◄لفتت انتباهي قبل سنوات صورة تناقلتها الصحافة الغربية لإمرأة تنام في حضن "روبوت" أو إنسان آلي في شكل يوحي بأنّ هناك علاقة عاطفية تجمع الكائنين الإنساني والآلي معاً، في دلالة مستقبلية على ثورة في مفهوم العلاقات العاطفية بين البشر، بل وثورة في تقنيات تصميم الروبوت أو ما يعرف بالإنسان الآلي إلى الدرجة التي تجعله قادراً على التفكير، من دون الكلام.
استدعيت الصورة في تأملي لفكرة تستغرقني منذ فترة حول طبيعة العلاقات البشرية، الراهن منها وتخيل مستقبلها بعد عدة عقود من الآن. واليوم يزداد إلحاح الفكرة في ظل ثورة الاتصالت التي أحدثتها الإنترنت والشبكات الاجتماعية على نحو خاص وما سبقها من برامج التواصل اليومي مثل برامج الدردشة، ودورها في تغيير وتثوير الكثير من القيم في الوقت الراهن، وفي القلب منها سؤال عن التناقض اللافت في حالة التواصل الاجتماعي التي تحدث بين الأشخاص افتراضياً على حساب التواصل الشخصي، القائم بين شخصين متجاورين لا يتحدث أيّ منهما للآخر، بينما يجري بينهما وبين أشخاص عدة في مناطق بعيدة تعليقات ومناقشات عديدة.
هذه صورة واحدة من صور أخرى عديدة تتخلق بفعل ظواهر الاتصال الجديدة، والعوالم الافتراضية التي تتسع وتتزايد يومياً، لكن ما يهتم به هذا الموضوع هو حجم التناقض الكبير بين المعدل المتصاعد لعدد مستخدمي شبكات الإنترنت في العالم، وما يصحب ذلك من طفرات في استخدام وسائل اتصال جديدة ومتطورة تيسر استخدام الشبكة في كل لحظة، مثل أجهزة "أيفون"، "أيباد"، "جالاكسي"، وغيرها، وهو ما يعني تزايدا مطردا في معدل استخدام "وسائط اتصال" بين الأفراد في أرجاء العالم، بينما ما يحدث في الواقع هو المزيد من حالات "سوء التفاهم"، بدءاً من ارتفاع معدلات الطلاق في المجتمعات المختلفة، وارتفاع حدة التوتر الطائفي في العديد من مجتمعات العالم، وخصوصاً في العالم الثالث، وصولاً لسوء التفاهم المستمر بين الحضارات في الشرق ونظيرتها الغربية، فكيف يمكن فهم هذا التناقض؟
التواصل والاغتراب:
بصياغة أخرى هل يمكن لهذا الاتساع في السعي البشري نحو التواصل أن يسد فجوة سوء الفهم، أم أنّ وسائل الاتصال الحديثة هذه من شأنها أن تزيد من عزلة الفرد يوماً بعد آخر، بحيث تصبح "أداة الاتصال" هذه غاية في حد ذاتها؟ وبهذا لن يكون أمام الفرد في النهاية إلا السعي إلى التفاهم المثالي ممثلاً في روبوتات تعوض الفرد ما لم يجده من فهم عاطفي وفكري في العالم الحقيقي، فهل سيجد الإنسان ضالته في آلة تستنسخ من الكائن البشري هيئته، وتخلو من تناقضات سلوكياته؟ وعندها هل سيكون الإنسان بالفعل قد بلغ مراده، أم أنّه يبلغ بذلك نهاية حلقة جديدة؟
ربما يكون من المهم هنا التركيز بداية على لون من ألوان التواصل البشري على شبكة الإنترنت ممثلاً في العلاقات العاطفية الافتراضية والتي تمثل اليوم ظاهرة لا يستهان بها، حيث تعد الشبكة الافتراضية وسيلة من وسائل التعرف على عدد كبير من الأشخاص، تحول بين التقائهم في "الواقع" ظروف عدة تبدأ من ظروف وطبيعة العمل، أو البعد الجغرافي، أو التواجد في بيئة ثقافية تختلف عن الذهنية الثقافية التي ينتمي لها الفرد، ما يضطره للبحث عن طرف مماثل لظروفه عبر فضاء الشبكة وغير ذلك من العوامل.
فيما يتعلق بوسيلة التعارف فهناك العديد من الوسائل، من بينها شبكات التواصل الاجتماعي ذاتها، أو المواقع المتخصصة في إيجاد الشركاء العاطفيين، أو مواقع الباحثين عن شركاء لحياتهم أو حتى الباحثين عن علاقات حميمة.
والحقيقة أنّ مثل هذه المواقع بقدر ما توفره من فرص افتراضية لعلاقات واقعية وحقيقية، لكنها قد تواجه بعض العقبات الثقافية التي تنشأ من اختلاف العلاقة الافتراضية عن العلاقة الحقيقية، فالعلاقة بين شخصين على الإنترنت قد لا توفر تعريفاً بالشخص وجهاً لوجه وبالتالي فهي تفتقد أيضاً نقل التأثير الكيميائي للشخصيات التي قد تنسجم أو تختلف بناء على اللقاء الشخصي الواقعي.. ولكن حتى هذه المشكلات أصبح لها اليوم حلول توفرها كاميرات أجهزة الحاسوب الآلي (ويب كام) التي قد تنتقل بالحوار بين الأطراف المعنية من منطقة الدردشة النصية إلى الحوار بالصوت والصورة.
كما أنّ هذه العلاقات، وكل العلاقات الافتراضية في الحقيقة، تفرض سؤالاً عن مدى التوافق أو الاختلاف بين الشخصية الافتراضية على الإنترنت مقابل الشخصية الواقعية في الواقع الحقيقي. بمعنى هل يكون الشخص "الافتراضي" بالطريقة التي يكتب بها أو الاسم الذي يقدم نفسه به، وما يتيحه من معلومات شخصيته يعبر عن هوية حقيقية تماثل شخصيته الواقعية؟
- الهوية خلف القناع!
يفتح هذا السؤال الباب على ما يعرف في العالم الافتراضي بالهوية ذات القناع: وهي هوية مستخدمي الشبكة خصوصاً ممن يتعاملون مع الشبكة بأسماء افتراضية غير حقيقية، أو يقدمون معلومات غير حقيقية عن أعمارهم وبياناتهم الخاصة بشكل عام. ففي كتابهما المشترك "بناء عالم افتراضي" يقدم المؤلفان المتخصصان في الدراسات الثقافية ريتشارد كوين ودوريان ويزنيوسكي دراسة معمقة في هذا الموضوع، يقولان فيه إنّه حتى الشخصية خلف القناع لابدّ أن تحمل ظلالاً من الشخصية الحقيقية، سواء في طريقة الكلام التي يعبر بها الشخص عن ذاته، أو طبيعة الشخصية التي يقدم بها نفسه، فعندما يعرف شخص افتراضي نفسه مثلاً بأنّه مطرب أو حتى نجم من نجوم موسيقى الروك فهذا عادة ما يعكس ولعاً أو تفضيلاً للشخص خلف القناع لهذا النوع من الموسيقى.
هناك اليوم دراسات عديدة حول موضوع "الشخصية خلف القناع"، ويختلف تناولها حسب الصور المختلفة لها على الفضاء الافتراضي، فالشخصية خلف القناع قد تستخدم شخصيتها الوهمية أو المختلفة تلك، لأنها لا تشعر بالثقة في النفس، ولا تستطيع الكشف عن شخصيتها الحقيقية حتى تستطيع التصرف بشكل أكثر ثقة بالذات، وقد يستخدم البعض شخصية وهمية لتلافي سرقة هويتها الحقيقية على الإنترنت، حيث إنّ القراصنة يقومون بالقرصنة على حسابات الأشخاص يومياً بالآلاف، أو قد يستخدم الشخصية الوهمية لأغراض الجنس، أو حتى لعمل عمليات شراء أو بيع إلكترونية، أو لمجرد تحرر الشخص من قيود تتعلق بهويته الحقيقية ويجد في الشخصية خلف القناع لوناً من ألوان التصرف بحرية. ويرى المختصون أنّ الشخصية تقتضي من الشخص خلف القناع أو يختلق شخصية أخرى حيث عادة ما تطلب منه المواقع المختلفة اسماً وعمراً وبيانات، باختلاقها يكون قد اختلق شخصية أخرى لكنها تشترك في تحديد هويته الملتبسة.
ويرى باحثون أنّ الذين يستخدمون هذه الشخصية ممن يعانون من الثقة في الذات يمرون بخبرات تساعدهم على تحديد هويتهم وشخصياتهم الحقيقية، خصوصاً من المراهقين وصغار السن. وهي شخصية هويتها تتحدد بعيداً عن الشكل ولا يفترض أن يكون لها جسم، بل شخصية اعتبارية هويتها ذهنية في المقام الأوّل.
العواطف والأقنعة:
فيما يتعلق بالجانب الخاص بالعلاقات يشكك البعض في إمكان نجاح علاقات عاطفية تبنى على أساسٍ تعارف شخصين في العالم الافتراضي، خصوصاً أنّ الكثير من هذه العلاقات قد تنشأ بين أشخاص يعيشون في مناطق جغرافية بعيدة عن بعضهم بعضاً مما قد يمنع فرض اللقاء الفيزيقي بينهم.
لكن باحثين آخرين يرون أنّ هذه العلاقات قد يكتب لها النجاح عندما يتم نزعها من الإطار الموضوعة فيه بوصفها "علاقات افتراضية"، ووضعها فيما يفترضونه إطاراً أصوب وأكثر واقعية على اعتبار أنها علاقات حقيقية سلكت وسيلة افتراضية للتلاقي الفيزيقي، وبالتالي فإنّ فرص نجاح العلاقة أو فشلها في النهاية تخضع لسلوكيات الفرد في العالم الواقعي بلا أي أوهام.
ويخضع هذا النوع من العلاقات اليوم للبحث والدراسة في فروع علم النفس، والبحوث المتخصصة في دراسة العلاقات بين الجنسين، وفروع الدراسات الثقافية الخاصة في الاتصالات الافتراضية، ولا يزال الكثير من نتائج أبحاث هذه الدراسات قابلاً للتعديل والإضافة باعتبار جدة هذا النوع من العلاقات بشكل عام.
ربّما يسعى الباحثون للتعرف على مزايا هذا النوع من العلاقات أملاً في القضاء على الفكرة المستقبلية المختلفة اليوم من قبل المتخصصين في المستقبليات والذين يبشرون بنزعة الإنسان للفردية الخالصة واستبدال علاقاتهم العاطفية البشرية بأخرى ذات طابع آلي.
في بحث هذه المسألة اهتمت الدراسات الخاصة في هذا الموضوع بفكرة المجتمع أو الجماعة الافتراضية، فبالرغم من أنّ التواصل الاجتماعي عبر الشبكة يعد لوناً من ألوان الاتصال العابر للثقافات، وللحدود المكانية والجغرافية، لكنه من جهة أخرى قد لا يحمل البعد التعددي الذي يبدو بديهياً في الطريقة التي تعمل بها هذه الشبكات، فهناك الكثير من الجماعات التي ترتبط ببعضها بعضاً لإنتمائها الجغرافي لمكان، أو لاتحاد هويتها أو لقناعات عقيدية أو حتى لفكرة قومية تجمع عدداً من المغتربين مثلاً من منطقة محددة في كيان افتراضي على صفحات الموقع الاجتماعي.
مجتمع واقعي ومدينة افتراضية:
هناك دراسات ثقافية مهمة عن الموضوع تبدأ من دراسة فكرة "المجتمع"، لكن لفهم فكرة المجتمع "الافتراضي" ومقارنتها بالمجتمع الحقيقي هناك دراسة مهمة لأحد الأكاديميين المرموقين في هذا المجال وهو جوديث دوناث، يوضح فيها أنّه لكي نفهم فكرة المجتمع الافتراضي لابدّ من فهم فكرة بناء هذا المجتمع، ومن أجل ذلك يعقد مقارنة بين المدينة في الواقع الحقيقي، والمدينة الاعتبارية أو الافتراضية على شبكة الإنترنت، ويقول إنّ العالم الافتراضي على الشبكة أشبه بمدينة، من حيث إنها تجمع عدداً هائلاً من السكان، لكن هؤلاء السكان لا تجمع بينهم الكثير من الصفات المشتركة، وتسيطر عليهم حالة من العزلة عن محيطهم، على عكس مجتمع القرية.
ومع التأكيد على الفارق الرئيسي بين بناء مدينة في الواقع الحقيقي وبناء مدينة افتراضية من حيث إنّ الأولى لها بنية تحتية لها هيكل واضح، ومؤسسة وفقاً لأسس محددة، بينما الثانية لا تمتلك هذه الخاصية وتميل لحالة من التجريد والسيولة في التصميم، لكن هناك بعض المشتركات المتوازية التي يؤسس عليها فكرته، وبينهما أنّ المجتمعين الواقعي والحقيقي يضمان تجمعات نابضة بالحياة تمثلها تجمعات بشرية، ومراكز تجارية وترفيهية، والمصممون لكلا النموذجين من المجتمعات يقومون بتشييد تصميمات لبيئات تتأثر بالتفاعل بين مكونات المجتمع والثقافة التي تتشكل حولهم بناء على هذا التفاعل ومن بين أوجه الشبه أيضاً أنّ المدينة الحديثة يعيش بها ملايين البشر، ما يعني أنّ الروابط الاجتماعية بينهم ضعيفة، وهو ما يعني أيضاً أنّ سكان المدينة متحرر من الروابط والأعباء الاجتماعية، لكنه في الوقت نفسه يعاني من الاغتراب.
ويرى دوناث أنّ الشخص في المدينة وبسبب عدم متانة الارتباط الاجتماعي قد يكون أكثر وقاحة في التعامل مع بعض الأفراد ممن يعرف أن لقاءه بهم لا يتجاوز المرة التي التفاهم بها عن طريق الصدفة، وهو ما لا يحدث في المجتمعات المغلقة أو الصغيرة.
وفي المدينة أيضاً تكون الروابط بين البشر ضعيفة وعندما يتصلون ببعضهم ببعضاً فلا يتجاوز ذلك التعليقات العابرة ولا تكون هناك معرفة بالكثير من الأمور الشخصية بين الطرفين.
وفي هذه المدينة الشاسعة تنمو معرفة الإنسان بنفسه للفرد أن يتعرف على العديد من الأفكار، التي تتيح له في مجتمع مفتوح أن يتحرك بينها ويعدل من آرائه ويكتسب معرفة مختلفة بين آنٍ وآخر. وبسبب سرعة التنقل بين الأماكن الذي تتيحه العوالم الافتراضية، بين المواقع المختلفة في فضاء غير مكبل بقيود الجغرافيا يمكن للفرد أن يعرف ويتيقن من خبر أو معلومة في زمن قياسي يتيح له الكثير من المعرفة التي تعمل على زيادة التنمية الذاتية للفرد.
لكن الفارق الأساسي بين من يقوم بتصميم مدينة حقيقية أو مبنى في مدينة واقعية، ومن يقوم بتصميم مدينة افتراضية أنّ وحدة البناء في الأولى جزء من منظومة أبنية أخرى، بيما وحدة البناء في المدينة الافتراضية هي كل التصميم، وقد لا يمكن في هذه الحالة فهم ما إذا كان التصميم جيِّداً أم لا. لكن يمكن القول إنّه إذا شعر الفرد بقدرته على التفاعل ورغبته في ذلك بشكل مطرد فهو دليل على رحابة التصميم وجودته وتوفير المصمم لأدوات التواصل المناسبة.
مدن بلا أجساد!
وفي المدينة أو المجتمع الافتراضي يفرض غياب الجسد نفسه في هذا المجتمع مما يخلق إشارات أو رموز تعبيرية يوضح بها سكان هذا المجتمع حالاتهم النفسية أو وضع ابتسامات افتراضية أو ملامح يعبرون بها عن حزنهم أو غضبهم في مجموعة من الرموز التي تشكل اليوم لغة عالمية يستخدمها سكان المدن الافتراضية على الشبكة.
ومع ذلك، أي مع غياب الجسد، فإن وعي ساكن المدينة الافتراضية بوجود آخرين في نفس وقت تواجده على الشبكة يشكل أهمية كبيرة لديه، فالبشر كائنات اجتماعية في النهاية تربكها العزلة، وترغب في القضاء عليها. وهذا ما يفسر الإقبال على برامج الـChatting، حتى على المواقع الاجتماعية التي لا تتوقف فكرة الدردشة فقط.
ويصبح سؤال الموت رئيسياً هنا، ففي الواقع الحقيقي يؤدي الموت إلى نهاية عمل الجسد، واختفائه في القبر، فكيف هو الحال في الواقع الافتراضي. وما هو البديل في المدينة الافتراضية؟ هذا السؤال لا يزال مثار بحت ودراسات عدة، بينها دراسة لكولوك وسميث يقولان فيها إنّ الهوية بديل الجسد في العالم الافتراضي.
لكن موضوع الجسد وأهميته وبدائله من جهة أخرى يشير إلى عامل نفسي يتمثل في أهمية إدراك الفرد وجود الآخرين في الواقع الافتراضي، ما قد يفسر الإحساس الذي يشعر به من يتعامل مع موقع تواصل اجتماعي مثل "تويتر"، يبدو فيه الفرد يتحدث إلى نفسه أكثر كثيراً من التعامل مع مواقع التواصل الأخرى مثل "فيس بوك" و"لينكد إن"، وهذا الشعور بالاتصال يزيد من قدرة الفرد في التعبير عن أفكاره أو حالته المعنوية أو غير ذلك مما يود التحدث عنه.
الخلاصة، أنّ المجتمع الافتراضي أو المدينة الافتراضية لا تزال تتشكل وتضم إلى سكانها كل يوم أعداداً كبيرة من البشر، ويبدو جلياً أنّ هذا الواقع الافتراضي لا يزال يستفيد من الواقع الحقيقي، لكنه، بمرور الوقت يفرض أيضاً سلوكيات خاصة به وسمات يختص بها ويتفرّد بها عن الواقع الحقيقي، وربما سيكون من المهم التعرف على الكثير من المكونات الجديدة لهذا المجتمع مما ابتكر أخيراً من مواقع تضم أفكاراً في التواصل تجمع البصري بالفكري من دون إغفال جانب التواصل، في هذه الزاوية قريباً في إطار محاولة فهم مستقبل المجتمعات الافتراضية ومستقبلنا العربي الذي لا يزال في ذرى واقعيته ونأيه عن العوالم الافتراضية كعوالم للمستقبل لا للماضي أو التراث الذي تجاوزه الزمن.►
ارسال التعليق