• ٢٠ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١٨ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وحدانية الله في ذاته

وحدانية الله في ذاته

من أين نعرف أنّ هذا القرآن هو كلام الله؟ من أين يمكن إثبات أنّ هذا القرآن الذي يتضمن شهادة الله، هو كلام الله؟ والجواب: أنّ القرآن أثبت انتسابه إلى الله تعالى عن طريق تحدّي الناس، وعن طريق عجز الناس عن مواجهة هذا التحدّي، والإتيان بمثل القرآن في جميع الدهور.

وأمّا الفريق الثاني من الشهود، أعني: الملائكة، فهو يسبح لله باستمرار وعلى الدوام وينزّهه، ويقدّسه عن كلّ عيب ونقص وخاصّة عن الشريك.

وقد نقلت شهادة هذا الفريق في الكتاب العزيز بنحو آخر، إذ يقول القرآن: (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (الشورى/ 5).

وأمّا الفريق الثالث من الشهود، أعني: أولي العلم، فهم يشهدون بوحدانية الله بالاستلهام من البراهين المتنوعة، كبرهان (الفطرة)، لأنّ الإنسان يتوجه عند الشدائد، إلى الله الواحد دائماً، وهذا هو خير دليل على وحدانيته سبحانه.

هذا بالإضافة إلى غيره من الأدلّة العقلية، وآيات وحدانية ذاته تعالى، التي تهديهم إلى هذه الشهادة.

ففي الآية 11 من سورة الشورى جاء قوله سبحانه هكذا: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). في الآية الرابعة من سورة الإخلاص نقرأ قوله سبحانه: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أحَدٌ).

فلماذا ليس لله مثيل ولا نظير؟ فهل من غير الممكن أن يكون له نظير؟ أم أنّ ذلك ممكن – أساساً – ولكن لم يكن لله تعالى نظير ولا مثيل من باب المصادفة والاتفاق.

إنّ الدلائل العقلية والقرآنية تهدينا إلى امتناع مثل هذا الكفر والنظير – أساساً – ولذلك يتعيّن علينا أن نتوقف هنا قليلاً ونصغي إلى شهادة العقل.

لقد استدل الفلاسفة الإسلاميون على وحدانية الذات الإلهية المقدسة من طريقين:

أ‌.  الوجود (غير المتناهي) لا يقبل التعدّد.

ب‌.  الوجود (المطلق) لا يقبل التعدّد.

وسنعمد إلى توضيح البرهان الأوّل فحسب، لكونه ذا جذور قرآنية.

والآن يجب علينا إثبات الأمرين بأوضح دليل وبرهان.

أ. وجود الله غير متناه

ب. الوجود المطلق لا يقبل التعدد.

وسنعمد هنا إلى توضيح البرهان الأوّل فحسب لكونه ذا جذور قرآنية والآن يجب علينا إثبات الأمرين بأوضح دليل.

أ. وجود الله غير متناه.

إنّ محدودية الموجود ملازمة للتلبس بالعدم.

لنفترض كتاباً طبع بحجم خاص، ثمّ لننظر إلى كلّ طرف من أطرافه الأربعة، فإنّا نرى أنّه ينتهي إلى حد معيّن ينتهي إليه وجود الكتاب، وحدود حجمه، ولا شيء وراء ذلك.

من هذا البيان نستنتج أنّ (محدودية) أيّة حادثة من حيث (الزمان) أو محدودية أي جسم من حيث (المكان) هي أن يكون وجوده مزيجاً بالعدم، وأنّ المحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.

ولذلك فإنّ جميع الظواهر والأجسام المحدودة (زماناً ومكاناً) مزيجة بالعدم، ويصح لذلك أن نقول في حقّها بأنّ الحادثة الفلانية، لم تتحقق في الزمان الفلاني أو أنّ الجسم الفلاني لا يوجد في المكان الفلاني.

على هذا الأساس لا يمكن اعتبار ذات (الله) محدودة، لأنّ لازم المحدودية هو الامتزاج بالعدم، والشيء الموجود الممزوج بالعدم موجود باطل لا يليق للمقام الربوبي الذي يجب كونه حقاً ثابتاً مائة بالمائة. ويمكننا أن نستدل لإثبات لا محدودية الذات الإلهية بدليل آخر هو: عامل المحدودية منتفية في ذاته: ويقصد من (انتفاء عوامل المحدودية في ذاته) أنّ للمحدودية موجبات وأسباباً، منها: (الزمان والمكان) فهما من أسباب محدودية الظواهر والأجسام.

فالحادثة التي تقع في برهة خاصّة من الزمان حيث إنّ وجودها مزيج بالزمان، فمن الطبيعي أن لا تكون هذه الظاهرة في الأزمنة الأُخرى. كما أنّ الجسم الذي يشغل حيزاً ومكاناً معيناً من الطبيعي أن لا يكون في مكان وحيز آخر، وهذا هو معنى (المحدودية). في هذه الصورة لابدّ أن يكون وجود الله المنزّه عن الزمان والمكان منزّهاً من هذه القيود المحدّدة.

وحيث لا يمكن تصوّر الزمان والمكان في شأنه تعالى، لزم وصفه سبحانه باللا محدودية من جانب الزمان والمكان.

وبتعبير آخر، أنّ الشيء الذي يتصف بالكم والكيف لابدّ وأن يكون محدوداً بحدٍّ، إذ لازم اتصاف الشيء بكمية أو كيفية معينة، هو عدم اتصافه بكمية وكيفية أخرى مضادة.

أمّا عندما يكون الشيء خالياً وعارياً عن أي نوع من أنواع الكيفية والكمية، بل يكون وجوده أعلى من الاتصاف بهذه الأوصاف فإنّه يكون لا محالة (غير متناه) وغير محدود من هذه الجهات، كما هو واضح وبديهي.

إلى هنا استطعنا أن نثبت لا محدودية الذات الإلهية، وقد حان الأوان أن نثبت المطلب الثاني، أعني: عدم إمكان تعدّد اللامحدود.

ب. اللامحدود لا يتعدّد.

هذا أمر يتضح بأدنى تأمل، لأنّنا إذا اعتبرنا (اللامحدود) متعدداً فإنّنا نضطر حينئذ. لإثبات الاثنينية. إلى أن نعتبر كلّ واحد منهما (متناهياً) من جهة أو جهات، ليمكن أن نقول: هذا غير هذا. لأنّ دينك الشيئين إذا كان أحدهما عين الآخر من كلّ الجهات لم يصدق كونهما اثنين، أي لم تصح الاثينية.

 

-         وبعبارة أُخرى:

إنّ نتيجة قولنا: هذا غير ذاك. هي أنّ وجود كلّ واحد منهما خارج عن وجود الآخر، وإنّ الثاني يوجد حيث لا يوجد الأوّل ويوجد الأوّل حيث لا يوجد الثاني، وهذه هي (المحدودية) و(التناهي)، في حين أنّنا اثبتنا في الأصل الأوّل: (عدم محدودية الله وعدم تناهيه).

ارسال التعليق

Top