النبي أيوب ممن اختصهم الله بامتحان عسير، ووصفه بالصابر، وقد جاء ذكره في القرآن في عدة سور منها قوله تعالى: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) (ص/ 41)، انّ الآيات القرآنية التي جاء فيها ذكر أيوب بينت مقامه العظيم، وأشارت إلى امتحاناته العسيرة التي امتحن بها، وينقل لنا التاريخ عن الإمام الصادق في قصة ابتلاء أيوب قال: يظن السائل انّ أيوب ابتلي بما ابتلي به لمعصية ارتكبها فأجاب (ع) بقوله: لنعمة أنعم الله عزّ وجلّ بها في الدنيا وادى شكرها، وكان في ذلك الزمان لا يحجب إبليس دون العرش، فلما صعد ورأى شكر النعمة من أيوب حسده، فقال: يا رب انّ أيوب لم يؤد إليك شكر هذه النعمة إلا بما أعطيته من الدنيا. ولو حرمته دنياه ما أدى إليك شكر نعمة أبدا، فسلطني على دنياه حتى تعلم انّه لم يؤد لك شكر نعمة أبدا.
"أحباء الله ليسوا أولئك الذين يذكرون الله إن أنعم عليهم، وانما أحباء الله الواقعيون أولئك الذين يذكرون الله دائماً في السراء والضراء وفي البلاء والنعمة".
ولكي يوضح الباري عزّ وجلّ للجميع إخلاص أيوب، سمح للشيطان أن يتسلط عليه، فلم يبق له مال ولا ولد، ولا صحة، ولم يتأذ أيوب من ذلك إلا حين شمت به أبناء قومه إذ اتهموه بالذنب، وانّ الذي أصابه عقاب نتيجة الذنب، فكان جوابه (ع): وعزة ربي لم ارتكب أي ذنب، وما أكلت طعاماً إلا ويتيماً أو ضعيفاً يأكل معي..) وقد استمرت فترة ابتلائه ما لا يقل عن 7 سنوات وقيل 18 سنة.
وقد رد المفسرون على هذا التفسير وقالوا: انّ الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، وإذا كان الشيطان بإمكانه ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء؟! ولم لا يخرب دورهم، ويقتل أولادهم، وقد حكى الله عن إبليس انه قال: (وما كان لي عليهم من سلطان..) وهذا كلام صريح من الشيطان بأنّه لا قدرة له على ذلك. وانّ قدرته تتمثل في القاء الوساوس والخواطر الفاسدة في نفسه كي يلقيه في العذاب والعناء، وقد كانت تلك الوساوس على وجوه: منها انّ علة أيوب كانت شديدة الألم طويلة الأمد، فعافه الناس، وشمتوا به، ومنعوا امرأته من العمل الذي تكتسب به قوتها وقوة زوجها العليل، وكان الشيطان يحتال على أيوب ويذكره بأمواله وولده. وكيف هلك الولد، وذهب المال، وانهارت الصحة، ويبقى أيوب الصابر يتضرع إلى ربه ولا يقنط بل يستمر بدعائه وابتهاله، وكان يقول في دعائه (رب اني مسني الشيطان بنصب وعذاب) وهو يشير على قول المفسرين بما أصابه من المرض بسبب الجراثيم التي هي منشأ الأمراض، وهذا يدل عليه ما جاء في الروايات (لا تشرب من ثلمة الاناء ولا من عروته فإنّ الشيطان يقعد على العروة والثلمة) فإن ثلمة الإناء تكون محلاً لتجمع المكروبات المتنوعة التي تسبب الأمراض.
واستجاب الله دعاء عبده الصابر على ما جاء في القرآن الكريم (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) (ص/ 42): أي اضرب برجلك الأرض سينفجر من تحتها عين ماء عذب بارد تشرب منه وتغتسل، ويعتقد البعض انّ تلك العين هي عين ماء معدني صالح للشرب، وفيه شفاء لكلِّ الأمراض، فأعاد الله عليه صحته وشافاه من مرضه.
- عودة الأهل والمال إلى أيوب:
قال تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ) (ص/ 43).
وعن كيفية عودة عائلته إليه وأمواله وردت أقوال متعددة منها:
1- انهم كانوا أمواتاً فأحياهم الله برحمته.
2- قالوا انهم كانوا متفرقين عند إبتلائه بالمرض فردهم الله إليه.
3- إنّ الله قد رزقه بأولاد وأحفاد ضعف ما كانوا عليه، وقد كان كل ذلك رحمة من الله لأيوب الصابر، ودرساً لكلِّ أصحاب العقول والفكر على طول التاريخ لأخذ العبر من سيدنا أيوب كي لا يفقدوا صبرهم وتحملهم للمشاكل والحوادب الصعبة، وأن لا ييأسوا من رحمة الله.
- كفارة يمين أيوب:
غضب أيوب يوماً على زوجته، ومن حقِّ المريض مثله أن ينفعل، فليس عليه حرج لما به من ألم ممض، فاقسم ان شافاه الله أن يضربها عقوبة مائة جلدة، قال تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (ص/ 44).
هذا ما يقوله المفسرون، وليس في القرآن ما يشير إلى القسم من أيوب كان ضد زوجته، والذي أشار إليه القرآن انّ أيوب قد أقسم على شيء يجب عليه أداؤه، والقسم هو على ما ذكرنا، فأمره الله عزّ وجلّ أن يأخذ حزمة من حشيش ويضرب بها أداء للقسم.
"انّ فقدان المكانيات المادية، وحلول المشاكل والفقر والمرض لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف الباري، كما انّ إمتلاك الأموال والولد ليس دليلاً على بعد الإنسان من الله".
"ليس في القرآن ما يشير على انّ القسم من أيوب كان ضد زوجته والذي أشار إليه القرآن ان أيوب قد اقسم على شيء يجب عليه اداءه".
- العبرة من قصة أيوب:
1- الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً، ويشمل حتى الأنبياء الكبار إذ يكون امتحانهم أشد وأصعب من الآخرين تبعاً لمقامهم ودرجتهم عند الله، والامتحان هو السبب في تفجير الطاقات الكامنة.
2- الفرج بعد الشدة، فعندما تشتد أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كل جانب عليه أن لا يفقد الأمل ولا ييأس، قال سيد المتقين علي (ع): "عند تناهي الشدة تكون الفرجة".
3- حوادث القصة تبين فلسفة البلاء، وتجيب أولئك الذين يعتبرون الآفات والبلايا مادة متناقضة ضد برهان النظم في بحوث التوحيد، وانّ وجود مثل هذه الحوادث الصعبة والشديدة في حياة الإنسان (من أنبياء وحتى عموم الناس) يعد أمراً ضرورياً لأنّ الامتحان – كما ذكرنا – يفجر الطاقات (ان في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء).
4- أحداث هذه القصة تعطي درساً في الصبر والتحمل لكلِّ المؤمنين الواقعيين الرساليين.
5- في بعض الأحيان يكون الامتحان لشخص ما، امتحاناً لأصدقائه وأقربائه كي يعرف حجم محبتهم وعلاقتهم به.
6- أحباء الله ليسوا أولئك الذين يذكرون الله انّ أنعم عليهم، وانما أحباء الله الواقعيون أولئك الذين يذكرون الله دائماً في السراء والضراء وفي البلاء والنعمة، قال علي (ع) يصف المتقين "نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء".
7- هذه القصة أكدت انّ فقدان الإمكانيات المادية، وحلول المشاكل والفقر والمرض لا يعني عدم شمول الإنسان بلطف الباري، كما انّ امتلاك الأموال والولد ليس دليلاً على بعد الإنسان من الله، وانما يمكن ان يكون عبدا مقربا لله مع امتلاكه لكثير من الامكانات المادية بشرط أن لا يكون عبداً لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وان فقدها لا يفقد الصبر معها.
"الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً، ويشمل حتى الأنبياء الكبار إذ يكون امتحانهم أشد وأصعب من الآخرين تبعاً لمقامهم ودرجتهم عند الله، والامتحان هو السبب في تفجير الطاقات الكامنة".
المصدر: (مجلة الرياحين/ العدد العاشر)
ارسال التعليق