• ٢٠ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١١ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الرحمن الرحيم يفتح باب الرحمة والتوبة

د. عائض القرني

الرحمن الرحيم يفتح باب الرحمة والتوبة

◄سعة رحمته سبحانه؛ وعظيم لطفه؛ وجزيل كرمه؛ ووافر جوده وحلمه؛ قضية معلومة لكلّ ذي عقل؛ ولا أدل على ذلك من إمهال الله لأعدائه على كفرهم، فهو يغذوهم ويكسوهم ويكلؤهم بالليل والنهار، ويسهِّل لهم أغراضهم الدنيوية، وييسر لهم مطالبهم المعيشية، وأكثرهم محاربون له ولرُسله، مكذِّبون لرسالاته وكُتُبه، معتدون على حُرماته وحدوده.

وتأمّل فعل النصارى في قولهم: إنّ الله ثالث ثلاثة. وبعدها دعاهم سبحانه إلى التوبة فقال: (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) (المائدة/ 74)؛ بل دعا المسرفين في الخطأ إلى المراجعة، ونهاهم عن القنوط، وأخبرهم أنّ الله يغفر الذنوب جميعاً، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (الأعراف/ 156).

وهو ينادي في الثُّلث الأخير من الليل: "هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه"، ويقول: "يا ابن آدم! إنّك ما دعوتني ورجوتني إلّا غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم! لو أتيني بقراب الأرض خطايا، ثمّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة"، وغُفِر للمرأة البغي من بني إسرائيل لما سقت كلباً يلهث من شدة العطش، وغفر لمن تاب بعدما قتل مئة نفس بغير حقّ، وتجاوز عن رجل مسرف لأنّه كان يتجاوز عن الناس في الدنيا في البيع والشراء، وشكرَ لرجل وغفر؛ لأنّه أزاح غصن شجرة عن طريق الناس، وعفا عن رجل أتى بتسعة وتسعين سجلاً مملوءة بالخطايا؛ لأنّه عادلها ببطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله وهو سبحانه أشد فرحاً بتوبة عبده من فرح صاحب الناقة التي ضلت منه عليها طعامه وشرابه وقد أيس منها ثمّ وجدها وهو القائل سبحانه: "يا عبادي إنّكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم".. (إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ) (النجم/ 32).

وأخبر سبحانه: أنّ رحمته وسعت كلّ شيء، وأنّه واسع المغفرة، وأنّه لا يتعاظمه شيء أن يغفره، وبيَّن سبحانه أنّه لا ييأس من روحه إلّا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمته إلّا القوم الخاسرون.

وذكر (ص) أنّ رجلاً أذنب ذنباً فقال: "اللّهمّ إنّي أذنبت ذنباً فاغفره لي فإنّه لا يغفر الذنوب إلّا أنت، ثمّ أذنب فقال مثل ذلك، ثمّ أذنب فقال مثل ذلك، فقال سبحانه: علم عبدي أنّ له ربّاً يأخذ بالذنب ويعفو عن الذنب، إنّي قد غفرت لعبدي فليفعل ما شاء". والمعنى ما دام أنّه يستغفر كلّما أذنب فإنّه يغفر له.

وقد صحّ عنه (ص) أنّ الله أرحم بعبده من الوالدة بولدها. وأنّه سبحانه خلق الرحمة مئة جزء، أنزل جزءاً واحداً في الدنيا وأبقى عنده تسعة وتسعين جزءاً إدخرها لعباده في الآخرة، وصحّ أنّ رحمته سبحانه سبقت غضبه، ولما أمر الرجل من بني إسرائيل أبناءه بإحراقه بعد موته وذكر أنّه يخاف لقاء الله ويخشى ذنوبه غفر له، ووعد من فعل فاحشة أو ظلم نفسه ثمّ استغفره: بالمغفرة وجنات تجري من تحتها الأنهار وتبديل سيئات التائبين حسنات، وورد أنّ الندم على فعل الخطيئة توبة، وأنّ الإسلام يهدم ما قبله، بل أخبر أنّ مَن ظلم نفسه وأساء ثمّ استغفر الله غفر له.

وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب شيء إليه ما اُبتلي بالذنب أحب الخلق عليه، يعني: آدم. وذكر سبحانه عن آدم بعد الخطيئة أنّ الله اجتباه وتاب عليه وهداه، وغفر لموسى خطيئته، ويونس بن متى مغاضبته.

فمَن أعظم المنازل عنده سبحانه منزلة التائبين، وقد امتن الله بها على النبيّ (ص) والمهاجرين والأنصار، ومن رحمته بعباده أنّه أرسل إليهم الرُّسل وأنزل عليهم الكُتُب، وأقام لهم الحجّة، وبيَّن لهم المحجّة، وأعذر لهم بالبلاغ، وأمهل عاصيهم حتى يتوب، وحلم عن ضالهم حتى ينيب، وانظر إلى قوم سبوه وشتموه وألحدوا في أسمائه وحاروا في صفاته، وعطلوا شريعته، وتعدوا حدوده وعصوا أمره، وارتكبوا نهيه، ومع ذلك خاطبهم بأرق خطاب، ووعد بالتوبة لمن تاب، وبشر بالمغفرة لمن أناب، بل يطعم مَن عصاه، ويجيب المضطر حتى ممّن حاربه إذا ناداه: يا الله يا الله.

    ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي **** جعلت الرجا ربّي لعفوك سُلَّما

    تعاظمني ذنبي فلما قرنته **** بعفوك ربي صار عفوك أعظما

فسبحان مَن عظم حلمه وجلّ كرمه، وما أوسع رحمته، وأحسن مغفرته وأكبر ستره ولطفه، فحقيق بالعبد أن يلتمس رضاه، ويسعى في فكاك رقبته من عذاب ربّه بطاعته، وأن يُبادر إلى التوبة النصوح كلّما زلّ، وأن يكثر من الاستغفار والندم على ما فرط منه، وإبدال السيِّئة بالحسنة، وتجديد العودة إلى الله بصدق اللجأ، وإخلاص الإنابة، وتجريد التوكل، والطمع في فضله سبحانه، وحسن الظن به، ورجاء ما عنده، والله أعلم.►

 

 المصدر: كتاب العَظَمَة

ارسال التعليق

Top