• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

خُلق الاستقامة

خُلق الاستقامة

◄هناك كليات في الشريعة الإسلامية: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (هود/ 1). ومنها كليات في الأخلاق، ومن كليات الأخلاق الإسلامية، خُلق الاستقامة.

لأن خُلق الاستقامة يعين الإنسان على الإصلاح في الأرض، قال تعالى: (.. وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (الأعراف/ 142). لأن أوّل الإفساد هو اعوجاج عن طريق الإصلاح، فيجب عليك أن تقاوم في نفسك مَيلها إلى الاعوجاج وتُجاهد نفسك أعظم المجاهدة، ولا يكون ذلك إلا بالاستقامة.

الاستقامة هل هي خُلق أم عبادة؟ هل هي في التعامل مع الناس أم في العلاقة مع الله فقط؟

الاستقامة، خُلق من الأخلاق الإسلامية، لذلك عندما جاء أبو عمرو سفيان بن عبدالله الثقفي (رض)، قال: قلت: "يا رسول الله، قُل لي في الإسلام قولاً، لا أسأل عنه أحداً غيرك"؟ يَسأل عن الكلّيات لا ويسأل عن التفاصيل. الرجل يسأل عن الأمور الجامعة. بالتالي، فالرد النبوي سيكون أيضاً في الكليات الجامعة. قال له رسول الله (ص): "قُل أمَنت بالله، ثمّ استَقم". فالاستقامة خُلق جامع شامل للدين والإسلام وللأخلاق.

والعجيب أنّ الرجل لم يسأل النبيّ (ص) عن معنى الاستقامة أو كيف أستقيم، وهل هي صعبة أم سهلة، لأنّه فهم أن كلّ هذه الأسئلة نوع من الالتواء، والاعوجاج الذي هو عكس الاستقامة وخروج عن الاستقامة نفسها، مثل الاعوجاج الموجود عند بني إسرائيل، عندما قال لهم موسى (ع): (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) (البقرة/ 67). فكثرت الأسئلة التي أخرجتهم من الاستقامة عن اللون وأن يُبيّن ما هي، ولكن الرجل فهم ببساطة أن (استَقِم) هي: لا للالتواء ولا للاعوجاج.

ولكن، ما هي الاستقامة؟ وما هي حدودها؟

الاستقامة في اللغة عكس الالتواء والاعوجاج، مثل الخط المستقيم، فكل ما فيه التواء خرج من الاستقامة، وكلّ ما فيه اعوجاج خرج عن الاستقامة.

فالاستقامة كلمة جامعة للخير، ولجميع السجايا الحميدة، والخلال الكريمة، وأسمَى ما يطلبه الإنسان في هذه الحياة أن يُوصف بأنه مستقيم.

وجميع الأنبياء (صلوات الله عليهم) كانت رسالاتهم والهدف منها أن يستقيم الناس، وتستقيم بهم أحوالهم، وتستقيم بهم دنياهم، وتستقيم بهم أمور آخرتهم.

فأمر الله جلّ جلاله نبيه محمد (ص)، أن يستقيم ومَن تاب معه على جادة الحق، غير عادلين عنها، وألا يتجاوزوا ما أمروا به، فذلك هو الطغيان: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (هود/ 112).

وأمر الله تعالى المؤمنين بالالتزام بالصراط المستقيم، فقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام/ 153). وقد جاء عن الرسول (ص)، أنه خطّ خطاً مستقيماً، وخطّ عن يمينه خطوطاً، وعن شماله خطوطاً. ثمّ قال مشيراً إلى الخط المستقيم: "هذه سبيل الله". وقال مشيراً إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله: "هذه سُبل.. على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه". ثمّ قرأ الرسول الكريم (ص)، قول الحق تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ...) (الأنعام/ 153).

لذلك، نُردّد في كلّ صلاة، كلّ يوم، في سبع عشرة ركعة، قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة/ 6)، ونُدرك من الآية مدى قيمة الاستقامة على طريق الحق. فالطريق المستقيم هو أقرب الطرق إلى الهدف، أما الطرق المعوَجّة فلا تؤدي إلى شيء سوى الهلاك. والطريق المستقيم هو طريق المؤمنين الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة/7).

هل أنت مستقيم أم معوَجّ؟ كلّ اعوجاج خروج عن الاستقامة، فالاستقامة جامعة للنزاهة والعدل والإنصاف وأداء الحقوق وعدم الغش.

ومن الاستقامة اجتناب الكذب والخيانة والتزوير والتدليس وخلف الوعود.

ومن أهم أشكال الاستقامة استقامة الفكر، بأن يكون الفكر وسطيّاً بلا تطرّف، ويكون باعتدال من دون تشدّد.

واستقامة منهج التفكير تكون باتّباع الأدلة والحجج العلمية والعقلية، بلا ترديد للكلام، من دون فهمه.

ومن الاستقامة أن يستقيم قلبك، فتحب لأخيك ما تحب لنفسك. هل رأيت كيف أنّ الاستقامة كلمة أخذت بمجامع الأخلاق كلها؟ وصدق رسول الله (ص): "قُل آمنتُ بالله ثمّ اسْتَقِم" أي: لسان مستقيم، عمل مستقيم، نيّة مستقيمة غير مخادعة، فكر مستقيم، عقيدة مستقيمة.. إلخ. لذلك يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف/ 13).

هل أنت شخصيتك غالبٌ عليها الاستقامة أم توجد منطقة في حياتك الشخصية أو الاجتماعية أو المالية ملتوية؟ احذر أن تفسد كلّ حياتك بسبب هذه المنطقة، من اليوم استقم، وليستقم كلّ واحد منّا في منطقته لننال ثمار الاستقامة.

وللإستقامة ثمار عديدة لا تنقطع، فهي باب من أبواب الخير، وبركتها لا تقتصر على صاحبها فحسب، بل تشمل كلّ مَن حوله، ويُفهم هذا من قوله تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن/ 16). هذا في الدنيا وفي الآخرة قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ...) (فصلت/ 30). الملائكة تنزل لهم بخصوصية كاملة. لماذا؟ لتُبشّرهم: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت/ 30-32).

هذا عن الإستقامة في الأقوال والأفعال، ولكن، إذا أردنا أن تتحقق الاستقامة في البدن، فلابدّ من استقامة القلب أوّلاً، لأنّ القلب هو مَلِك الأعضاء. فمتى استقام القلب على معاني الخوف من الله ومحبّته وتعظيمه، استقامت الجوارح على طاعة الله، ثمّ يليه في الأهمية: استقامة اللسان، لأنّه الناطق بما في القلب والمعبّر عنه.

وبعد هذا العرض السريع لهذا الخُلق العظيم، يأتي السؤال: كيف أستطيع تطبيق هذا الخلق في حياتي حتى يصبح صفة من صفاتي؟ نستطيع ذلك بخطوات عديدة منها:

1- اختر آية أو حديثاً أو قولاً مأثوراً من داخل المقال، أو متعلقاً بخلق الاستقامة ويكون أثّر فيك، واجعله شعارك هذا الأسبوع.

2- جرّب بنفسك، وحاول أن تعيد الاستقامة في أمر من الأمور التي تشعر بأنّك ابتعدت عن الاستقامة فيها، وحاول دائماً حتى تتحقق الاستقامة في حياتك كلها.

3- شجع غيرك على خلق الاستقامة لتضمن انتشار هذا الخلق بين الناس، وليعم الخير على الجميع، وعندما تشجع غيرك يزداد في داخلك الدافع إلى التطبيق.

4- الدعاء.. ادْعُ ربنا بصدق واخلاص أن يجعلك مستقيماً ويعينك على الاستقامة في حياتك كلها، مع الناس ومع أهلك ومع نفسك.

وأخيراً، أكثِر من دُعاء النبي (ص): "واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت".►

ارسال التعليق

Top