألست زعمت أنك تريد الكوفة؟ فقال له: بلى. فقال له الذمي: فقد تركت الطريق، فقال له (ع): قد علمت. قال فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين (ع): "هذا من تمام الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبينا (ص)". فقال له الذميّ: هكذا قال؟ قال: نعم. قال الذميّ: لا جرم، إنما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، فأنا أشهد أني على دينك. ورجع الذمي مع أمير المؤمنين (ع) فلما عرفه أسلم.
وروي عن عليّ (ع) عن حقوق الجيران: "الله الله في جيرانكم فإنّهم وصية نبيّكم وما زال رسول الله (ص) يوصي بهم حتى ظننّا أنّه سيورثهم".
وقد نُقل عن الرسول الأكرم (ص): "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع"، وعن الإمام الصادق (ع): "اعلموا أنّه ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره".
من البديهي أنّ الأب والأُم والمعلم والمتعلم والجار ورفيق السفر و.. إذا كانوا مسلمين ومؤمنين فسوف تتضاعف هذه الحقوق وسوف يكون لها أهمية أكبر.
5- حسن المعاشرة: حسن الأخلاق والمعاشرة من الأمور الأخرى التي أوصى بها الإسلام كلّ الناس. ونُقل عن رسول الله (ص) ما مضمونه: "لا تستطيعون أن تغطوا الناس بأموالكم، إذن غطوهم بأخلاقكم".
إنّ من الآداب العامة الترحم والعفو والنصح والصدق والإحسان والتعاون والأمانة والوفاء بالعهد والمداراة والمسالمة وأمثالها.
وروي عن رسول الله (ص): "إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه في النصيحة لخلقه".
وروي عن عليّ (ع): "من لم يرحم الناس منعه الله تعالى رحمته".
وروي عن الإمام الباقر (ع): "ثلاث لم يجعل الله لأحد فيهن رخصة، أداء الأمانة إلى البر والفاجر والوفاء بالعهد للبر والفاجر وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين".
مداراة الناس ومسالمتهم من الخصال الأخلاقية التي كان رسول الله (ص) يمارسها حتى مع من يخالفه ويقول ما مضمونه: "أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة".
لقد كانت هذه الخصلة الأخلاقية الممدوحة من عامل التقدم السريع للإسلام وكانت تجذب الناس لتقبل الدين، وقد مدح الله تعالى رسوله بهذا الخُلُق وهذه الخصلة فخاطبه قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم/ 4).
ج) العلاقات الإيمانية:
العلاقات الإيمانية أرفع من العلاقات الإنسانية، فإضافة إلى الأصول المذكورة في العلاقات الإنسانية. فرّع الإسلام أصولاً أخرى على الاشتراك في العقيدة عنون على أساسها حقوقاً ومسؤوليات خاصة طرحها، وأهم هذه الأصول:
1- الولاية والمحبة: في هذا النوع من العلاقة فإنّ الروح الحاكمة على كلّ المجتمع الإسلامي هي المودة والمحبة القلبية العميقة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة/ 71)
روي عن الرسول الأكرم (ص): "ود المؤمن في الله من أعظم شعب الإيمان". وعندما كان النبيّ الأعظم (ص) يعبئ جيشه قبل معركة أُحد ألقى خطبة قال فيها: "المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده".
كلما كانت روح المودة حاكمة على المجتمع الإسلامي، كلما ظهر ذلك عملياً في العلاقات الاجتماعية في العطف والرحمة. روي عن الإمام الصادق (ع) "يحق على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمواساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض حتى تكونوا كما أمركم الله عزّ وجلّ: رحماء بينهم".
يوجد أيضاً في الروايات وصايا من أجل تثبيت المحبة، والإمام الباقر (ع) يدعو المؤمنين إلى الألفة والعطف "يا معشر المؤمنين تألفوا وتعاطفوا"، ويذكر الرسول (ص) أن حسن الخلق والمحبة المتبادلة تثبّت المودة، وقد ذكروا من صفات عليّ أمير المؤمنين (ع) أنّه كان حلو الحديث جاذباً للمحبة.
ودعي المسلمون إلى الاعتصام بحبل الله الذي هو الإيمان رمز المودة والوحدة، والحذر مما يسبب التفرق والاختلاف، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران/ 103).
إضافة إلى الآثار الفردية للفضائل والرذائل الأخلاقية فإنّ لها دور مؤثر في العلاقات الاجتماعية أيضاً، ويمكن أن تكون التوصية بالفضائل والتحذير من الرذائل عاملاً في إحكام العلاقات الاجتماعية. كما أنّ الإسلام قد وبخ أيضاً على العداوة والحقد والحسد والغيبة والخيانة وخُلف الوعد والغش والاحتيال وسائر الصفات الذميمة التي هي من عوامل تكدير العلاقات.
2- المؤاخاة: الأخوة والمؤاخاة من الخصائص الأخرى للعلاقات الإيمانية التي تسعى التربية الإسلامية لتحقيقها، وقد ذكرها القرآن الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات/ 10). وينقل المؤرخون أنّ أوّل عمل قام به الرسول (ص) في السنة الأولى للهجرة، ومن أجل تحكيم العلاقات في المجتمع الإسلامي الحديث البناء هو مؤاخاة المهاجرين مع الأنصار، وكانت هذه المؤاخاة عميقة وتوسعت حتى وصلت إلى درجة أنّ أهل المدينة كانوا يقضون الليل في العبادة وتلاوة القرآن وفي النهار كانوا يعملون في جمع الحطب ويحضرون بثمنه طعاماً لأهل "الصفة"، ويوجد في التأريخ نماذج كثيرة لهذا.
روي عن عليّ (ع): "أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه مَن ضيّع من ظفر به منهم".
ويعدد الإمام الصادق (ع) آثار هذا التآخي ومن جملتها "المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه".
3- المسؤولية الاجتماعية: يتضمن حمل المسؤولية في المجتمع الإسلامي القضايا المادية والقضايا المعنوية، وتكمن أهميتها في أنها اعتبرت واجباً متبادلاً بين جميع أفراد المجتمع: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته".
وعلى هذا الأساس فإنّ أفراد المجتمع الإسلامي يجب أن يحملوا هم بعضهم ويعاونوا بعضهم في القضايا المادية والمعنوية والمصالح المشتركة ويسعوا إلى التعامل في حل المشكلات بروح المسؤولية.
يروى عن الرسول الأكرم (ص): "مَن أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم".
وفي كتاب لعلي بن أبي طالب (ع) لعثمان بن حنيف عامله على البصرة: "ولو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع".
4- المشورة والنصح: تصادم الأفكار وتضاربها من عوامل النمو الفكري والوصول إلى رأي صائب، وعلى هذا كان ذلك محل اهتمام في الإسلام وقد أوصى به في العلاقات الاجتماعية: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، و(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159).
يقول عليّ (ع): "مَن استبد برأيه هلك، ومَن شاور الرجال شاركها في عقولها".
ومن ناحية أخرى يجب على أصحاب الرأي والفكر الصائب أن لا يقصروا في النصيحة وحب الخير وأن يقولوا كلام الحقّ والموجِّه حتى لقادتهم.
روي عن الرسول الأكرم (ص) من خطبة له في مسجد الخيف "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله والنصيحة لأئمة المسلمين واللزوم لجماعتهم".
واعتبر الإمام الصادق (ع) أنّ نصيحة المؤمن حقّ واجب في عنق المؤمن: "يجب للمؤمن على المؤمن أن يناصحه".
التوصيات الأخلاقية: إضافة إلى ما لاحظناه بعنوان الحقوق الاجتماعية، يوجد أيضاً توصيات أخلاقية لها ثقل حقوقي أيضاً ولها أبواب واسعة وسنن إسلامية تختص بها، من جملتها:
السلام والمصافحة: كتبوا في سيرة النبيّ الأكرم أنّه كان يسلم على الكبير والصغير. وروي عن الإمام الحسين (ع) "من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه".
وكتبوا من السجايا الأخلاقية للرسول الأكرم (ص) أنّه كان حينما يصافح رجلاً فإنّه (ص) لم يكن يترك يده من يده حتى يكون هو التارك.
الاحترام والعطف: روي عن الإمام الصادق (ع) بخصوص احترام الكبار والعطف على الصغار: "ليس منا من لم يوقّر كبيرنا ويرحم صغيرنا". وقال في رواية أخرى: "ثلاثة لا يجهل حقهم إلّا منافق معروف بالنفاق: ذو الشيبة في الإسلام وحامل القرآن والإمام العادل".
مساعدة الفقراء: روي عن الرسول الأكرم (ص): "ما من أهل قرية يبيتوا وفيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة".
الماوساة والإيثار: إنّ أفضل نوع من العلاقة بين المسلمين هو "المواساة" وأفضل منه "الإيثار". والمواساة هي أن يعتبر الشخص أنّ إخوانه المسلمين كنفسه، وأنّ لهم الحقّ في أن يساعدهم بكلّ الإمكانات لرفع حاجاتهم وحل مشاكلهم، و"الإيثار" أن يقدم المرء الآخرين على نفسه: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/ 9).
سُئل الإمام الرضا (ع) عن حقّ المؤمن على المؤمن فقال: "من حقّ المؤمن على المؤمن المودة في صدره والمواساة في ماله وأن يحترم غيبته ولا يدع نصرته على عدوه".
إسعاد المؤمن: إنّ إدخال السرور على قلب المؤمن من التوصيات الأخلاقية الأخرى لأهل البيت (عليهم السلام)، ينقل الإمام الحسين (ع) عن الرسول الأكرم (ص): "من أحب الأعمال إلى الله عزّ وجلّ بعد الصلاة إدخال السرور على أخيه المؤمن".
وهذا النوع من الروايات حول الحقوق والأخلاق الاجتماعية بدءاً بالعائلة والأقارب وانتهاءً بالأصدقاء والجيران وأبناء البلدة وكلّ المسلمين والأفراد البعيدين والقريبين من كلّ طبقة اجتماعية كثير جدّاً.
د) موارد قطع العلاقة:
إنّ فلسفة العلاقات في الإسلام هي تحقق الأهداف الإلهية والإنسانية، والتولي والتبري مبتنيان على هذه الفلسفة. ومن هنا، فكلما سببت هذه العلاقات تضعيفاً في جبهة الحقّ أو كانت من قبيل العلاقة بين الظالم والمظلوم أو سببت في انتقال الخُلُق والعادات السيئة للآخرين فعندها يجب الاحتراز عنها، وآيات سورة براءة في القرآن والتوصيات في الروايات بقطع العلاقة تشمل هذه الموارد.
يقول القرآن في خطابه إلى المسلمين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة/ 57).
وبناءً على ذلك، يمنع اتخاذ الذين يقفون موقفاً عدائياً للحقّ تعالى أصدقاء، حتى ولو كانوا أباً أو أماً أو أخاً أو أقارب للفرد.
وقد أشير أيضاً في الروايات إلى فلسفة قطع العلاقة وآثارها الفردية والاجتماعية.
قال عليّ (ع): "إياك ومعاشرة الأشرار فإنّهم كالنار مباشرتها تحرق"، وبهذا اللحاظ وضعت حدود للتربية الاجتماعية في الإسلام بين المسلمين وغير المسلمين، وبين المؤمن والفاسق، والصالح والطالح، حيث تبقى حرمة الأخلاق والمحيط الاجتماعي مصونة من سريان الفساد. ويروى عن الإمام عليّ (ع) "لا ينبغي للمرء المسلم أن يؤاخي الفاجر ولا الأحمق ولا الكذاب".
إضافة إلى الأثر الأخلاقي لهذه العلاقات فإنّ الشرف الإسلامي للمسلمين هو أيضاً عرضة للخطر، ولذا روي عن الإمام الصادق (ع) "لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم، قال رسول الله (ص) المرء على دين خليله وقرينه".
ومن الجدير بالذكر أنّ قطع العلاقة في التربية الإسلامية، مثل العلاقة الإيمانية، له جذور قلبية ينتقل أثرها إلى المجتمع. وهو التولي التبري الذي ذكر في الروايات على أنّه حقيقة الدين. وروي عن الإمام الصادق (ع) بخصوصه: "هل الدين إلّا الحب والبغض"، وهذه من التمهيدات الجذرية في الإسلام في تربية العناصر الصالحة، وهي تدعوهم إلى النفور القلبي من العناصر الفاسدة والمُفسدة، وتقفل أمامهم طريق النفوذ الزائد للفساد عن طريق القلب. ►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق