• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

توجيه الإنفاق وتطوير آلياته

أسرة البلاغ

توجيه الإنفاق وتطوير آلياته

◄كثيرة هي الأموال التي تُنفَق في وجوه الخير والإحسان، غير أنّ الكثير منها لا يؤدِّي الغرض المنشود، ولا يُحقِّق هدف الشريعة الإسلامية ومقاصدها من الإنفاق الذي يُراد له أن يساهم بتطوير المجتمع، وحلِّ مشاكل الإنسان، والتصعيد الروحي والأخلاقي..

فكثيرة هي المساحات والمجالات التي ينبغي أن يشملها الإنفاق، بل وربّما كان لها الأولوية في الإنفاق، لا ينفق فيها المحسنون، ولا يتطوّع أحد لجمع المال والإنفاق فيها إلّا قليلاً وبالشكل الذي لا يسدّ بعض الحاجة..

ولكي تكون صورة المشكلة أكثر وضوحاً، فلنستعرض جملة من المفردات والظواهر التي تحتاج إلى المعالجة، سواء في مجالات الإنفاق، أو في كيفيّة وأسلوب الإنفاق.

فمثلاً: كَمْ هي الأوقاف والنذور والوصايا المالية التي تستوعب ثلث ميراث الميِّت في غالب الأحيان.. وكم هي الحقوق الشرعية كالزكاة والخُمس والتبرّع الخيري.. وذلك برٌّ إحسانٌ يحثّ الدين الإسلامي على الإكثار منه. غيرَ أنّ الذي نلاحظهُ هو أنّ هذه الأموال لا تحقِّق في الكثير من مجالات صرفها الأهداف المتوخّاة للتشريع الإسلامي ومقصد الشريعة، والدافع الأخلاقي نحوها.. فنرى تلك الأموال ينتهي أمر صرفها إلى مَن يضع يده عليها من المتولِّين، ويوجِّهها وفقَ المصلحة التي يريدها هو، أو المجالات التي يقتنع هو في الصرف فيها، من غير دراسة ولا تخطيط.. وربّما ينفقها في المجالات التي تعود عليه بالأرباح بطريقة الالتواء، واستحداث العناوين الإضافية والثانوية.

ومن أمثلة الإنفاق غير الموجّه، ظاهرة الإنفاق في بناء المساجد.. فكثيراً ما نجد المساجد المتجاورة في منطقة سكنية واحدة.. في حين لم تكن هناك حاجة فعليّة إلى أكثر من مسجد واحد.. غيرَ أنّ تصوّرات الواقِف أو ربّما رغبته أو رغبة المتولِّي في منافسة المسجد الآخر أو الجماعة الأخرى منافسة ظهور.. تلك المنافسة التي تُبطِل العمل، وتحوِّله من عمل خير إلى عمل رياء وحبّ للظهور.. بل ربّما نشاهد بعض الذين يُنفقون أموالهم لبناء المساجد، يسعى لأن يكون مسجده في مكانٍ مرموقٍ، وعليه اسم المتبرِّع بالبناء ليشتهر ويُعرَف، في حين يمتنع عن بناء هذا المسجد في المناطق الفقيرة المحتاجة التي تفتقر لبناء هذا المسجد..

وثمّة مشكلة أخرى نشاهدها في الإنفاق، وهي مشكلة التوقّف عند بعض المجالات دون بعضها.. فمثلاً مَن كان لديه مال ويريد إنفاقه على شكل وَقْف أو تبرّع لا يتجاوز في تبرّعه الشعائر المألوفة كالمسجد أو الحسينية أو توزيع الطعام أو النقود على المتسوِّلين أو المعروفين بالفقر والحاجة..

إنّ هذا الإنفاق حَسن، وتحضّ الشريعة والأخلاق الإسلامية على الإكثار منه.. غير أنّ هناك حقولاً ومجالات عديدة تحتاج إلى الإنفاق في مجتمعنا، وهي بدورها تأتي بمردودات مالية، أو توفِّر الأجواء المشجِّعة على اتساع دائرة الإنفاق والمشاركة فيها.. من تلك المجالات هو إنفاق المتبرِّعين في مجال البحوث والدراسات العلمية.. كبحوث الطب والتطوير الزراعي ومراكز الأبحاث العلمية والثقافية والأندية الرياضية التي يحتاجها المجتمع.. وكرصد الجوائز التي تُشجِّع مَن يُقدِّم خدمة خيِّرة ونافعة، أو يبتكر جهازاً لخدمة الإنسانية، أو يتفوّق في المجال العلمي والدراسي، أو الإنفاق على الطلبة الفقراء الذين لا يجدون المال لمواصلة دراساتهم... إلخ.

ومن مجالات الإنفاق التي لا يُفكِّر بها المتبرِّعون والمحسنون إلّا نادراً، هو الإنفاق في المجال الإعلامي والثقافي.. إنّ إنشاء المؤسسات الإعلامية والثقافية وإسناد النشاط السياسي الإسلامي لهو من أهم المجالات التي تستحقّ أن يُنفَق فيها.. فتأسيس محطّات التلفزيون الفضائية والمحلِّية ومواقع الإنترنت وتأسيس المطابع ودور النّشر والتأليف وإصدار الصحف والمجلّات التي تهتم ببناء الإنسان على أُسس القيَم الإسلامية، أو تنشر الفكر والثقافة الإسلامية، أو تأسيس الجامعات والمدارس التي تلتزم الخط والمنهج الإسلامي، أو تأسيس دور للأزياء تهتمّ بالتصاميم والموضات التي تُراعى فيها الأحكام الشرعية، لهي من أهم الأعمال الحيوية والهامّة لبناء المجتمع على أُسس إسلامية وإصلاحية.

إنّ المساحة التي لا يفكِّر المنفقون في اقتحامها والنفقة فيها إلّا نادراً، هي مساحة العمل السياسي الإسلامي.. مع أنّ دراسة وتحليل نصوص الإنفاق في القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة، نجدها منطبقة على الحقل السياسي وحاثّة عليها، كما هي منطبقة على الحقول الأخرى.. إذا النفقة المستحبّة بل الواجبة، كالزكاة مثلاً، موجّهة لأن تُنفَق في سبيل الله، وهو سبيل الخير والإصلاح، وإنّ في مقدّمة مشاريع الخير والإصلاح هو الإصلاح السياسي وتثقيف الإنسان المسلم، وتعريف غير المسلم بقيم الإسلام ومبادئه السياسية النيِّرة، والدفاع عنها وصدّ شُبهات المعادين وتصحيح أفكار ومفاهيم الذين يُسيئّون للإسلام بفهمهم وممارساتهم الخاطئة باسم الإسلام.

وكلّ هذه المهام نهضت بها الحركات والكيانات السياسية الإسلامية المتّجهة اتجاهاً فكرياً وثقافياً سليماً بشكل واسع ومعمّق.. وغير هذا فإنّ القضية السياسية قضية هامّة وخطيرة في حياة الأُمّة.. فسعادة الإنسان واستقرار المجتمع وتقدّمه، ونشر العلم والمعرفة، وردع الظلم ومكافحة الجريمة والفساد، وإقامة العدل والعيش في ظلال الحرِّية والسلام، ونشر الأخلاق الفاضلة... إلخ، كلّ ذلك مرتبط بطبيعة النظام السياسي، ووضع الكيانات السياسية في المجتمع..

إنّ بناء معارضة سياسية صالحة وسلطة سياسية صالحة، ووجود ثقافة سياسية ووعي سياسي بنّاء يخدم مصالح المجتمع، ويسير باتّجاه القيم الإسلامية السامية، واجب كفائي، والإنفاق فيه هو أحد مصاديق الإنفاق التي حثّ عليها القرآن الكريم.. وهو من مصاديق قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة/ 2).. وغير ذلك، فكَم من ذوي الكفاءات والتفوّق من الطلبة حُرموا من إكمال دراساتهم لظروفهم الاقتصادية الصعبة.. وكم من الرجال والنساء يعاني من العزوبة وعدم التمكّن من الزواج بسبب الفقر والحاجة، وكم هم ضحايا الحروب والاضطهاد والظلم، المحتاجين للغوث والمساعدة..

إنّ الانتقال بالإنفاق من حصره في مجالات التقليدية إلى الإنفاق في موضوعات يتطلّبها الوضع الاجتماعي المعاصر، بعد تعقّد حاجات المجتمع وتطوّر تقنية المعلومات وآليات نشر الفكر والثقافة ووسائل إصلاح المجتمع؛ كإنشاء محطّات البثّ التلفزيوني الفضائية، أو تأسيس مواقع للإنترنت، أو تأسيس المسرح أو مؤسسات للتمثيل وإنتاج الأفلام، أو دور للطباعة والنشر، وصناديق لمكافحة العزوبية وإعانة الطلبة المعوزين.. إنّ إقامة مثل هذه المشاريع والإنفاق عليها، أصبحت حاجة فعلية لنشر الفكر والثقافة الإسلامية، وحلّ مشاكل المجتمع، ومكافحة الفساد والظلم والانحطاط السلوكي.. إنّ الكثير من هذه المشاريع كما هي وسائل علمية واجتماعية متطوِّرة لنشر الإسلام والإصلاح الاجتماعي، فبالإمكان أن تعود بمردود مالي على الأهداف ذاتها، شريطة أن لا يغلب فيها الجانب التجاري على الهدف الإصلاحي..

وكَمْ من الأموال تُنفَق بشكل استهلاكي ومتفرِّق.. كالصدقات التي تُعطى مفرّقة على الفقراء والمحتاجين، وبالشكل الذي يحوِّلهم في كثير من الأحيان إلى طوابير متسوِّلين، يقفون صفوفاً لانتظار الصدقة والإحسان.. أو يمدّون أيديهم لطلب العون والمساعدة..

ولكي يتحوّل المال المنفَق، كالصدقات والهبات والأوقاف والنذور والهدايا ووصيّة الميِّت المالية والتبرّعات والخُمس والزكاة.. لكي يتحوّل هذا المال إلى مالٍ مُنتج، ويوزّع بشكل يحفظ كرامة المحتاج، أو يغطِّي حاجة المشاريع والأعمال الخيرية.. لكي يتحقّق هذا، بالإمكان أن تؤسّس صناديق ومشاريع إنتاجية لتوظيف رؤوس الأموال تلك، وإنفاق أرباحها في الأهداف المُنشأة من أجلها، وتوسيع دائرة المشاريع الاستثمارية والإنتاجية ذات النفع الخيري العام..

إنّ تأسيس جمعيات خيرية وصناديق تعاونية يساهم الجميع فيها بما تيسّر لهم، ستجمع رأسمال كبير يساهم في حلِّ مشاكل المجتمع، وينمي الخير والبركة، ويجلب الرحمة والرضوان الإلهي..

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 261).

وثمّة مسألة هامّة وخطيرة في مسألة الإنفاق، وهي الانحياز في الإنفاق على غير أُسس أو موازين صحيحة، بل يتحكّم فيه عامل المحسوبية والمنسوبية وتبادل المنافع والقناعات والأمزحة الشخصية، والانتماءات الإقليمية أو الأسرية، أو الطبقية، أو غيرها من الانتماءات التي لا تقوم على أُسس صحيحة.. فقد نهت الشريعة الإسلامية عن هذا التفريق والانحياز.. وجعلت المقياس الحاجة ومصلحة المجتمع ومشروعية المجال الذي يُنفَق فيه.. (وقُل اعْمَلُوا فسَيرى اللهُ عَمَلَكُم ورَسُولهُ والمُؤْمِنُون) (التوبة/ 105). ►

ارسال التعليق

Top