• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

السماح والعفو.. سبب في استقرار المجتمعات

السماح والعفو.. سبب في استقرار المجتمعات

◄العفو فضيلة؛ أكثر أهل البيت (عليهم السلام) من دعوا الناس إليها واعتبروها سبباً رئيساً في استقرار المجتمعات وثباتها، وركناً في الإصلاح البشري والتعايش، ومن ذلك ما ورد في هذا الدعاء المبارك لمولانا السجاد (ع) بأسلوب ساحر في البيان ورائع في إيصال المعاني إلى حيث تستقرّ في القلوب وتتمكّن منها لتترجم فيما بعد سلوكاً عملياً، وبناءً نفسياً عاطفياً نابعاً من العقل والشرع معاً، فإذا كان المخلوق الضعيف قدّر له أن يعفو فكيف بالخالق العظيم الذي لا شكّ أنّه سيعوّضنا من عفونا عمّن ظلمنا عفوه عنّا لأنّه أكرم بالعفو، ومما ورد عن العترة الطاهرة (عليهم السلام) في أهمية العفو ما عن أمير المؤمنين (ع): "العفو تاج المكارم"، "العفو أعظم الفضيلتين"، "شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل"، "قلّة العفو أقبح العيوب والتسرُّع إلى الانتقام أعظم الذنوب".

وفي الحديث: "إذا أُوقف العباد نادى منادٍ: ليقم مَن أجره على الله وليدخل الجنّة، قيل: مَن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس".

 

   العفو الجميل والعفو القبيح:

ليس بالإمكان أن نقول إنّ العفو جميل في كلّ الموارد وعامّة المواضيع وسائر شؤون العباد والبلاد، وفي ضوء ذلك يُقال ليس هناك عفو غير جميل، بل الصحيح أنّه يوجد عفو قبيح حذرنا منه الإسلام ولا يُعتبر من الفضائل، بل هو من الرذائل والذي لابدّ من معرفته: ما هو الضابط الذي في ضوئه يصبح العفو جميلاً أو قبيحاً؟ والجواب أنّ العفو بأصله جميل إلّا ما ورد النهي عنه والتنبيه منه، والأمر الذي يُعتبر قاعدة في المقام هو ما كان فيه العفو عنصر مساعدة على الإصلاح والبناء سواء من ناحية فردية أو جماعية من حيث كونه مقرّباً إلى الله سبحانه ومعاوناً على التزام خط الاستقامة، فهو مطلوب ومرغوب. وأمّا ما يُشكِّل عنصر مساعدة على الانحراف وتشجيع على تكرار الاعتداء وانتهاك الحقوق لأنّه كلّما عفا صاحب الحقّ كرَّر المعفوُّ عنه الجرمَ مرّة أخرى وهكذا فهو غير مرغوب ولا مطلوب، بل ويقبح في مثل هذه المواطن، إلى حدّ يوجب استنكار الآخرين.

ومثال العفو الجميل ما رُوي عن رسول الله (ص) أنّه قال لرجل شكى إليه خدمه: "اعف عنهم تستصلح به قلوبهم". فقال: يا رسول الله (ص) إنّهم يتفاوتون في سوء الأدب. فقال: "اعف عنهم"، ففعل.

وفي هذا الحديث تصريح واضح أنّ الاستصلاح ركيزة في العفو عنهم. ومثال العفو القبيح ما رُوي عن أمير المؤمنين (ع): "جازِ بالحسنة وتجاوز عن السيئة ما لم يكن ثَلماً في الدين أو وهناً في سلطان الإسلام"، هنا أشار (ع) إلى عنوانين لا يحسن التجاوزعن السيِّئة فيهما:

الأوّل: الثلم في الدين، وهو أمر لا يمكن الدعوة إلى تسبيبه على الإطلاق.

الثاني: الضعف في حكومة الإسلام وسلطته، وكذلك هو أمر خطير نهانا الله تعالى عنه.

وهناك عنوان ثالث عام أشار إليه مولانا السجاد (ع) وهو لزوم الضرر، حيث قال: "حقّ مَن أساءك أن تعفو عنه وإن علمت أنّ العفو عنه يضرّ انتصرت، قال الله تبارك وتعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (الشورى/ 41)".

ويجمع المعنيين للعفو حديث أمير المؤمنين (ع)، حيث يكشف عن ضابطة الإصلاح والإفساد مع الكريم في الأوّل، ومع اللئيم في الثاني، قائلاً: "العفو يفسد من اللئيم بقدر إصلاحه من الكريم".

 

    العفو الأكبر والعفو الإصغر:

هناك نحوان من العفو كلاهما فضيلة أعدّ الله تعالى على التحلي بها ثواباً عظيماً ومكانة عالية، غير أنّ أحدهما أهم وأكبر وأحسن من الآخر وهو العفو مع القدرة أي حينما يقدر الإنسان أن يأخذ حقّه من المعتدي وكانت الظروف ملائمة والشروط الشرعية متوفرة؛ لكنّه آثر أن يعفو عنه مع مقدرته عليه رجاء أن يعفو الله عنه ورغبة في الثواب والنجاة من العقاب يوم الجزاء، والحث عليه في الروايات كثيرة، فقد ورد: "أحسن العفو ما كان عن قدرة"، "العفو مع القدرة جُنَّة من عذاب الله سبحانه"، "أحسن أفعال المقتدر العفو"، "أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة"، "العفو زكاة القدرة"، "العفو زين القدرة".

والنحو الثاني مهم لكنّه أصغر من صاحبه، وهو العفو حالة العجز الفعليّ عن تحصيل الحقّ وإمكان تجدد القدرة في المستقبل على معاقبة المسيء إليه، فينوي أنّه إذا قدر عليه أن يعفو عنه ويسقط حقّه لقاء وجه الله، وإن كان في الحاضر غير قادر على مجازاته أو استيفاء ما له عنده من حقوق إلّا أنّه قد سامحه، يقول تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ) (آل عمران/ 134).

ويقول الصادق (ع): "إنّا أهل بيت مروّتنا العفو عمّن ظلمنا".

ومما جاء في الحديث: "ألا أخبركم بخير خلائق الدنيا والآخرة؟ العفو عمّن ظلمك، وتصل مَن قطعك، والإحسان إلى مَن أساء إليك، وإعطاء مَن حرمك".

 

    آثار العفو:

1- ذهاب الحقد والضغينة: يقول النبيّ الأعظم (ص): "تعافوا تسقط الضغائن بينكم".

2- إقالة العثرة يوم القيامة: عنه (ص): "مَن أقال مسلماً عثرته أقال الله عثرته يوم القيامة".

3- العزّة في الدنيا والآخرة: في الحديث: "مَن عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزّاً في الدنيا والآخرة".

4- إطالة العمر: رُوي: "مَن كثر عفوه مُدّ في عمره".

5- النصر: يقول الرضا (ع): "ما التقت فئتان قطّ إلّا نُصر أعظمهما عفواً".

6- بقاء المُلك: عن النبيّ (ص): "عفو الملوك بقاء الملك".

7- النجاة من عذاب النار: في الحديث: "تجاوزوا عن ذنوب الناس يدفع الله عنكم بذلك عذاب النار".

8- الوقاية من سوء الأقدار: عنه (ص): "تجاوزوا عن عثرات الخاطئين يقيكم الله بذلك سوء الأقدار".

9- مغفرة الله ورضوانه: من كلام لأمير المؤمنين (ع) قبل أن تفيض روحه المقدّسة: "إنْ أبقَ فأنا وليُّ دمي، وإنْ أفنَ فالفناء ميعادي، وإنْ أعفُ فالعفو لي قربة وهو لكم حسنة، فاعفوا، ألا تحبّون أن يغفر الله لكم؟".

10- قصور مشرفة على الجنّة: عن النبيّ (ص): "رأيت ليلة أُسري بي قصوراً مستوية مشرفة على الجنّة، فقلت: يا جبرئيل لمن هذا؟ فقال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبّ المحسنين".►

 

المصدر: كتاب أنوار السجاد

ارسال التعليق

Top