• ٢٨ آذار/مارس ٢٠٢٤ | ١٨ رمضان ١٤٤٥ هـ
البلاغ

لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟

لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟
ثمّة حقيقة مؤلمة يمكن أن نتواجه معها على مستوى مجتمعنا عموماً في زمكانيته المعاصرة، إنها حقيقة غياب الموضوعة الإنتاجية في كافة البنى الاجتماعية والإقتصادية.. إلخ، وهذا الغياب يجعل من واقعنا عموماً مجتمعاً استهلاكياً، بل مفرطاً في الإستهلاكية، إلى حد الإختناق.. بحيث يجعل الفرد لدينا مترهلاً في وجوده الاجتماعي والثقافي، مما يُغيِّب الشخصية الواعية أو الشخصية القادرة على أن تكوِّن لنفسها وعياً مصيرياً شاملاً.. وهنا يصبح واقعنا بمجمله في مهب الريح، تعصف به رياح الآخر أنَّى شاءت، ولا حول لنا ولا قدرة غير ابتلاع المهدئات لامتصاص الصدمات، وأن نتحسر على ماضينا "كان يا ما كان في قديم الزمان"، وأن نفتخر بما كان. ونأكل ونشرب ونستهلك كل ما يُصَدَّر إلينا، وندَّعي أننا نعيش على ذمة التاريخ في الحضارة الحديثة. ما الذي ننتجه على مستويات السلع الإقتصادية، والعلاقات الاجتماعية، والوعي الثقافي الإعلامي، والقضايا المصيرية المتميزة؟!! لا شيء من هذا كله.. وفي الوقت نفسه نعيش تخمة استهلاك المضخة المتجسدة في كرة القدم، الشكولاته، ومضخة آخر ما أنتجته الموضة، وأحياناً، وفي لحظات نادرة، استهلاك مضخة مصيرنا العربي المشتت المتصارع المستعمَر المتَهك بتوالي النكبات والحروب. إن هناك غياباً حقيقياً للبرمجة التربوية الثقافية المنتجة في المدرسة والجامعة، بل هناك محاربة للقراءة والكتاب الثقافي الجاد، في مقابل ترويج متعمد لكل ما يفقد شخصيتنا وهويتها الثقافية المصيرية، لتصبح القراءة الجادة سلعة يُستهزأ بها، ولتصبح الثقافة الجادة قيمة غير حضارية، والكتاب الجيِّد عبئاً.. في حين تتلخص الحضارة في الفيدو الأسهل للهضم والإخراج من قراءة لابدّ أن تحتاج إلى قارئ منتج لإنتاج قيمها الإنسانية والجمالية!! لماذا نحن مجتمع لا يقرأ؟! إنّ هذا أخطر سؤال ثقافي!! لأنّه سؤال مصيري!! وجوابه ببساطة: نحن لا نقرأ لأننا لا نفكر، ولا نريد أن نفكر!! الكتابة المبتذلة كتابة مقروءة في مجتمعنا.. هنا ندرك الفرق بين توزيع الكتب الفضائحية والمجلات الرائجة، وكتابات الإثارة وبين توزيع كتاب ثقافي، أو نقدي، أو تاريخي، فمن النوع الأوّل قد نوزع ملايين النسخ، في حين لا يزيد ما نوزع من النوع الثاني على المئات.. لماذا نحن لا نقرأ؟ لماذا نحن لا نفكر؟ لماذا نحن لاننتج؟ لماذا نحن لا نخطط؟ لماذا نستهلك كل ما ليس فيه جدوى؟ هذه الأسئلة وغيرها كلها مترادفة، وكلها تحتاج إلى إجابة واحدة!! هي: أن نبني هويتنا المصيرية!! كان علينا مثلاً أن نقرأ اليابان الحديث، لنتمثل شيئاً من هذا التاريخ بدل أن نُعلّم في المدارس فوائد الإستعمار في بلادنا.. وكان علينا أن نخطط لخمسمائة سنة قادمة كما تفعل الصين بدل أن نحتفل بتواريخ "داحس والغبراء".. وكان علينا أن نطبع عشرة ملايين نسخة شهرياً من كتاب مصيري ثقافي جاد ونوزعه بسعر مخفض، بدل أن تكون أسعار الكولا والشوكولاتة والهمبورغر مخفضة قبل أن تُشرب وتؤكل لندفع التسعيرة مرتفعة نتيجة لأمراضها التي تحتاج إلى ميزانية خاصة.. وكان علينا أن نبث القراءة والكلمة من خلال التلفاز.. بدل أن نصرف المليارات في أغاني الفيديو كليب. ومن يرانا نغني ليل نهار، يقول عنا "لا هم دنيا ولا عذاب آخرة". وكأننا لسنا في زمن المصيبة!! إن مصيرنا الثقافي في طريقه من انهيار إلى انهيار، بفعل غياب الكلمة الجادة المقروءة.. وغياب المؤسسات التربوية الموجهة لأجيال الأُمّة!! كيف نبدأ هذا الإشكالية (إشكالية القراءة) وكيف ننتهي منها؟! إنها الجرح الذي لا يندمل لكن هناك وسائل كثيرة يمكن أن نعيد من خلالها ثقة الأجيال الجديدة بواقعها للنهوض به. وبداية يجب تكريس القراءة والكتابة كفعلين انتاجيين عن طريق الحد من المجاري الإستهلاكية المبتذلة. ويجب علينا أيضاً السعي الدائم إلى توزيع الكتب الثقافية والفكرية والأدبية بأسعار تشجيعية، وتعويد طلبة المدارس تحديداً على ضرورة قراءة كتاب أو كتابين شهرياً وإدخالهما في سياق المناهج المفتوحة على الواقع والعلاقات للتعريف بالذات والصور المتوقعة أو المفروضة لبناء العلاقة مع الآخر. فالتربية الوطنية والثقافية الجادة هي التي تنتج جيلاً منتجاً واعياً، جيلاً قادراً على أن يقف في وجه الأعداء الذين يحاصرونه من كل جانب، وبالتالي نستطيع أن نسقط كرقابة ثقافية أية فضائيات إباحية، أو مجلات هابطة تتقصد استعمارنا ثقافياً، الإستعمار الذي تجاوز إلى حد كبير الإستعمار العسكري، خاصة وأنّ الأمية الثقافية أخطر بكثير من الأمية العسكرية، لأنّ الوعي الثقافي هو الأقدر على أن يعرفنا العدو من الصديق، وأن يجعلنا بالتالي نعرف كيف نبني قدراتنا الذاتية المصيرية لنتمكن من العيش بسلام وأمن في هذا العالم المليء بالذئاب!!   المصدر: مجلة الكلمة/ العدد 21

ارسال التعليق

Top