• ٢٩ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٩ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

في مدرسة الحسين (ع).. لنتعلم كيف نكون المحاورين

في مدرسة الحسين (ع).. لنتعلم كيف نكون المحاورين

◄"إنّ الخلافَ في الرأي لا يعني أن نغلق أبوابَ الحوارِ.. حاورْ أوّلاً وثانياً وثالثاً.. إعط وجهة نظرك، وحاول أن تستمع إلى وجهةِ نظرِ الآخرين".

نحنُ هنا في مدرسة الحسين (ع) لنتعلّم الإسلام في عقائده وشرائعه ومناهجه وحركته في الحياة، ولنعي كذلك الواقع الذي حمّلنا الله مسؤوليته، ولنقارن بين هذا الواقع الذي نعيش فيه، وبين الإسلام الذي أرادنا أن نطبِّقه على الواقع كلّه، لذلك فمدرسة الحسين (ع) ليس لها صفة خاصة، إنّها مدرسة الإسلام، فهو من رسول الله ورسول الله من عمق خطّه وحركته.

فماذا ترك لنا الحسين من تراث وماذا حمّلنا من مسؤولية؟ إنّ للحسين (ع) صورة في معنى الإنسان المسلم، وعلينا أن تكون صورتنا صورة الحسين، فالدموع التي نذرفها هي الحركة التي نتفاعل بها مع الحسين عاطفياً، فنحن نحبّه بكلِّ الحب وكلِّ الإحساس، ولذلك نفرح لفرحه ونحزن لحزنه ونتفاعل معه، فالبكاء إذاً ليس شيئاً ندعو إليه فحسب ولكنه شيء نعيشه.

 

لنتمثّل خطّ الحسين (ع):

إنّ قصّة أن نبكي هي قصّة أننا نحب، وأن نحزن، هي أننا نرتبط به ارتباطاً عضوياً فيما هو ابن الرسالة، فلنبق مع الحزن لا على أساس أن نجعله كلَّ القضية، فقيمته – أي البكاء – في الإنسانية هو أنّه يجعل الإنسان يحتج على المأساة وأن يزداد احتجاجه عليها في الواقع، فالتاريخ كان صناعة الذين عاشوه والذين أحسنوا وأساؤوا فيه، أمّا نحن فعلينا أن ننطلق من مبادئنا وخطوطنا الفكرية لنلاحق كلّ مآسي الحاضر وكلّ الذين يصنعون المأساة فيسقطون – من خلالها – حريّة الأُمّة، ويبدِّلون العدل بالظلم، ويعملون من أجل اضطهاد إنسانية الإنسان ليكون الوحش هو الذي يقود الإنسانية والواقع.

حدّقوا في كربلاء، وكيف كان يتصرّف الحسين (ع) وتصرّفوا كما تصرّف، لأنّ مشاكلنا صورة عن الخط العام للمشكلة التي عاشها، وهي مشكلة الناس الذين لم ينفتحوا على الحقّ في عقولهم، ولكنهم انفتحوا على الباطل في غرائزهم، وهذا هو الفرق بين العقل وبين الغريزة، فالعقل يفكر والغريزة تعتدي، ذاك يحاور وهذه ترفض الحوار، العقل يعطي الحرِّية للعقل الآخر في أن يعرض وجهة نظره والغريزة تتعصّب، فلا تعطي فرصة للآخر لكي يعرض وجهة نظره، وعندما تكون هناك غريزة تخاطب غريزة فهناك السقوط للعقل وللحقِّ، ولكن عندما يخاطب العقل عقلاً فهناك التفاهم والمجادلة والوصول إلى الحقِّ من أقرب طريق.

 

المنطق الحسينيّ:

مرّة أخرى، ماذا كان في كربلاء؟ لقد كان الآخرون يتحدّثون مع الحسين (ع) ليبعدوه عن الانطلاق في خطّه، وكانوا يخافون عليه، ويحذّرونه، ويخوّفونه، لأنهم كانوا ينظرون إلى الجانب الذاتي من القضية، وكان الحسين ينظر إلى الجانب الرسالي من القضية، كانوا يقولون له: إننا نخاف عليك، وكان يقول لهم بمنطقه: إني أخاف على الرسالة والدِّين، كانوا يقولون له: أصلح وضعك مع الآخرين فإنّهم لا يريدون بك إلّا خيراً، ولكنه كان يقول لهم: إنّي أفكر أن أصلح أُمّة جدِّي! كانوا يحدثونه عن المخاطر، وكان يحدِّثهم عن التضحيات.

ولو تأملنا في كلمات (الفرزدق) التي وصف بها أهل الكوفة "قلوبهم معك وسيوفهم عليك" لرأينا أنّ سيوفهم كانت في خدمة مصالحهم، أما قلوبهم فهي تنبض بمحبة الحسين لكنها لم ترتفع إلى المستوى الذي يجعلهم يشهرون سيوفهم ضد أعدائه.

وهذه هي الصورة التي عشناها مع الذين يتحدّثون عن محبة الحسين بألف طريقة وطريقة، ولكن عندما جاء الطاغية هنا والظالم هنا والمنحرف هناك أقبلوا عليهم وحرّكوا سيوفهم في أكثر من (حسين) وأطلقوا سيوفهم لخدمة ألف (يزيد).

 

الحسين (ع) في واقعنا:

أمّا في لقاء الحسين (ع) بزهير بن القين ورفضه -في البداية- دعوة الحسين لنصرته، فإنّ العصبية عنده كانت تعيش في سطح ذاته ولم تتعمق فيها، حتى إذا حدثته زوجته ونزلت إلى عمقه انفتح على الحسين واستمع إليه وسقطت الغشاوة عن السطح وانطلق النبع الصافي في قلبه يتفجّر، وبرز مع الحسين (ع) إلى مضجعه.

وعلى الصعيد الحركي فإننا عندما نرى إنساناً منحرفاً عن الحقِّ ومتعصباً ضده، قاسياً في كلماته شديداً في موقفه علينا ألّا نهمله، فلعل الباطل يعيش في سطح قلبه وسطح عقله، وعلينا أن نخاطبه في العمق، فالكثيرون ممن نعتبرهم أشراراً يعيشون عمق الخير في نفوسهم، وعلينا دائماً أن نبحث عن عنصر الخير في الإنسان، فالخير أصيل في نفس الإنسان والشر طارئ عليه، فلابدّ أن نصبر على الشريرين، وأن لا نهملهم (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف/ 164).

وهذه هي تجربة الحسين الناجحة "مع "مسلم بن عوسجة" الذي وقف فيما بعد ليقول "والله لو علمتُ أنّي أقتل ثمّ أحيى ثمّ أحرق ثمّ أُحيى ثمّ أُذرّى، يُفعل ذلك بي سبعين مرّةً ما فراقتُك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعلُ ذلك وإنّما هي قتلةٌ واحدةٌ ثمّ هي الكرامةُ التي لا انقضاءَ لها أبداً" فكيف كانت البداية وكيف أصبحت النهاية! فالكثيرون ممن ساروا في طريق الخطأ هم كـ"زهير بن القين".

 

شخصية المُحاوِر:

وهكذا في حوار الحسين (ع) مع (الحرّ بن يزيد الرّياحي) ومع الذين قاتلوه في كربلاء، فلقد كانت شخصية الحسين (ع) هي شخصية المحاور الذي يريد أن يخاطب الطيبة في أنفسهم، ويزيل عنها كلّ ركام الحقد والبغض والخصام والأطماع، ولم يكن يرفض محاورتهم حتى أنّ (الشمر) عندما نادى: أين "العباس" وأخوته، ورفضوا أن يتحدّثوا معه طلب "الحسين" منهم أن يجيبوه، وتحدّث مع (عمر بن سعد) فيما يسمّى "مفاوضات" لأنّه كان يريد أن يقول للناس إنّ الخلاف في الرأي لا يعني أن نغلق أبواب الحوار.. حاور أوّلاً وثانياً وثالثاً.. أعطِ وجهة نظرك.. حاول أن تستمع إلى وجهة نظر الآخرين، لأنّ الناس قد يختلفون في الدِّين وفي السياسة والاجتماع فإذا كان الخلاف يتمثل حقداً وعداوة فستنتهي الدنيا ويبقى الخلاف (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود/ 118-119)، فعلينا أن نعرف كيف ندير خلافاتنا بالحوار وبالالتزام بالتي هي أحسن وبالدفع بالتي هي أحسن، وهذا ما مارسه الإمام الحسين (ع)، وهذا ما انطلق به قبل ذلك القرآن الذي صوّر لنا حوار الله مع إبليس ومع الملائكة ومع الملحدين والمشركين والمنافقين، لأنّ الإسلام كأي دين وكأي فكر إنما ينطلق من خلال الحوار إلى العقل، ولذلك قال الله تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (النمل/ 64)، فإذا ما اختلفنا فليكن الحوار حجّة مع حجّة وبرهاناً مع برهان لا حوار غريزة مع غريزة.

فتعلّموا من كربلاء أن تكونوا محاورين، فالذين يشتمون وجهة النظر الأخرى، ويتهمونها ويتعسفون ويعاندون، هم أصحاب (عمر بن سعد) يحاورهم الحسين (ع) ثمّ يقولون له: "ما ندري ما تقول، ولكن أنزل على حكم بني عمّك"، أليس هذا المنطق هو منطق المستكبرين الذين يقولون للمستضعفين: ما ندري ما تقولون ولكن انزلوا على حكم النظام الدوليّ؟!".

وفي الختام: هل نريد أن نكون الحسينيين؟ وإذاً فلا يكفي أن نبكي وأن نلطم أن نجرح رؤوسنا أو صدورنا.. فطالما أننا نريد أن ننطلق بالحوار للعالم كلّه على أساس الإسلام وخط أهل البيت (عليهم السلام) وقضايا الحرِّية والعدالة، فلابدّ أن نكون المحاورين الذين يجتبذون الآخرين إلى الحوار.

إنّ ما يريده الحسين (ع) هو أن ننصر خطّه ورسالته وقضيته ومنهجه في الحوار وفي الدعوة إلى الله (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26). ►

 

المصدر: كتاب الندوة/ الكتاب الثاني

ارسال التعليق

Top