• ٢٤ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٢ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

◄في هذا البحث، نتناول الأساس الموضوعي لتشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما نتناول الجذور الفكرية لمشروعية تقييد حرية الفرد، واجباره على ترك السلوك المنحرف، وممارسة السلوك المستقيم في علاقاته الاجتماعية، وفي مواقفه الفردية. وكذلك ندرس الأهداف العامة التي يستهدفها الإسلام من ذلك التشريع.

وفي ما يلي بيان البحث في الأسس الموضوعية التي قام عليها التشريع بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي؛ الأساس الفطري، والأساس العقلائي، والأساس التشريعي وسنتعرض لها بالبحث مفصلاً.

 

الأساس الفطري:

ونقصد بالأساس الفطري حالة تجمّع الأفراد، وتشكيل المجتمع الإنساني. وهي ظاهرة فطرية مارسها الإنسان منذ فجر وجوده على الأرض، وظاهرة التجمّع هذه تفرض قيوداً معيّنة على الإنسان. فلا يتاح له في إطار تجمّعه ان يمارس كلّ سلوك يهواه، فمثلاً لا يمكنه أن يحفر بئراً في الطريق، أو يشيّد داره بصورة تضيّق على جاره، أو يتصرّف بالماء المشترك كما يحلو له. ففي جميع هذه الحالات تُقيُّد تصرفات الإنسان، بصورة لا تؤدّي إلى سلب حقّ الأفراد الآخرين، أو تلحق بهم اضراراً مادية.

وهذا التقييد للحرية الفردية، تقييد فطري، يقتضيه مجرد تشكيل التجمّع الإنساني. ولا يمكن منح حرّية مطلقة لفرد يعيش في تلك التجمعات؛ لأنّها تتنافى مع حقوق الآخرين. وفي هذا الضوء، لو مارس إنسان ما سلوكاً يلحق ضرراً بالآخرين، فإنّ من حقهم منعه من ممارسة ذلك السلوك، واجباره على العدول عنه.

 

الأساس القانوني العقلائي:

إنّ جميع المجتمعات الإنسانية، تضع قوانين خاصّة لتنظيم المجتمع، وتحديد الحرية الممنوحة للفرد؛ وتفرض سلوكاً معيّناً عليه كفرض حقّ الانفاق على الأسرة أو دفع الضرائب المالية، أو تأدية الخدمة العسكرية، أو الالتزام بقوانين المرور والسفر... وما شاكل ذلك من مظاهر وأنشطة سلوكية، تُفرض على الفرد لحفظ النظام الاجتماعي، ورعاية الحقوق المتبادلة بين الفرد والمجتمع.

وهذا منهج عام مارسه العقلاء في جميع مراحل الحياة الاجتماعية من خلال السلطة الحاكمة. وحتى تلك الأنظمة التي تستند إلى قيم الحرية، تمارس هذا اللون من التحديد لسلوك الفرد، إذ توجد ضوابط ومعايير، وحقوق عامة، لابدّ من رعايتها؛ من أجل منع الفوضى، والفساد في الحياة العامة للمجتمع.

إلّا انّ ثمة فارقاً بين مجتمع وآخر، في مساحة الحرية التي يتيحها للأفراد، وحجم القيود، التي يفرضها عليهم. وفق المبادئ الأساسية التي يعتمد عليها النظام. إلّا انّ هذا الاختلاف في تحديد حجم تلك القيود وأنواع الأنشطة، لا يزعزع من قيمة المسار العقلائي، ودوره في التدخل لتعديل سلوك الفرد، أو إلزامه بتنفيذ سلوك معيّن.

 

الأساس الشرعي:

وهو أساس يتميز به المجتمع الإسلامي عن سائر المجتمعات ونقصد به شرعية تدخّل بعض الأفراد في شؤون البعض الآخر، من وجهة نظر دينية. وذلك من خلال وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على جميع أفراد المجتمع، على نحو الوجوب الكفائي، أو على نحو الوجوب العيني. حسب الاختلاف الفقهي في طبيعة هذا الوجوب. قال تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران/ 104). وقال كذلك: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة/ 71). فهذا الوجوب، يشكّل الأساس الشرعي، في التدخّل في شؤون الآخرين، ومنعهم عن السلوك المنحرف، ودعوتهم لممارسة السلوك الحسن.

وإذا كانت المبادئ العامة، التي ينطلق منها ذلك التحديد لسلوك الفرد في سيرة العقلاء، عبارة عن مجرّد تباني العقلاء على معيار سلوكي معين لوجود مصلحة في الفعل، فإنّ هذه المبادئ قائمة في الأساس الثالث وبصورة أكبر؛ وذلك لأنّ الله تعالى مالك حقيقي للإنسان. فله الحق في منح الأفراد ولايةً على الآخرين، في حدود وضوابط معيّنة، كما انّ الله أعلم بمواقع المصلحة الاجتماعية في سلوك الأفراد، وهو الذي يأمر وينهى من أجل المصالح والمقاصد العليا، وتشريعه لازم التنفيذ.

وفي ضوء تلك الأسس، يمكن القول انّ جميع المجتمعات تمارس عملية ضبط لسلوك الإنسان في حدود معيّنة، أي تقوم بتنقيد حرية الإنسان، وإلزامه بسلوك معين. إلا انّ ثمّة تبايناً واضحاً بين دعوة الإسلام للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين السيرة العقلائية التي انتهجتها سائر المجتمعات، في تحديد دوائر نشاط الإنسان المشروع، من خلال وضع القوانين لتحديد سلوك الإنسان. ويمكن ملاحظة ذلك كما يلي:

1-    حدّد المشرّع الإسلامي موارد الأمر والنهي في إطار المعروف والمحرّم الشرعي. أي انّ ما أمر به أو نهى عنه، يمكن لأفراد المجتمع الأمر به والنهي عنه. وتلك الموارد أمور معيّنة ومعروفة من قبيل شرب الخمر والسرقة والكذب والغيبة... إلخ، في حين انّ الأساس الثاني لا ينطوي على تحديدات دقيقة، ومعايير محدّدة للسلوك المقبول والسلوك المرفوض اجتماعياً. إنّ عدم التحديد ذلك قد يجعل سلوكاً كان منبوذاً بالأمس، سلوكاً مقبولاً اليوم.

2-    المشرّع الإسلامي فصل بين العقاب، وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. حيث يجري الأمر والنهي، مع قطع النظر عن استيفاء العقاب الجنائي للفعل، فيجب الأمر بالعفّة لمن يخالف، ولو لم يحاكم قضائياً لسبب من الأسباب، وعادة يكون أفراد المجتمع على اطّلاع بالسلوك المنكر، قبل اطلاع الجهاز القضائي؛ لهذا يسبق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثبوت العقاب على مرتكب المخالفة، بل قد يرتدع الفرد عن الاستمرار؛ نتيجة الأمر بالمعروف، فلا ترفع قضيّته إلى المحاكم القضائية في بعض الموارد. في حين انّ السيرة العقلائية على الرغم من ايمانها بقبح السرقة – مثلاً – لا تحثّ الأفراد على الكفّ عنها. انّها تعاقب السارق على المستوى القانوني، لو ثبتت سرقته.

3-    المشرّع الإسلامي، ألزم أفراد المجتمع بالردع عن المنكر والأمر بالمعروف، على نحو الوجوب الشرعي، ورتّب العقاب على ترك ذلك، في حين انّ السيرة العقلائية لم تصل إلى مستوى إلزام الفرد بالردع، فضلً عن ترتيب العقاب على التارك. بل غاية ما تفعله انّها تمارس ضغطاً معنوياً على الفاعل، من خلال المؤسّسات الاجتماعية؛ من أجل منعه عن الاستمرار في فعل المنكر، وقد يرتقي ذلك الضغط إلى مستوى الردع المباشر – في بعض الأحيان – في حدود قوانين المجتمع.

4-    وضع عملية الردع في صيغة الوجوب الشرعي، يعني مشاركة اجتماعية واسعة لممارسة عملية الردع، وعلى الخلاف من ذلك في ضوء الأساس العقلائي، فإنّه لا يدفع إلّا فئات محدودة – وهي الدولة في غالب الأحيان – لممارسة عملية الردع، في حين يمارس سائر أفراد المجتمع موقف اللامبالاة من جميع المواقف والسلوكيات الفردية.

 

الأساس الفكري لتقييد حرية الفرد:

يعتقد الإسلام بحرية الفرد في تصرفاته ونشاطاته، في ضوء اختياراته وقناعاته؛ لأنّ ذلك يعبّر عن الجانب الآخر من المسؤولية التي يتحملها الفرد في ميدان الحياة من وجهة نظر إسلامية؛ ولأنّ الحرية تعبير أصيل عن نزعة الإنسان في التحرر من القيود. ولا يلجأ الإسلام إلى تقييد هذه الحرية إلا في موارد محددة، كما هو الحال في منع الطفل والسفيه من التصرفات المالية. ومن هذه الموارد إلزام الفرد بالمعروف وترك المنكر، حيث يجبر على ممارسة المعروف، وترك المنكر، على الرغم من ان ذلك خلاف حريته، ورغبته الشخصية. من هنا لابدّ ان نبحث عن الأساس الفكري لتقييد حرية الفرد في هذه الموارد؛ لتتضح حكمة تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما هي ثابتة في سائر التكاليف الشرعية. وفي الواقع، يمكن ان نلحظ ثلاثة جذور يستند إليها وجوب التدخل في شؤون الفرد التارك للمعروف، والفاعل للمنكر، تشكّل الأساس الفكري لذلك التشريع، وهذه الجذور هي:

أوّلاً: الدفاع عن حقوق الأفراد:

إنّ ممارسة السلوك المنكر، أو ترك السلوك المعروف، يمثّل عملاً عدوانياً على سائر الأفراد، كما هو الحال في الاعتداء على الآخرين جرحاً، أو ضرباً، أو اغتيالهم أو حبس حقوقهم. فأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر يمثّلأ دفاعاً عن حقوق المظلوم بصيغة اجتماعية، صحيح انّ للمظلوم الحق في دعوة الظالم إلى القضاء، إلّا انّ الكثير من الأمور يمكن علاجها بأسلوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي يمارسه سائر الأفراد. وهو أسلوب لا يحتاج إلى شروط ومستندات معيّنة؛ لأثبات الحق، كما هو الحال أمام القضاء، كما انّ بعض تلك الحقوق معنوية، كحق احترام الإنسان المسلم وحرمة غيبته.

ثانياً: الدفاع عن القيم:

إنّ ذلك الفعل أو الترك يمثّل خرقاً للقيم التي يؤمن بها أفراد المجتمع، كما لو شاء أحد الأفراد – مثلاً – ارتداء أزياء الكافرين، أو أستخفّ بحرمة القرآن الكريم، فلابدّ من التصدي لهذا التجاوز على القيم لأنّه تَعدٍّ على المجتمع، من خلال الاستخفاف بقيمه ومقدساته.

ثالثاً: منع ظلم الإنسان لنفسه:

إنّ ارتكاب المنكر، وترك المعروف بمثّل في بعض الأحيان ظلماً للفرد نفسه، كما هو الحال في الشرك، حيث وصفه تعالى بأنّه ظلم عظيم، أو ترك الواجبات العبادية كالصلاة – مثلاً – فإنّ ذلك إضافة إلى انّه يفوّت على الإنسان المنافع المترتبة على هذه العبادات، يقوده إلى الهلاك في الآخرة. وحيث انّ المجتمع الإسلامي مجتمع متكافل، بعضه ولي بعض، فإنّه سيتحمل مسؤولية مساعدة مرتكب المنكر، أو تارك المعروف من خلال ردعه، وإرجاعه إلى جادّة الصواب.

 

الأهداف الاجتماعية والفردية:

ثمة أهداف عديدة يستهدفها تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على مستوى المجتمع وعلى مستوى الفرد. يمارس المجتمع مسؤولية تربية الفرد وترشيد سلوكه الاجتماعي والفردي؛ وذلك للترابط الوثيق بين الفرد والمجتمع، فالاهتمام الاجتماعي بترشيد سلوك الفرد، له ما يبرره من وجهة اجتماعية، إلّا انّ ذلك الاهتمام، لا يصل إلى درجة الوصاية والاشراف المباشر على الفرد، إلّا في الحالات التي يعجز فيها الفرد عن ممارسة السلوك المستقيم، فيمارس المجتمع دوره في عملية التوجيه، والتقويم بشكل غير مباشر في كثير من الأحيان، وبشكل مباشر في أحيان قليلة، كما في حالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إنّ عملية التوجيه تلك، لا تسلب حرية الفرد، ولا تعطّل طاقاته؛ وذلك لأنّها تصدر بصورة عفوّية في الكثير من مراحلها وفصولها، وفي جوّ من التفاعل الحر بين الفرد، والمجتمع وعملياته التربوية والتوجيهية.

وعلى ذلك، ينبغي ان ندرس أهمّ الأهداف الاجتماعية التي استهدفها الإسلام من خلال تشريع وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ومن تلك الأهداف:

1-    تنشيط دور المجتمع في تقويم سلوك الفرد:

يستهدف الإسلام إشعار المجتمع بأنّ عليه مسؤولية ملاحظة سلوك الفرد على مستوى وعي ذلك السلوك وينبغي ان نميّز بين المراقبة الاجتماعية للسلوك، التي تعني التفتيش في أفكار الفرد، ومتابعة سلوكه والحرص على التنقيب عن أعماله وأقواله، وبين ملاحظة سلوك الفرد المباشر ووعيه، فالمجتمع غير مسؤول عن التفتيش عن أهداف ونوايا الأعمال الشرعية والطعن على الفرد من خلالها. بل غير مسؤول عن الحكم بشرعية هذا السلوك وعدم شرعيته، انّما هو مسؤول عن وعي السلوك اللاشرعي والنهي عنه، وملاحظة ذلك السلوك الشرعي والأمر بإتيانه وهذا يستبطن فكرة أساسية وهي دور المجتمع الإيجابي في سلوك الفرد. مما يجعل الفرد يتأكّد من سلوكه العام وانّه مطابق مع المعروف.

2-    حفظ القيم:

إنّ تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يضع المجتمع في موقع مسؤولية حفظ القيم الإسلامية حيّة فعالة على الساحة الاجتماعية؛ وذلك لأنّ الفرد حين يعلم انّ مجتمعاً بأسره يرفض الخروج عن إطار السلوك المستقيم، فإنّه لن يقدم على تجاوز قيم ذلك المجتمع. وإذا ساقته أهواؤه إلى ذلك، فإنّه سوف يمارس نشاطه اللاشرعي بعيداً عن عيون المجتمع، وهكذا كلّما ازداد تمسك المجتمع بدوره في حماية القيم، اختفت النشاطات المنحرفة.

وكلّما تراخى المجتمع عن القيام بهذه المسؤولية تفشّت الانحرافات الاجتماعية، وطغت الأفكار الفاسدة؛ وذلك لأنّ الفرد الذي يعيش ظروفاً اجتماعية وسياسية معيّنة ويسعى لتلبية حاجاته وتحقيق طموحاته، يأخذ بنظر الاعتبار مواقف المجتمع من مسألة القيم، ومدى تمسّكه بها وقدرته على حمايتها ويمارس سلوكه الفردي، وخياراته العملية وفق ما يسمح به الموقف الاجتماعي عادة. فالمجتمع الذي يرفض تجارة المخدّرات، أو المسكرات – مثلاً – لا يمكن للفرد فيه أن يسعى للارتزاق من تجارة هذه المواد.

إنّ هذه العلاقة المتفاعلة بين موقف المجتمع من قضيّة حماية القيم، وبين سلوك الفرد ونشاطاته الفردية، توحي للفرد بمفرداته السلوكية، وأسلوب تحقيق طموحاته المشروعة.

3-    الردع الاجتماعي المؤثّر:

يمثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ردعاً اجتماعياً عن السلوك المنحرف تركاً، أو فعلاً، وهذا الردع يتسلسل تدريجياً من النصيحة الهادئة إلى ان يصل إلى الضرب، بل والجرح والقتل، فيما لو أذن الفقيه بذلك، كما هو مذهب أغلب الفقهاء.

وهذا التنوّع في كيفية الردع، يمنح العملية الردعية مرونة كافية في التنقّل ضمن مفردات الردع، إلى ان يكفّ الفرد عن ممارساته جميع أفراد المجتمع، أو الكثير من افراده. وهذا يعني كثافة حجم المشاركة في هذه العملية، مما يجعل الفعل الاجتماعي في عملية الردع مؤثّراً وبدرجة واضحة.

إنّ الصيغة التي اختارها الإسلام في عملية الردع، تجعل تلك العملية ممارسة عفوية يقوم بها أفراد المجتمع كما يقومون بسائر فعالياتهم الفردية بل في غالب الأحيان يكون الرادع أحد الأشخاص القريبين من الفرد المنحرف – كالأب والأُم والأخ والأخت – لأنّهم يحيطون به ويعرفون سلوكه، ومواقفه، وكثيراً ما يحرص هؤلاء القريبون على عودة قريبهم المنحرف إلى جادّة الاستقامة فتكون عملية الردع صادرة من ذات الأسرة والمقربين من الفرد المنحرف. وهذه الطريقة تحقّق الأهداف التي ينشدها الإسلام، وهي نقاء المجتمع الإسلامي وسلامته من الانحرافات.

أمّا على مستوى الأهداف الفردية، فثمة خصوصية يتميز بها النظام الإسلامي، فهو لا يضع التصوّر الصحيح للمجتمع الإنساني وينظم علاقاته ونشاطاته وحسب؛ بل يسعى لعملية بناء الفرد الصالح الذي يستهدي الرسالة في جميع مواقفه وعلاقاته. وذلك من خلال السعي لبنائه فكرياً وعاطفياً، وتنقية المجتمع من نقاط الاثارة والانحراف، وتوجيه المجتمع ليمارس دور التربية والتقويم للفرد. كلّ ذلك يكشف عن عناية الإسلام بشخصية الفرد، وضرورة تهذيبها وتطويرها، وفق المنظور الإسلامي. وفي هذا السياق يبرز تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الذي يعبّر عن ذروة اهتمام الإسلام بالفرد، وضرورة استقامته على المنهج السليم، الذي رسمه له الإسلام في السلوك، وفي العاطفة، وفي الفكر، وفيما يلي أهمّ الغايات التي استهدفها الإسلام من تشريع وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، على المستوى الفردي:

 

الهدف الأوّل: تجنب السلوك المنحرف:

إنّ أحد أسباب السقوط في سلوك الرذيلة هو تشجيع المجتمع للانحراف، من خلال طرح الأفكار المسوّغة لذلك السلوك، ومن خلال موقف المجتمع المعاضد لها أو المحايد تجاهها، فإنّ هذا الموقف والفكر المنحرف، يشكّل المناخ الاجتماعي لنشوء الانحراف واتساعه. فعلى سبيل المثال، لو اعتقدت شريحة من المجتمع انّ السرقة والسطو على منازل الآخرين تمثّل لوناً من ألوان اثبات الذات وتحقيق الانتماء للمجتمع، فإنّ الفرد سيتجه بشكل عفويّ لممارسة السطو لأنّه يرى في ذلك هوّية انتمائه للمجتمع!

إنّ ايمان المجتمع بانحراف طائفة منه عن السلوك الصحيح، لا يمثل اعتقاداً نظرياً فقط، انما يتبعه عملية تقييم للفرد، ووضعه في موققعه الاجتماعي في ضوء ممارساته تلك، وحقّه من الذم والقدح والحرمان، فيما لو مارس السلوك المنحرف، وهذا التقييم الذي يمارسه المجتمع مع كل فرد في ضوء سلوكه، وممارساته الفعلية، يدفع الفرد بشكل لا شعوري إلى تجنّب السلوك الشاذّ؛ لكي لا تتعرّض أهدافه ومكاسبه الفعلية لضربة اجتماعية. صحيح انّ بعض الأفراد لا يعنيه كثيراً هبوط قيمته الاجتماعية، بل ولا يهمه ان يتعرض للضغط المادي والأدبي من قبل المجتمع، لكنّ هؤلاء لا يمثلون الاتجاه العام في سلوك الأفراد، الذين يتحركون على أساس حرصهم على عدم اثارة المجتمع والاصطدام معه. وهو سلوك له ما يبرّره في تفكير الفرد وحساباته لمصالحه الشخصية والاجتماعية.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكشف عن قيمة السلوك المعروف الإيجابية، كما يكشف عن قيمة السلوك المنحرف السلبية للفرد، مما يشكّل اشارة اجتماعية واضحة أمام اختياراته، ليسلك النهج المستقيم، ويتجنب السلوك المرفوض اجتماعياً.

 

الهدف الثاني: تعميق القيم الخيِّرة في شخصية الفرد:

إنّ قوة إيمان الفرد بقيم سلوكية معيّنة، تتصل بحجم اعتقاد المجتمع بتلك القيم في كثير من الأحيان، فالمجتمع الذي يقدّس السلوك المستقيم، سوف يوجّه الفرد وبشكل عفوّي إلى التزام هذه القيم، والالتزام بها، وذلك لأنّ الفرد يتلقّى أفكاره ومعاييره السلوكية من محيطه الاجتماعي، وإذا كنا نرفض ما يعتقده "جون ستيورات مل" من "انّ الخصائص العقلية والخلقيّة التي تُعزى إلى الوراثة هي في الواقع نتيجة البيئة التي أثّرت في الطفل أثناء سنواته الأولى". لكنّ الفرد، يتفاعل مع المفردات الحضارية السائدة في المجتمع ، ويتجّه نحو الاقتباس الواعي منها. وفي الواقع "ان تكيّف الأفكار العملية [للفرد] بمقتضيات البيئة وظروفها، ليس آلياً، بل هو تكيّف اختياري ينشأ من دوافع إرادية في الإنسان، تسوقه إلى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته".

إنّ قيام أفراد المجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يكشف عن مدى اعتقاد المجتمع بالقيم السلوكي التي يأمر بها، وبمدى رفضه للسلوك المنحرف الذي ينهى عنه. مما يوفّر حوافز أكبر لدفع عملية التكيّف الفردي مع السلوك الفاضل، ويعمّق احساس الفرد بالقيم الخيّرة في المجتمع.

 

الهدف الثالث: الكفّ عن السلوك المنحرف:

قد يخطأ الإنسان ويرتكب – عمداً – سلوكاً منحرفاً. وهنا يبرز دور المجتمع في ردع الفرد من خلال التوجيه المباشر للفرد، من أجل ان يكفّ عن سلوكه. انّ تشريع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينطلق من نظرة الإسلام إلى موقع المجتمع ودوره في عملية تربية وتقويم الفرد، حيث لا يكتفي الإسلام من المجتمع بأن يمارس دور الردع في حدود ضيّقة، وبالذات في موارد الضرورة، التي يؤدّي اهمالها إلى فوضى اجتماعية، إنّما يحدد موقعه الردعي بوصفه أميناً على مسيرة الأفراد، وعلى استمرار الحركة العامّة، وفق القيم الإلهية. مما يعني انّ المجتمع يلاحق الفرد في أعماله وسلوكه، وبصورة عفوية، ويقوم بعملية الردع عن التصرفات والمواقف التي يعتبرها الإسلام سلبية.

إنّ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي أناطها الإسلام بالمجتمع من خلال الافراد، وفي تلك المساحة الكبيرة من التصرفات والمعاملات والأنشطة الفردية، على الرغم من انّها تمثّل ردعاً مباشراً عن التصرفات المنحرفة، إلا انّ الفرد لا يشعر بأنّ المجتمع قد صادر حريته، وفرض عليه لوناً من ألوان السلوك، أو فرض عليه ترك سلوك معيّن؛ وذلك لأنّ الإسلام دعا إلى التدرّج في الأمر بالمعروف، والنعي عن المنكر، من النصيحة الحسنة والكلام الهادئ، إلى الزجر في الكلام، ثمّ إلى الضرب الخفيف... وهكذا. مما يفسح مجالاً كبيراً أمام المنحرف ليعود إلى جادة الصواب، من خلال مخاطبة عقله، والابتعاد عن اثارة عواطفه، وجرح شخصيته. كما انّ قوةّ الحضور الاجتماعي في حياة الفرد من خلال أسرته وأقربائه وجيرانه، تصنع مناخاً اجتماعياً عاماً ضدّ السلوك المنحرف للفرد. حيث انّه يجد معارضة دائمية، ومن أطراف متعدّدة لسلوكه، ذلك مما يفرض عليه الكفّ عن ذلك السلوك، والرجوع إلى الطريق المستقيم.

إنّ الفرد قد يجد فرصة لممارسة السلوك المنحرف، إلّا أنّه من الصعوبة الاستمرار بذلك في مناخ المعارضة الاجتماعية، من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي ذلك الضوء يمكن القول انّ استقامة الفرد السلوكية، ترتبط – في غالب الأحيان – بحجم الحضور الاجتماعي في عملية تقويم سلوك الفرد. فكلّما حرص المجتمع على القيام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ارتفع حرص الفرد على انتهاج السلوك المستقيم. وكلّما تراخى المجتمع عن تلك المسؤولية، ضعف تمسك الفرد بالقيم الأخلاقية، وانتشر الفساد في المجتمع.►

 

المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 71 لسنة 1994م

ارسال التعليق

Top