• ١٩ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٠ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

الخوف من مقام الله تعالى

أسرة البلاغ

الخوف من مقام الله تعالى

ما قيمة ضعفكم أمام قوّة الله؟

يخاطب القرآن الكريم الذين يتمرّدون على الله ويتكبّرون عليه ويتحرّكون بعيداً عن مواقع رضاه: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ) (النازعات/ 27)، أيّها الناس الذين لا تقفون مع الله سبحانه وقفة الإنسان الذي يخاف ربّه ويخشع لعظمة ربّه، ما هو حجمكم، حجمكم في الجسد، وحجمكم في المعرفة أمام علم الله؟ إنّكم لا تستطيعون أن تحصلوا على المعرفة إلا بما تصل إليه أبصاركم، وتتحرّك فيه حواسكم، ولذا، ما هي قدراتكم وقوتكم أمام قوة وقدرة الله؟ (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا) إرجعوا إلى خلقكم، وانظروا في نقاط ضعفكم، إنّ الشوكة تدميكم، وقبضة التراب في الأرض اللاهبة تحرق أقدامكم، إنّ أقلّ شيء في هذا الوجود يمكن أن ينهي حياتكم، فالبقّة تؤلمكم والشرقة تقتلكم، مَن أنتم لكي تتمرّدوا على الله؟ (أأنتم أشدُّ خلقاً أم السّماء) انظروا إلى السماء بكلّ ظواهرها هذه التي بناها في عالم غيبه، ونثر كواكبها في الفضاء، هل أنتم أكبر منها، وما حجمكم بالقياس إلى حجمها؟ (أأنتم أشّدُّ خَلْقاً أم السَّماءُ بَناها * رَفَعَ سَمْكَها فسوّاها) (النازعات/ 27-28)، رفع بناءها بكلّ العناصر التي تجعلها متماسكة، فسوّاها بالطريقة التي تحقّق لها كلّ ما يريده من حكمة في خلقها، ومن نظام في وجودها وحركتها وبقائها (وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا) (النازعات/ 29)، جعل ليلها خفيّاً من خلال هذا الظلام، ثمّ أضاءها بالشمس التي تُشرق على الكون (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) (النازعات/ 30)، مهّدها لكم حتى تستطيعوا أن تعيشوا فيها (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) (النازعات/ 31)، فجّر لكم هذه الينابيع هنا وهناك حتى تستمر حياتكم، وأنبت هذا العشب وكلّ ما يمكن أن يقتات منه الإنسان والحيوان (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا) (النازعات/ 32)، وتطلّعوا إلى هذه الجبال كيف أرساها على هذه الأرض التي لا قرار لها، وأعطاها قوانينها فحفظ توازنها.. فهذه الأرض والينابيع والمراعي والجبال جعلها الله (مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ) (النازعات/ 33)، تلك هي الدنيا التي تعيشونها في أرضها وسمائها وجبالها ومائها ومرعاها ومتاعها وزينتها، تنطلقون بها وتنطلق بكم.. ولكن، ماذا بعد ذلك، هل هناك خلود؟ هل تخلد في هذه الدنيا أيُّها الإنسان الذي ترى نفسك أنّك في الموقع العظيم؟ وهل تبقى هذه الجبال والمراعي؟ وهل تبقى هذه الأرض والسماوات؟ كلُّ ذلك مجرّد مرحلة (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) (النازعات/ 34)، هذا الحدث العظيم الذي يطمُّ كلّ شيءٍ تحته، لا يبقى هناك شيء (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) (إبراهيم/ 48)، وأما الجبال بضخامتها (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا) (طه/ 105-107)، وهكذا (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى) (النازعات/ 34)، وكان الإنسان قد عاش مع أحلامه ولذائذه وشهواته، واستقام في بعض حياته وانحرف في بعضها الآخر، أطاع الله هنا وعصاه هناك، آمن به في فترة وكفر به في أخرى (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى) (النازعات/ 35)، أنت الآن غافلٌ عن سعيك وعملك، هل يدخلك الجنة أم النّار؟ ماذا عملت، وما نظام عملك وخطّ عملك ونهايات عملك؟ هل فكّرت بذلك؟ أم أنّ الأمر عندك، أن تأكل وتشرب وتتلذّذ وتشتهي؟ هل منا مَن يقف في كلِّ صباح ومساء ليتذكّر ما سعى؟ كم لنا من السعي في كلِّ يوم، ما هو عدد كلماتنا فيما يُرضي الله أو يسخطه؟ كم نتحرّك في أيدينا وأرجلنا وألسنتنا فيما نرى فيه مصلحة للإيمان أو مصلحة للشيطان؟ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ) (الحشر/ 18)، أن تنظر هذه النفس لغد الآخرة، للغد الذي تقف فيه بين يدي الله، حيث سيسألها الله عن كلِّ ما قدّمت، وستقرأ كتابها عندما يُوجّه إليها السؤال عن كلِّ ما عملت (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ مَا سَعَى).

 

يوم لا ينفع مال ولا بنون:

ويقف الناس جميعاً في هذا اليوم (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى) (النازعات/ 36)، وفي يوم القيامة تبرز الجحيم واضحة، وتنطلق الصرخات (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) (الأعراف/ 50)، ومن أين لهم أن ينالوا ذلك وقد كانوا يسخرون منهم ويضحكون عليهم ويستهزأون من إيمانهم بالله واليوم والآخر (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) (الحديد/ 13) وها هي النتائج (فَأَمَّا مَنْ طَغَى) (النازعات/ 37)، الطغيان كلمة نطلقها عادة على الحاكمين المستكبرين، ولكنّ المقصود منها هنا، تجاوز الحدّ (فَأَمَّا مَنْ طَغَى) أي تجاوز الحدود التي رسمها الله للإنسان فيما يجب أن يأخذ به، أو فيما يجب أن يتركه، فالله تعالى حدّ لنا حدوداً، حدّ لنا الحلال، وقال للإنسان: اشرب ما تشاء، ولكن لا تشرب الخمر، وكُلْ ما شئت ولكن لا تأكل كلّ ما حرّم الله (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) (البقرة/ 173)، وهكذا أيّد مَن شئت وارفض مَن شئت، ولكن بشرط أن يكون هذا التأييد في خطِّ رضى الله سبحانه، فالله وضع للحلال والحرام حدّاً (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (البقرة/ 229)، الذين يتجاوزون الحدَّ ويحرّكون شهواتهم فيما يُغضب الله.

ومن هنا، فإنّ القرآن الكريم لم يمنع التمتّع بالمشتهيات، لكن ضمن الحدود التي رسمها الله تبارك (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 32)، "فالدنيا إذا أقبلت فإنّ أحقَّ الناس بها أخيارها لا أشرارها وأبرارها لا فجّارها" ولذا، "فليس الزهد ألا تملك شيئاً ولكنّ الزهد ألا يملكك شيء"، وعليه، فإنّ الله لم يحرّم علينا طعاماً أو شراباً أو لذّة أو طيِّبات ضمن الحدود المرسومة.

"فأمّا مَن طَغى" وفي يوم القيامة يُسأل هذا الذي تعدّى حدود الله، عن تأريخه فيما قضاه وعن مواقفه ومأكله ومشربه ولذائذه (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف/ 49)، وهذا الذي طغى يُسأل عن تأريخه، فإذا كان منطلقاً على أساس تجاوز الحدود التي رسمها الله له (وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (النازعات/ 38)، فالذي يقدّم الدنيا على الآخرة هو الذي تعدّى حدود الله مُؤْثِراً الدنيا على الآخرة، أما المؤمن، فإنّه يردّد مع الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "اللّهمّ ومتى وقفنا بين نقصين في دين أو دنيا فأوْقع النقصَ بأسرعهما فناءً واجعل التوبة في أطولهما بقاء" قل: يا رب اجعل النقص فيما يزول، واجعل التوبة والثبات فيما يبقى "وإذا هممنا بهمّين يُرضيك أحدُهُما عنّا ويُسخطك الآخرُ علينا. فَمِلْ بنا إلى ما يُرضيك عنّا، وأوهِنْ قوّتنا عمّا يسخطك علينا، ولا تُخَلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها، فإنّها مختارة للباطل إلا ما وفّقتَ، أمّارةٌ بالسُّوء إلا ما رحمت.

إذاً (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 37-39)، فهذا الذي طغى وتجاوز في تأريخه وحياته حدود الله، وكانت الدنيا همّه دون الآخرة، يُقال له: لقد حفروا لك في الآخرة مكاناً ملتهباً بالنيران، تجتمع فيه مع أصحابك في الدنيا ممن كانوا من الطّاغين والمستكبرين.

 

مقاومة النفس الأمّارة بالسوء:

هذه هي نهاية هؤلاء، وهناك نهايةٌ أخرى لمن يقفون معهم على طرفي نقيض (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات/ 40)، فقد عرف الله في عظمته ونعمته، وهو من المؤمنين (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال/ 2)، فمن خاف مقام ربِّه فيما يُقدم عليه بين يديّ ربّه، خاف من سخط الله وغضبه، لذلك (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) (النازعات/ 40)، يقف بينه وبين نفسه عندما تخاطبه: إنني أشتهي المال الحرام، فاسرق فلاناً في غفلاته، وانطلقْ في التجارة الحرام، وكُل أموال الناس بالباطل، فيجيبها: يا نفس، إني أخاف الله، وأنتِ عندما تطلبين مني القيام بالشهوة الحرام التي يهتزّ لها الإحساس ويرتاح لها الجسد، فمعنى ذلك أنّك تدفعين بي للاحتراق في نار جهنّم (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ) (النساء/ 56)، ما قيمة هذه الشهوات، أمام ما سيعانيه الجسد من عذاب وآلامٍ في يوم القيامة؟ وهكذا، فليحدّث الواحد منّا نفسه حديثاً موضوعياً على الدوام، فإذا طلبت منه النفس شيئاً فليدرس طبيعة هذا الشيء من ناحية الأرباح والخسائر، لا على مستوى الدنيا وحسب، بل على مستوى الآخرة. أدرس مع نفسك ذلك، لأنّ النفس أمّارة بالسوء واطلب رحمة الله في ذلك، وقل: "اللّهمّ أعِنِّي على نفسي بما تُعين به الصالحين على أنفسهم" انْهَ نفسك عن الهوى المحرّم، ولكن ليس معنى ذلك أن تخنق نفسك في كُلّ ما تشتهيه، اطلق لنفسك شهوتها ولذّتها في الحلال، وعندما توجهها نحو الحلال في لذّتها، اطلق لها شهوتها ولذّتها في هذا الحلال، وعندما توجّهها نحو الحلال في لذّتها، فإنّك تصرفها عن الحرام فيما تريده، والله تعالى يثيبك على ذلك. وقل لمن يريد أن يُوقعك في المعصية: (قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (الأنعام/ 15)، قل لمن يريد أن يشغلك عن ربِّك في ذلك: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (النازعات/ 41)، هذا ما تناله عندما تعيش الاستقامة في طريق الله، فلا تستحضر إلا اللهَ وحده في كلّ حركتك، فلا تخضع لأحدٍ في معصية الله، كما قال الإمام عليٌّ (ع) عن المتقين: "عَظُم الخالق في أنفسهم، فصغُر ما دونه في أعينهم" فلم يروا شيئاً إلا ورأوا الله معه وبعده وقبله.

ارسال التعليق

Top