يُغرقنا فصلا الصيف والربيع بفيض من النور الطبيعي، فنستمتع بضوء النهار، ونجني فوائده الكبيرة من دون أن نولي الأمر أهمية كبيرة. ولكن مع حلول فصلي الخريف والشتاء، نبدأ في الإحساس بالفرق. فالنهار يصبح قصيراً، وتتراجع فترة تعرضنا لأشعة الشمس التي تقصر زياراتها اليومية، وعندها فقط نلمس أهمية النور الطبيعي، وفوائده وتأثيراته الإيجابية في صحتنا النفسية والجسدية. فالضوء يدخل الجسم عبر خلايا العين الموصولة بالدماغ، والتي تبعث بمعلومات إخبارية حول حلول النهار والليل لساعات الجسم البيولوجية الداخلية، وهي منطقة دماغية صغيرة واقعة على مقربة من الهايبوثالاموس (تحت المهاد). وتقوم هذه المنطقة الدماغية على مدار الأربع والعشرين ساعة بتزويد الجسم بإيقاعات الحركة اللازمة عن طريق إرسال الإشارات المختلفة. مثال على ذلك، فإنها تحثه على إفراز الهرمونات التي تلعب دوراً في الأنشطة البدنية والدماغية خلال ساعات النهار. أما عندما تبدأ العينان في رؤية الظلمة، فإنّ الدماغ يبدأ إفراز الهرمونات الليلية، مثل الميلاتونين، الذي يساعد على النوم. هذه الهرمونات وغيرها تلعب دوراً في تنظيم إيقاع أنشطة ووظائف الجسم. ويتأثر هذا التنظيم سلباً عندما تكون كمية الهرمونات هذه غير كافية أو زائدة على المعدل الطبيعي.
ويقول الخبراء إنّ الضوء يلعب دوراً مهماً في المجالات التالية:
تنظيم المزاج:
إذا كان الصيف فصل المزاج الجيد والفرح، فإن أحد الأسباب الرئيسة لذلك، هو الطقس المشمس وطول الفترة النهارية. ومع حلول أشهر الخريف والشتاء، يعاني الكثيرون من انعدام تعرضهم لأشعة الشمس، إذ إنهم يقومون بتنقلاتهم الصباحية والمسائية كافة في الظلمة تقريباً. ومن المعروف أن أعداداً كبيرة من الناس تعاني في فصل الشتاء انخفاضاً في مستويات الطاقة وضعف الدوافع، مصحوبة برغبة شديدة في النوم وبتوق شديد إلى الأطعمة الحلوة، وهي بعض علامات ما يُعرف باضطراب المزاج الموسمي الذي ركّز البحاثة في المؤسسة الوطنية الأميركية للصحة الذهنية على دراسته منذ العام 1982. وكانوا قد طوروا يومها تقنية علاج ترتكز على تعريض الشخص المصاب بهذا الاضطراب إلى ضوء تشبه أشعته طيف الشمس.
- كيفية التعامل في حالة نقص الضوء: علينا أن نخرج إلى الهواء الطلق كلما أمكن، ولو اقتصر ذلك على فترة استراحة الغداء. فحتى السماء الملبدة بالغيوم تعطي إضاءة قدرها 1500 لوكس (وحدة قياس قدرة الضوء على الإنارة) وهي مفيدة للمزاج.
أما إذا تعذر ذلك، فيستحسن استخدام الأنوار من نوع هالوجين، بمعدل 3 ساعات في اليوم، فانعكاس ضوء الهالوجين على الجدران فاتحة اللون، يبعث ضوءاً أبيض يساعد على إعادة تنظيم إيقاعات الجسم البيولوجية.
وإذا لم ينفع ذلك، يمكن الخضوع لجلسات العلاج بالضوء. ويؤكد الطبيب النفسي الفرنسي باتريك لوموان، أنّ هذه التقنية أثبتت فاعليتها في ما يقارب 85% من الحالات. وهي تتضمن التعرض لضوء مصابيح خاصة قوتها 10000 لوكس لمدة تتراوح بين 10 و30 دقيقة كل صباح، ولا يعوق هذا التعرض الفرد عن القراءة أو تناول وجبة الإفطار. ويستحسن البدء بهذا العلاج قبل الدخول في الدوام الشتوي. ويستغرق هذا العلاج عادة ما بين أسبوعين وثلاثة أسابيع، ثمّ يمكن تكراره لاحقاً حسب الحاجة حتى حلول فصل الربيع. لكن لوموان يحذر الأشخاص الذين يعانون أمراضاً في الشبكية من الخضوع لهذا العلاج، فالضوء فيه شديد، والعيون تكون شديدة الحساسية للضوء. كذلك يجب تفاديه في حالات تناول أدوية تزيد من حساسية العينين تجاه الضوء.
تعزيز التيقظ:
من المعروف أنّ التركيز في غرفة مضاءة جيداً يكون أسهل مما هو عليه في غرفة خافتة الأضواء. والواقع أنّ هذه العلاقة بين الضوء القوي والتيقظ تُستخدم منذ سنوات عديدة في المصانع لتحسين أداء العمال والتخفيف من الحوادث. وقد أظهرت الدراسات الحديثة أنّ الضوء يساعد في الحفاظ على التيقظ أثناء القيادة في الليل. وفي هذه الحالة يكون لون الضوء أكثر أهمية من قوته. فقد أظهر البحاثة الأميركيون في العام 2006، بعد إجراء اختبار على مختلف الألوان الأساسية، أنّ اللون الأزرق، لون الضوء الذي ينبلج فجراً، هو الأكثر فاعلية على مستوى تعزيز التيقظ، حتى ولو كان خفيف القوة.
- كيفية التعامل في حالة نقص الضوء: يتوجب علينا قبل قيادة السيارة مثلاً، وخاصة إذا كنا قد أمضينا قسماً طويلاً من النهار في مكتب خافت الإضاءة، أن نخصص وقتاً كافياً للمشي في ضوء النهار، عندما تسمح الظروف، أو المشي في مكان مضاء جيداً وأثناء القيادة ليلاً، من المفيد إشعال شاشة جهاز دليل القيادة الذي ينبعث منه لون أزرق. ومن غير المفيد احتساء المزيد من القهوة، فتأثير الضوء الأزرق يوازي تأثير القهوة التي نشربها قبل وأثناء القيادة.
وإذا كان علينا أن ننجز عملاً مهماً مساءً، أو نحضّر لامتحان في اليوم التالي، يمكننا أن نبقى أمام شاشة الكمبيوتر، فاللون الأزرق المنبعث منها كفيل برفع مستويات تيقظنا ويستثير دماغنا وينشطه.
تنظيم النوم:
في الحالات المثالية، نخلد إلى النوم بعد أقل من ربع ساعة تقريباً من استلقائنا في السرير وإطفاء الأضواء، ونستيقظ بعد 7 و8 ساعات، ونحن نشعر بالراحة وبالانتعاش. لكن ذلك للأسف لا يحصل دائماً في حياتنا الواقعية اليومية. فنومنا يعتمد على هرمون الميلاتونين الذي لا يتم إفرازه إلا في الظلمة. فمع حلول الليل، يخلق هذا الهرمون لدينا الإحساس بالتعب، ويُضعف درجة تيقظنا، ويحضّرنا بالتالي للنوم. ويمكن لصعوبة الخلود إلى النوم أن تبرز نتيجة التعرض المتأخر مساءً للأضواء الاصطناعية مثل الهالوجين، أو الأضواء التي تحتوي على أشعة زرقاء مثل تلك المنبعثة من شاشة الكمبيوتر. فعند التعرض لمثل هذه الأضواء يزداد تيقظنا، ويتوقف إفراز الميلاتونين، وهو واحد من أبرز العوامل التي تضمن لنا نوماً جيداً.
- كيفية التعامل في حالة نقص الضوء: ينصح المتخصص الفرنسي في الإيقاعات البيولوجية في جامعة كان، الدكتور داميان دافين برفع مستويات التيقظ والنشاط إلى أقصاها خلال ساعات النهار، بحيث يكون النوم مرمماً ومعوضاً ليلاً. وقبل موعد النوم بساعة علينا أن نطفئ أجهزة الكمبيوتر، والتلفزيون التي ينبعث منها ضوء منشط يشبه ضوء النهار. ويمكننا أن نغير لون شاشة الكمبيوتر الخاص بنا.
كذلك يجب البدء بإطفاء المصابيح الكهربائية في المنزل واحداً تلو الآخر، حتى تخفت حدة الضوء في المنزل تدريجياً وبلطف. وإذا وجدنا صعوبة في الخلود إلى النوم، وعوضاً عن التقلب في السرير، من الأفضل أن نقرأ، ونستخدم ضوءاً خفيفاً ودافئاً يميل إلى الاحمرار ويساعدنا على الاستعداد للنوم.
أما الاشخاص الذين يعملون في أمكنة لا يصلها الضوء الطبيعي، فعليهم اتخاذ بعض الإجراءات البسيطة. فقد أظهرت الدراسات أنّ العمل في غياب ضوء النهار يؤدي إلى اضطرابات في النوم، وإلى تراجع في التيقظ وفي الأداء الذهني لدى الأشخاص المعنيين. كذلك فإنّه قد يزيد من خطر الإصابة بأمراض أيضية مثل السكري. لذلك ينصح المتخصصون الأشخاص الذين يعملون في دوامات ليلية، باختيار طريقة المداورة، بحيث يغيرون دوام عملهم كل يومين أو ثلاثة أيام، كي يمنحوا جسمهم الوقت الكافي لتغيير ساعته البيولوجية. وإذا تعذر ذلك يمكنهم أن يعوضوا عما يفقدونه من ضوء النهار بتركيب ضوء يميل لونه إلى الأزرق – يحاكي ضوء النهار – على مقربة من مكان جلوسهم أو وجودهم في مكان العمل. وينصح الخبراء الأشخاص الذين يعملون ليلاً بالعودة إلى منازلهم وهم يرتدون نظارات شمسية بعدسات يميل لونها إلى البرتقالي، وذلك بهدف التخفيف من قوة ضوء الصباح، وتسهيل الخلود إلى النوم.
التزود بالطاقة:
إنّ مجرد رؤية ضوء النهار في الصباح الباكر يحفز الجسم إلى إفراز الكورتيزول، وهو هرمون ضروري للقيام بالأنشطة البدنية. ويقول دافين إنّ الساعة البيولوجية تتحكم في العديد من الأواليات المرتبطة بمستويات الطاقة. مثال على ذلك فإن حرارة الجسم تنخفض قليلاً ليلاً، بينما تكون مبرمجة نهاراً لتستقر على 37 درجة، وهي الحرارة المثالية المناسبة لقيام العضلات، خاصة، بوظائفها بشكل مثالي.
- كيفية التعامل في حالة نقص الضوء: علينا أن نحرص على فتح أعيننا يومياً في الموعد نفسه صباحاً وذلك لأنّ الساعة البيولوجية الداخلية "تبرمج" اللحظة التي تنطلق فيها عملية إفراز الكورتيزول. ولا يستحسن إطالة ساعات النوم صباحاً في عطلة نهاية الأسبوع، حتى لو نمنا في وقت متأخر ليلاً، فالنوم في الصباح قد يؤدي إلى اضطراب الساعة البيولوجية، ويؤثر سلباً بالتالي في عملية إفراز الكورتيزول. والحقيقة أنّ هذا هو سبب شعورنا بالتعب بعد أن نكون قد "أفرطنا" في النوم صباحاً وتأخرنا في الاستيقاظ. ويُعتبر التوجه إلى العمل صباحاً مشياً على القدمين، طريقة ممتازة لحفز الجسم وتنشيطه وتزويده بالطاقة.
تقوية العظام وتعزيز الجهاز المناعي:
من المعروف أنّ التعرض لأشعة الشمس يسمح بتحويل جزئية شبيهة بالـ"كولستيرول" موجودة في الجلد إلى فيتامين D ويلعب هذا الأخير دوراً أساسياً في الحفاظ على صحة العظام وصلابتها وتعزيز كثافتها. إضافة إلى ذلك فإنّه يسهم في تعزيز قدرات الجهاز المناعي ومساعدته على أداء وظائفه بشكل جيِّد. فهو يقوي خلايا الدم البيضاء التي تبتلع الجراثيم، كما يعزز إنتاج الببتايدز المضادة للعدوى. وكانت الدراسات قد أظهرت أنّ الفيتامين D يلعب أيضاً دوراً في التخفيف من خطر الإصابة ببعض أشكال السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية.
- كيفية التعامل في حالة نقص الضوء: ينصح الخبراء أصحاب البشرة الفاتحة بتعريض اليدين والذراعين والوجه لأشعة الشمس بين 5 و15 دقيقة في اليوم، بمعدل مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، طوال أيام السنة، وذلك لمساعدة الجلد على إنتاج كمية الفيتامين D التي يحتاجون إليها. أما سُمر البشرة فعليهم زيادة هذه المدة إلى ثلث ساعة في اليوم. وفي بعض الأحيان يمكن لضوء النهار في فصل الشتاء ألا يكون كافياً، خاصة بالنسبة إلى الأشخاص السمر، وأولئك الذين يشكون أمراضاً مرتبطة بالامتصاص المعوي السيئ، أو الذين يتبعون نظاماً غذائياً نباتياً قد يتسبب لهم في نقص في هذا الفيتامين. وفي حالة الشك في الحصول على كمية كافية من الفيتامين D، يمكن للطبيب أن يتأكد عن طريق إجراء فحص دم بسيط، يقرر حسب نتيجته، ما إذا كنا في حاجة إلى قرص مكمل من هذا الفيتامين.
تحسين حالة المصابين بمرض الـ "ألزهايمر"
أظهرت الأبحاث التي أجراها الخبراء الأميركيون أن زيادة قوة الأضواء الكهربائية داخل المؤسسات، التي تُعنى بالأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر، تساعد على تعزيز نشاطهم وتحسين نوعية نومهم. وتبين أيضاً أنّ الإضاءة الجيدة تحد من تطور المرض بفاعلية تساوي فاعلية العقاقير والأدوية.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق