أرسل الله الرُسل هداة للبشر إلى الحق، ودعاة لهم إلى الصدق، وأدلاّء لهم إلى صراط الله المستقيم، وأنزل الكتب لتكون للناس منارات هدى ومشاعل نوريفيئون إليها ويفيدون منها، ينعمون بخيرها، ويترسمون هديها، وينسجون على منوالها، والقرآن العظيم دستور الأُمّة الخالد ومعجزة الإسلام الكبرى، كلما اقترب المسلمون منه وعياً وسعياً، عزوا في الدنيا وسعدوا في الآخرة، وللقرآن معينات تعين على فهمه، وتيسر وعيه، نذكر هنا بعضها لا لنسردها سرداً، ولا لنقصها قصاً، ولا لنحكيها حكاية، بل لنضع برامج عملية للإفادة من تلاوة القرآن في شهر القرآن، وترشيداً لهذا الإقبال الماتع السار من المسلمين على القرآن والعودة إليه، ومن هذه المعينات ما يلي:
فمن عايش القرآن بروحه وقلبه ولسانه ووعيه، أعطاه القرآن مذخوره وفتح له من كنوزه، ومن ذاق عرف، ومن عرف اغترف.
إنّ استصحاب القرآن الكريم في القلب والعقل، والتحاكم إليه في صغير الأمر وكبيره باب عظيم النفع من أبواب الإفادة من معاني القرآن الكريم، وهو علامة على حياة القلب، ويقظته، وإستعداده للنفع، كالبلدة الآمنة الطيبة التي يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، أو (.. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة/ 265)، يقول ابن القيم – رحمه الله -: "من الناس من يكون حي القلب، واعيه، تام الفطرة، فإذا فكر بقلبه، وجال بفكره، دله قلبه وعقله على صحة القرآن، وأنّه حق، وشهد قلبه بما أمر به القرآن، فكان ورود القرآن على قلبه نوراً على نور الفطرة، وهذا وصف الذين قيل فيهم: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ/ 6)، وقوله: (نُورٌ عَلَى نُورٍ) (النور/ 35)، فهذا نور الفطرة على نور الوحي، وهذا صاحب القلب الحي الواعي، يجمع بين قلبه الواعي وبين معاني القرآن، فيجدها كأنّها قد كتبت فيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب، ومن الناس من يكون تام الإستعداد، واعي القلب، كامل الحياة، فيحتاج إلى شاهد يميز بين الحق والباطل، ولم تبلغ حياة قلبه ونوره، وزكاء فطرته مبلغ صاحب القلب الحي الواعي، فطريق وصول هدايته أن يفرغ سمعه للكلام، وقلبه للتأمل والتفكر فيه، وتعقل معانيه، فيتعلم حينئذ أنّه الحق".
- فيوضات وعطاءات:
إنّ معايشة الإنسان للقرآن الكريم تفتح له مغاليق الفهم، وتيسر له سبل الوصول إلى مراد الله تعالى وكم من فقهاء ومفسرين عاشوا في ظلال القرآن الكريم في أتون المحن، فأثمرت تلك المعايشة والمخالطة ما لا يتيسر لغيرهم في بحبوحة الحياة.
من هنا تَعيّن على المسلم أن يعايش القرآن الكريم معايشة تبرز له معانيه، ويختلط بروحه، وعقله، وفهمه، ووعيه، حتى يصل من الخير إلى ما يريد، إنّ المعايشة تعين على إستحضار الصورة التي يتناولها القرآن الكريم، فيرى أهل الجنان منعمين، وأهل النار معذبين موقوفين.
- معاينة ما يقرأ:
ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا مَن عاش العيش الحقيقي مع القرآن الكريم، ولا يصل الإنسان إلى هذه الصورة إلا بمعاينة ما يقرأ ومعايشة ما يتلو، حتى يصير ما يقرؤه حياً أمامه، سواء أكان ذلك في عالم الغيب أم في عالم الشهادة، وهذا ما عبر عنه الإمام الغزالي بمنزلة التأثر، ووصفه بقوله: "وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة، بحسب إختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد، يتصف به قلبه من الحزن، والخوف، والرجاء، وغيره.. فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة، فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته، كأنّه يكاد يموت، وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر، كأنّه يطير من الفرح، وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يطأطأ خضوعاً لجلاله، وإستشعاراً لعظمته، وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله – عزّوجل – كذكرهم لله – عزّوجلّ – ولداً وصاحبة يخفض صوته، ويكسر في باطنه حياء؛ لقبح مقالتهم، وعند وصف الجنة – ينبعث بباطنه؛ شوقاً إليها، وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها، ولما قال رسول الله (ص) لإبن مسعود: "اقرأ على"، قال: فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا) (النساء/ 41)، رأيت عينيه تذرفان بالدمع، فقال لي: "حسبك الآن"، وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية، ولقد كان في الخائفين من له أحوال في سماع الآيات، فمثل هذه الأحوال تخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه، فإذا قال: (.. إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس/ 15)، ولم يكن خائفاً كان حاكياً، وإذا قال: (.. رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (الممتحنة/ 4)، ولم يكن حال التوكل والإنابة، كان حاكياً، وإذا قال: (.. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (إبراهيم/ 12)، فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه، حتى يجد حلاوة التلاوة؛ فإن لم يكن بهذه الصفات، ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان، وضرب الإمام مثلاً لمن يقرأ القرآن ولا يعايشه بقلبه، ولا يحياه بحسه وروحه، بالذي يقرأ كتاب مليكه، الذي يأمره بإعمار مملكته، وهو ممعن في تخريبها، ومدمن لقراءة الكتاب، وكأنّ الإمام بذلك يعاين أحوال عموم المسلمين، إلا من رحمه الله، فيقول: "ومثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره، مثال من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات، وقد كتب إليه في إعمار مملكته، وهو مشغول في تخريبها، ومقتصر على دراسة كتابه، فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الإستهزاء، وإستحقاق المقت.
إنّ المراد من المعايشة أن يصل القارئ والسامع إلى درجة التواصل الحقيقي مع القرآن الكريم، فيحس بإحساسه، ويشعر بشعوره، وينظر إلى مقاصده وغاياته، ويدنو إلى أهدافه ومتطلباته، ساعتها تكون رسالة القرآن في الحياة قد وصلت إلى الأحياء، ويمئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.
*أستاذ التفسير وعلوم القرآن المشارك، جامعتا الأزهر وحائل
ارسال التعليق