• ٢٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تعميق الارتباط بالقرآن الكريم

تعميق الارتباط بالقرآن الكريم

القرآن الكريم هو أقدس كتاب في الأرض، وهو الكتاب الإلهي الذي وضعه الله تعالى مقياساً أعلى للبشرية في مسيرتها وحياتها، وإنّ طريق النجاة هو طريقه فقط، وأي انحراف أو زيغ عنه هو انحراف وزيغ عن الهدى والحقّ فهو العروة الوثقى التي ينجو مَن اعتصم بها وهو حبل الله المتين الممدود بين الأرض والسماء، قال تعالى:

(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء/ 9).

(هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران/ 138).

وإنّ كلّ حالات التردي والبؤس والحرمان وكلّ أنواع الأسى والضيم التي تعاني منها البشرية، ناتجة عن عدم إمامة القرآن للحياة وتحكيمه فيها، وحياة البشرية لا يمكن أن تستقيم وتقوم بالقسط والعدل إلّا بعد أن يطبق فيها القرآن الكريم، يقول الحارث الهمداني: "دخلت المسجد فإذا أُناس يخوضون في أحاديث فدخلت على عليّ (ع) فقلت ألا ترى أُناساً يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم، قال (ع): إمّا إنّي قد سمعت رسول الله (ص) يقول: ستكون فتن، قلت وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم. هو الفصل ليس بالهزل، هو الذي مَن تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه. وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعه أن قالوا: إنّا سمعنا قرآناً عجبا، هو الذي مَن قال به صدق، ومَن حكم به عدل، ومَن عمل به أجر، ومَن دعا إليه هدىً إلى صراط مستقيم، خذها إليك يا أعور".

والمؤمن الذي يسعى لتزكية نفسه ويقوم بمجاهدتها، لابدّ له من أن يرتبط بالقرآن ويتجه نحو تعميق هذا الارتباط حتى يكون القرآن نوره في الدنيا ومصباح سيره إلى ربه تعالى ويكون عمله بالقرآن الكريم صك نجاته في الآخرة من العذاب وليحقق له الفوز الأكبر برضوان الله وجنته.

ولأجل أن يكون الارتباط بالقرآن الكريم متيناً وعميقاً، يجب أن يتلقى المزكي لنفسه القرآن تلقياً صحيحاً، وإنّ التلقي الصحيح للقرآن لا يكون إلّا حين تتوفر مجموعة من الأسس الصالحة في نفس هذا الإنسان المتلقي.

الذي يريد أن يجسد القرآن في حياته ويجعله رافده الذي يغذيه، وغديره الذي يرتوي منه.

وهذه الأسس التي لابدّ من وجودها في نفس الإنسان الذي يريد أن يتلقى القرآن الكريم بشكل صحيح هي:

أ) الانعتاق والتخلص من الأفكار والتصورات والآراء الموجودة في عقل الإنسان قبل أن يتلقى القرآن، حيث إنّ عقل الإنسان يعتبر مستودعاً للكثير من الأفكار والنظريات التي توجه سلوكه وسيره في الحياة. وإنّ هذا الإنسان لا يكون إنساناً قرآنياً ما لم يترك كلّ هذه الأفكار القبلية الموجودة في عقله ويتلقى من القرآن فقط.

وأشارت الأحاديث الشريفة إلى هذه القضية المهمة حيث روي عن الرسول (ص) قوله: "لولا أنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت". فيحدد الرسول الأكرم (ص) هذه المسألة بشكل واضح في تلقي القرآن الكريم، ويصور حالة إنكفاء القلوب وانغلاقها عن التأمل في آيات الله وملكوته، ويحدد سبب ذلك بما يقوم به الشياطين في هذه القلوب، فإنّ كلّ فكرة أو نظرية تقيد عقل الإنسان وتحجب قلبه عن استلهام النور لهي من أمر الشيطان. وإنّ الأفكار الغير قرآنية المنشأة التي يحويها عقل الإنسان والتي هي من أمر الشيطان سيحول وجودها دون استلهام آيات الله والتفاعل مع كتابه الكريم وتزكية النفس به، وبذلك لا يمكن أن تزكو النفس بتلقي القرآن إلّا بعد نبذ هذه الأفكار والتحرُّر من أسرها وعبوديتها الفكرية.

ب) القراءة للتبني والتطبيق، وليس قراءة القرآن للاطلاع والقراءة فقط كما تقرأ الكثير من الكتب الأخرى.

فالقرآن دليل الحياة والإنسان لا تزكو نفسه إلّا بعد أن يجعل القرآن إماماً في حياته، ولا يكون القرآن الكريم إماماً في حياة الإنسان إلّا حين يكون ناهياً وامراً أو مطاعاً في كلّ نهي وأمر. وكانت طريقة الرسول (ص) في تربيته للصحابة بالقرآن هو توجيههم لتبني القرآن والعمل به كما يروي ذلك عن عبد الرحمن السلمي والتي يقول فيها: حدثنا مَن كان يقرأنا من الصحابة أنّهم كانوا يأخذون من رسول الله (ص) عشر آيات، فلا يأخذون في العشر الأخر حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل.

وروي عن الرسول (ص) أنّه قال:

"اقرأ القرآن ما نهاك فإذا لم ينهك فلست تقرؤه".

وقال (ص): "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه".

ج) الشعور عند قراءة القرآن بمنزلة مَن يخاطب الإنسان ويتحدث معه حين القراءة وهو الله تعالى، لأنّ القرآن هو كلمات الله سبحانه التي هي تعاليمه الخالدة للبشرية.

والشعور بالمنزلة المقدسة لكلمات القرآن باعتبارها تعاليم الله عزّ وجلّ شيء أساسي لمن يريد أن يتلقى القرآن تلقياً صحيحاً ويربي نفسه بالقرآن تربية صالحة. وأنّ تنامي هذا الشعور وتعميقه عند المتلقي يجعل قراءة القرآن مؤدية لغرضها في تزكية النفس وهداية الإنسان، لأنّ من طبيعة الإنسان أن يتأثر بنوع المتحدث والجهة التي صدر عنها الخطاب، ويتصاعد تأثر الإنسان بالتعاليم الصادرة إليه والخطابات الموجهة نحوه طردياً بمقدار منزلة الجهة التي صدر عنها هذا التعليم أو الخطاب في نفسه، فكلما كانت هذه الجهة في نفسه كبيرة كلما كان تأثير تعاليمها وخطاباتها كبيراً والعكس بالعكس.

وإذا شعر الإنسان عندما يقرأ القرآن أنّه واقف يتلقى القرآن بما فيه من تعاليم وحكم ومواعظ من الله تعالى العظيم المطلق اللامحدود، وأنّ الله هو الذي يخاطبه مباشرة، إنّ مثل هذا الشعور سيجعل الإنسان يعيش وضعاً نفسياً خاصاً عند قراءته للقرآن الكريم ويكون عقله منفتحاً، فتنفعل روحه بكتاب الله تعالى ويورق عقله بتعاليمه وتسمو نفسه عالياً نحو بارئها الذي يخاطبها في قرآنه المجيد، وبذلك ستكون هذه القراءة للقرآن مغيرة للسلوك وهادية للإنسان ومزكية لنفسه، لأنّ قلبه كان حاضراً وعقله يقظاً ونفسه متوجهة إلى الله تعالى.

ولا يمكن أن يؤثر القرآن الكريم في القلوب الساهية أو اللاهية أو العقول والأنفس الغير متوجهة إلى الله تعالى، وقد جاء في التوراة تصوير رائع لهذا المعنى عند خطاب الله سبحانه للإنسان:

"يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرأه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك منه شيء، وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم وصلت لك فيه من القول؟ وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه؟ ثمّ أنت معرض عنه، أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك يا عبدي، يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكلّ وجهك وتصغي إلى حديثه بكلّ قلبك، فإن تكلّم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني، فجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك".

ولا يفوتنا ونحن نتحدّث عن الارتباط بالقرآن الكريم ودوره في تزكية النفس أن نؤكد على أنّ المداومة على قراءة القرآن الكريم وتعلّمه وتعليمه أمور لابدّ منها لمن أراد أن يرتبط بالقرآن الكريم، وقد ورد الحث الكبير في الروايات المأثورة عن أهل البيت (عليهم السلام) على ذلك، حيث قال الإمام الصادق (ع):

"ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعلمه".

وقال رسول الله (ص):

"خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه".

وقال الإمام الصادق (ع):

"عليكم بتلاوة القرآن، فإنّ درجات الجنة على عدد آيات القرآن، فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ وارق، فكلما قرأ آية رقى درجة".

وما عن الإمام الباقر (ع) قال:

"قال رسول الله (ص): مَن قرأ آية في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومَن قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين، ومَن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومَن قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، ومَن قرأ ثلثمائة آية كتب من الفائزين ومَن قرأ خمسمائة آية كتب من المجتهدين، ومَن قرأ ألف آية كتب له قنطار من تبر..".

 

المصدر: كتاب نظرات في تزكية النفس

ارسال التعليق

Top